مايزال الإستقطاب الطائفي والعشائري هو الأكثر انتشارا في مسار وتوجهات الناخب العراقي، رغم كل ما واجهه من مصاعب ونكبات وفساد اداري ومالي وتهديدات أمنية وعسكرية لحياة الملايين من العراقيين.. ونود ان ندرج في أدناه أهم الملاحظات التي يمكن تأشيرها كملامح مرحلة مستقبلية لشكل النظام السياسي المرتقب في العراق :
1. ان تشتت الكيانات السياسية وإعادة بعثرتها مرة أخرى وتقسيمها الى كتل وكيانات صغيرة أو متوسطة يخدم هدف الكتل السياسية مرة أخرة في ان يكون بمقدورها اعادة نفسها الى المسرح السياسي لتأتلف مرة أخرى عبر كيانات أكبر فيما بعد ، بطريقة لاتختلف عما شهده العراق منذ سنوات، وربما تتغير الأسماء والعناوين لكن المضمون يبقى واحدا وان اختلفت أشكاله.
2. هناك توجه لاعادة تشكيل الخارطة السياسية في تكتل التحالف الوطني السابق بما يضمن تصدر التيار الصدري والمجلس الأعلى وحصولها على حصة الأسد في الانتخابات المقبلة، وما أفرزته انتخابات مجلس المحافظات قبل فترة يؤشر هذه النتيجة مقدما.
3. ويبقى إئتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي ، هذه المرة ، يتراجع من حيث النتائج التي قد يحصل عليها وان تغيرت مسميات تشكيلاته، لكن أسهمه ستبقى صاعدة ، وهو يتأرجح من حيث الحجم الانتخابي مع كتلتي الاحرار والمجلس الأعلى، وهو يعول على تحالفات مستقبلية للحصول على أصوات تؤهله للفوز بولاية ثالثة للمالكي.
4. يسعى المالكي للحصول على ولاية ثالثة من خلال استمالة اطراف في المجلس الأعلى والتيار الصدري لإقناعهم ان مستقبل التحالف الوطني السابق يقتضي أن يبقى هو على رأس الهرم السياسي ، ويمنحهم مناصب أخرى رفيعة ، مادام قد حصل على تأييد طهران لولايته الثالثة ، كما ان الاميركيين لايعارضون من حيث المبدأ الولاية الثالثة للمالكي، حتى وان أبدوا بعض حالات الانتقاد لسياساته، كونه من وجهة نظر الاميركيين الشخصية الأكثر اعتدالا من بقية التيارات الشيعية الأخرى، مثل التيار الصدري الذي لن تسمح له الولايات المتحدة بأن يتقلد منصب رئاسة الوزراء، فما زالت ذاكرة الاميريكيين معهم غير ودية، ولا يريدون اعادة جناح التطرف في العراق، رغم ان المالكي يمثل عنصر التطرف في الاتجاه الشيعي ، الا انه يلبس ثوب الاعتدال، ويختفي خلف واجهات القانون والدستور ، لتمرير مخططاته وما يريد فرضه من رؤى وتوجهات، وهو في نظر الاميركيين يشكل ( عنصر التوازن ) بين الأجنحة الشيعية، كما ان بعض السنة العرب مازالوا يفضلون ترشيح المالكي لولاية أخرى ، على ان تتولى أجنحة شيعية متطرفة أخرى منصب رئاسة الوزراء، كما انه ليس لدى القيادات الشيعية الاخرى الخبرة لقيادة البلد وفقا لمسارته المطلوبة من قبل الاميركيين، بل ان هناك ربما حتى دول اقليمية في الخليج وتركيا تفضل بقاء المالكي وان هي ترغب في داخلها في إبداله، الا انها ترى فيه ( أهون الشرين) كما يقال لدى العرب السنة.
5. هناك مخاوف لدى السنىة العرب من أن يتسلم رئاسة الوزراء عنصرا شيعيا متطرفا او ليس لديه هما سوى تمرير مخططات طائفته، وهو وان سعى الى الاقتراب منهم، الى انهم مازالوا يخشون عودة الميليشات الى واجهة الاحداث ، فما زالت ذاكرة الكثير من العراقيين لديها المخاوف من أن تتكرر تجربة الميليشيات في العراق مرة اخرى، واذا ما عادت الى واجهة الأحداث فأن العراق لن يستقر له مقام، او تقوم له قائمة.
6. كما ان ايران لاتريد ان تفقد صلاتها الوطيدة مع الاطراف الشيعية بمختلف عناوينها، لكنها في كل الاحوال تبقى تفضل المالكي على رأس السلطة كونه ربما الوحيد الذي يحقق لها قوة مكانة وتأثير كبير لأن تبقى السياسات العراقية متماشية مع رغبات طهران في ان تكون اليد الضاربة في العراق وهي المسيطرة على شؤونه، أما من يحكم فلن يكون هما كبيرا بالنسبة لايران ، بقدر من يعمل على ابقاء مكانة ايران داخل العراق التي تستطيع ان تتحرك من خلالها التحرك على الساحة العراقية وفرض إملاءاتها في الوقت المناسب دون أن تخسر الجميع، في انها تقيم علاقات متوازنة معهم، كون المصلحة تلتقي مع البعض في ان تكون ايران العنصر الداعم لهم في توازنات المنطقة.
7. أما العرب السنة فهم ربما الأكثر خسارة في هذه الانتخابات لأنه لايوجد متغير كبير في معادلتهم السياسية الضعيفة والدعم الاقليمي الضعيف هو الآخر، ولهذا فهم يدورون في حلقة مفرغة ان صح التعبير حتى وان ظهرت بعض الكيانات ذات النفوذ انها المسيطرة على اقاليمهم او محافظاتهم، لكنها لن تخرج كثيرا عن الانتخابات السابقة حتى وان تبدلت المسميات او تغيرت العناوين، وهم قد فقدوا أي أمل بأن يكون القدح المعلى في السلطة أو قيادة البلد مادام الوضع يبقى على هذه الشاكلة وما دامت طهران وواشنطن وقوى كردية هي التي تتحكم بمستقبل العراق وتفرض سطوتها على أجيالهم.
