18 ديسمبر، 2024 8:19 م

قراءة في مجموعة قصائد ( وشم الذاكرة ) لوليد حسين

قراءة في مجموعة قصائد ( وشم الذاكرة ) لوليد حسين

العلاقات الدلالية بين محفزات الخطاب و التصعيد اللغوي
مدخل : لعل من ثوابت دراسة مقالنا ، الكشف عن خصائص بنى و أسلوبية قصيدة تجربة الشاعر وليد حسين ، و ليس الغرض من وراء دراستنا قراءة و تقويم مجموعة قصائد (وشم الذاكرة ) في شكلها الانفرادي و النسبي . إن تجربة الأبعاد الدلالية الممتدة في مسار تجربة هذا الشاعر ، هي ما جعلنا و حفزنا إلى قراءة و كتابة هذا المقال حول هذه التجربة الشعرية الثمينة ، خصوصا و إن المسافة الشعرية في فضاء النص الشعري ، وجدناها محفوفة دائما بالوظائف المجازية و الكنائية و الترميزية و الإيحائية المكثفة ، و التي راح يرتقي من خلالها وجود القصيدة لدى الشاعر ، كعلامة صورية باذخة في أبعاد أيقونة المجسات اللغوية الصاعدة و الحافلة بتمظهرات الإيقاعات النغمية الصوتية المتفعلة ، كما وجدنا هذه التجربة من الخصوصية التي أخذت تهيمن عليها قابليات الأداة الشعرية الحاذقة ، فيما أصبحت تتجاوز في موقفها الحالي مجموعة التجارب الشعرية المستنسخة للشعراء ، و التي تصادفنا اليوم من هنا و هناك و بركاكة أسلوبية مدهشة . أقول مجددا إن منظومة العلاقات الدلالية المتوافرة في حيز و متن وحدات الخطاب الشعري إلى جانب وجود الطاقات التصعيدية الخاصة في لغة الملفوظ الشعري ، هي بالنتيجة القصوى ما جعلنا نتخذها كموضوعة ثيماتية في إجراءات أفكار دراسة مقالنا هذا ، مع إضافة بعض من الخصائص الأخرى التي سوف تضمها فروع مبحثية خاصة.

ـــ محورية المستشرف العنواني و حافزية المتصل المدلولي .
إن الخطاب المحتمل في القصيدة ، باعتباره حصرا ذلك المعنى الحاصل بين وحدات دلالية غير متقابلة في إزاحة معنى فواصل المدلول الشعري الكامن في محققات انطباعية و رؤية دليل الشاعر وحده ، بل هو المعنى المتصل بحدوسية علاقة القارىء بالمستويات النصية المتراتبة في وعي المقروء . و من خلال قراءتنا إلى مجموعة قصائد (وشم الذاكرة ) للشاعر وليد حسين ، وجدنا حركية المحتمل في النص هو ما بات يشغل إمكانية التعدد الدلالي للوحدات الدلالية و الخطابية الواقعة في تراتبية جملة المسوغ القولي الكامن و المتصل في تجاذب و جذب محورية المستشرف العنواني لمجموعة القصائد ، حيث نعاين إنطلاقية حال المتصل المدلولي العالق بين الذات المتكلمة و نقطة المرسل إليه ، وذلك يتجسد بفحوى ما قراناه في قصيدة ( أترحل يوما .. ؟ ) :
أترحل عنا ؟
فمن ذا يرى
مَآقٍ عَلِقنَ بنزفٍ جرى
تُكابرُ .. ترنو
بحنوِ اشتهاءٍ ينازعُ وجداً
لكي يَغفِرا
تُغيّبُ رأسَك منذ احتدامٍ
فأقصى حضورَك بعضُ الورى . / ص7

و بهذا المستوى من القول نعاين هيمنة فاعلية التصاعد الإيقاعي في خصوصية لغة الذات الواصفة للحال و الرؤية . إذ إننا نتصور جدلا من جهتنا ، بأن الأفق الموصوف في النص صار يشكل في موجهات الحال المدلولي ، ذلك الإيصال النغمي المتتابع نحو صورة الشرط الاستفهامي المنجدل في وظيفة وحدة الدال الزمنية المحتملة : ( أترحل عنا / نقطة التوازي / علاقة موضوع / استجابة الدال = خلاصة محتمل المدلول = فمن ذا يرى ) و ندرك من حال وقفات النص ، ثمة موقف غدا يتجاوب مع تضافرية شعورية كان قد خصها الشاعر بالدليل الشخصاني و المكاني في لغة محمومة بالصورة الذاكراتية لديه : ( تُكابرُ.. ترنو .. بحنوِ.. اشتهاءٍ .. ينازعُ .. لكي يَغْفِرا .. ) بعد أن تبلغ الصورة الذاكراتية بالمكان و الذوات كل مساحة فاعلية أحوال القول الواصف ، حيث نجد بالمقابل ثمة علاقات دوال الحال تتركز على هذا النحو من التفريد الفاصلي بالتنقيط ( تُكابرُ.. ترنو ) لتجسد ذلك الأفق من البديل الاحتمالي المتخيل ، و الذي أخذ من زمن طاقة التصوير الفعلية أجلى مناداة الحسي بالمكان و الذوات : ( بحنوِ اشتهاءٍ ينازعُ وجداً ) وبهذا التركيز تتابع أيقونة استجابة الانفتاح الاشتغالي بالخارج النصي و المتمثلة ب( أترحل ) لتدخل في حضورية مقترح السؤال المتمعن في مؤشرات حال جملة : ( تُغيّبُ رأسَك منذ احتدامٍ ) إذ إن الصورة الزمنية و الظرفية هنا بالحال ، تبدو من السعة الأكثر تركيزا و تركيبا ، خاصة و إن حالة تواصلية الشاعر مع زمن و حالات المكان الذواتي ، أضحت لنا تقارب تلك الصفة الاستيعابية و اللااستيعابية من معنى مقولة التمهيد في النص ، الأمر الذي جعل من خطاب الشاعر في حالة تراسل اثاري يقارب فيه و من خلاله إشكالية فضاء التخييل المخاطب لوحدات حركية تلك الدوال المكانية و الذواتية في مقترحات مرثية المكان الإجمالية في منطوق تمفصلات ذاكرة النص . و يوغل سؤال مقترح العتاب من جهة الشاعر إلى بث مكنونات عاطفته عبر مشاهد القصيدة ، وصولا إلى هذه المقاطع من النص :