8. ويبقى الجناح الديمقراطي الليبرالي المعتدل هو الأضعف وحصته لا تتعدى الربع أو أقل من ذلك بكثير ، ولن يحصل متغير كبير يخدم هذه الشريحة أو ينصف توجهاتها لطغيان العامل الطائفي والعشائري وحتى القومي في مسارات الاحداث وسير الانتخابات المقبلة، ولن يكون لهم رصيد ذات تأثير ، لكنهم سيحصلون على مكاسب أكثر مما حصلوا عليه في الانتخابات السابقة.
9. أما الكرد فسيبقى الجناحين الكرديين يتحكمان بمصير الأكراد حتى وان حصلت المعارضة الكردية على مقاعد أكثر، وربما تتغير المعادلة لصالح البارزاني والمعارضة الكردية على حساب جماعة الاتحاد الوطني الذين خسروا رصيدهم في الانتخابات الاخيرة وعدها بعض المراقبين انتكاسة كبيرة في تأريخ الكرد.
10. هناك خفوت وعزوف عن المشاركة في الانتخابات المقبلة لدى قطاعات عراقية واسعة من كل الاطياف العراقية، لعدم وجود ثقة لدى الناخب العراقي بالسياسيين والبرلمانيين ومن يتولون قيادة البلد، وهو ما يسمح للقوى السياسية السابقة ان تستمر في الحصول على تأييد لها انطلاقا ربما من قواعدها من الفقراء والمعدومين او من قواعدها التنظيمية، وتحصل على أغلبيات ضعيفة تؤهلها للفوز ولكن بمشاركة ضعيفة جدا كما حصل في انتخابات مجالس المحافظات السابقة.
11. ان الخطأ القاتل الذي وقع فيه المالكي في آخر أيام حكمه هو تحريك ميليشات رعى انشائها أو سمح لها بالعمل أو غض النظر عما تركتبه من فضائع في العراق، والعراقيون يعرفون حق المعرفة انها تعمل برعاية الدولة ، وهي تظهر على واجهة الاعلام وتظهر أنشطتها في أحياء بغداد وفي بعض المحافظات وهي تحمل هويات الدولة ، دون أن يتجرأ أحد على المساس بها ، ما اسقطت المالكي بقية ” مقبوليته السياسية ” وعرضته لانتقادات واسعة سواء من عرب السنة الذين لاقوا الامرين من تصرفاتها أو من الاطراف الشيعية التي وجدت نفسها محرجة هي الأخرى في ظهور هكذا أنشطة ربما تستهدفها هي في دولة تدعي انها تطبق القانون وتفرض سلطة الدولة، بينما الاخيرتين غائبتين تماما الا على مكون بعينه، فهو الوحيد الذي يقع دائما ضحية توجهات دولة القانون أو الادعاء بتطبيق الدستور، رغم ان كل هذه الممارسات تتعارض مع القانون والدستور.
12. كما ان أحد الأخطاء القاتلة التي أخذت من جرفه الكثير عدم استجابته لمطالب المتظاهرين بوقت مبكر وسماحه للأزمة في الانبار وبقية المحافظات أن تستفحل ، ورغم بساطة المطالب الا انه لم تجر الاستجابة لها او تجد اذانا صاغية، بل ربما كانت التهديدات التي وجهها المالكي لساحات الاعتصام عامل زاد الطين بلة ، وتأجج الاصرار على إبقاء هذه الساحات كواجهات للانتقادات ضد المالكي وحكومته، كما وجدت فيها قوى أخرى ضالتها في ان تكون لديها جماهيرية تخدم توجهاتها سواء الانتخابية او الرصيد الشعبي والمكانة ، وبقاء ساحات الاعتصام وعدم تنفيذ مطالبهم المشروعة هي من قللت من مساحة التأييد الشعبي للمالكي وعرضت سمعته الإنتخابية لمخاطر كبيرة ربما لن يسلم من آثارها حتى بعد ان يفوز بولاية ثالثة.
13. ماتزال النخب العراقية شبه غائبة او مغيبة عن مسرح الاحداث، وعادت النخب القديمة التي هي عبارة عن برلمانيين ووزراء وشخصيات سياسية متنفذة تعود الى واجهة الاحداث من جديد وتعيد تسويق نفسها أمام الناخب العراقي، وغياب دور المثقفين والنخب الثقافية ناجم عن صعوبة تحقيق حلمهم في ان تكون هناك دولة مؤسسات يمكن الاهتداء اليها، وما دام الوضع الامني المضطرب وتحكم الجماعات الدينية والسياسية السابقة في مساره فهو يشكل عامل صدمة لاتقنعهم بأهمية المشاركة ، ولهذا سيقى أكثريتهم مستمرا في العزوف أو مبتعدا عن المشاركة في واجهات السلطة المقبلة، لعدم وجود قناعة لدى الكثيرين بجدوى المشاركة، طالما انهم مغيبين تماما عن سلطة القرار وواجهات السلطة.
هذه بإختصار أبرز ملامح المرحلة والنتائج المتوقعات للإنتخابات المقبلة ، وهي مؤشرات يمكن الاستدلال عليها من معطيات التنافس الإنتخابي الذي يتأجج حاليا بعد الإعلان عن التشكيلات المرتقبة للكيانات السياسية التي ستدخل ساحة التنافس على معترك مناصب البرلمان ومن ثم الحكومة المقبلة.