بأيِّ انزياحٍ قطعت َ الطريقَ
وما فعلوهُ ..
تخطّى السُّرى . / ص8
الخطاب هنا يغذي مديات واصلة فاعلية الدلالة العنوانية ، بمعنى ما تقام هنا تمظهرات المعطى الوجداني المرتبط بتجربة الشاعر الذاتية ، و التي راحت من خلالها الصورة الإيقاعية النغمية في تضافر حثيثا لتتجه بالموصوف إلى أقصى حالات تفصيلية المشهد الشعري : ( بأيِّ انزياحٍ قطعتَ الطريقَ ) هذه الجملة من النص ، راحت تتمخض عنها معطيات خاصة بحسية الانفتاح الاحوالي المنجدلة نحو الفاصلة الزمنية المتعددة : ( الخارج / الداخل : العاطفي / المكاني : الانفصال / الخصام ) و تحيل في الوقت ذاته
ــ رمزيا ــ على إيقاع جملة التركيز الاحوالي المتمثلة بجملة المقطع ( تخطّى السُّرى ) . و بهذا المستوى نلاحظ إن الشاعر وليد حسين شديد الألتزام و التنويع في قصيدة الإيقاع المفعلة ، حيث إنه أخذ يربط وقفاته الإيقاعية في حدود تامة من وظيفة استهلال النص ، وصولا إلى وظيفة الأسطر النغمية المتجاوبة في نهايات كل سطر من أسطر القصيدة . و في مستوى دلالة محورية المستشرف العنواني في النص ، نعاين عملية التواصل الدلالي بين موقعية الدال و حافزية التحقيق المدلولي الصائت .

ــ القصيدة الذاكراتية و وشم وظيفة الحال الدوالي .
يمكننا فهم و تشخيص كفاءة ( الفاعل المنفذ ) في مبنى قصيدة مجموعة الشاعر إلى أربعة عناصر : 1ــ وجوب الفعل 2ــ إرادة الفعل 3ــ قدرة الفعل 4ــ معرفة الفعل . / المصدر : سيميائية النصوص . و إذا حقق الفاعل المنفذ في القصيدة الاداء التحولي في دلالة النص ، فعليه أن يملك بعض عناصر الكفاءة هذه . أي بمعنى يمكن لحركية دوال النص إكتساب الفاعل المنفذ للكفاءة الفعلية في عناصر القول المكوناتي في النص ، و عبر كفاءة الفاعل المحور كموضوع قد يفصل أو يوصل بالفاعل ذاته . و تبعا لهذا الأمر نعاين مدى تماثل الصيغة التحولاتية الدلالية في مشروع القصيدة لدى الشاعر ، و هي مقترنة بالفاعل على مستوى من الكفاءة التمثيلية بموضوعة فواعل النص ، و في هذا الصدد نقرأ ما جاء في قصيدة ( ليتدلّى الفرحُ .. ) :

أمطري ..
حبَّاً و قصائَد عشقٍ
ودعي الليلَ
يمرُّ سريعاً
يغادرُ محطاتٍ حافلةً
بالوجعِ . / ص43

ينتظم قول المقاطع في القصيدة هنا ، حول بنية الأداء الفاعل المحوري كنواة تضافرية و حدود عملية صياغة التماثل بالباث الفاعل نحو المرسل إليه كأداة جهة موضوعة اتصال ، و من خلال هذه المفصلية من تحول عمليات بث الفاعل ــ الحالات الكينونة ــ يتحقق في أفق محصلات الخطاب ثمة مخارج من أداة فعل الذات ، كحال قول الشاعر ( أمطري..) هنا يتم تأثر الفاعل ذاته ببعض الجهات التي تؤهله ــ كيفياــ ليتحقق الفعل بحسب إرادة ــ الفعل و بحسب وجوب ــ الفعل : ( ودعي الليلَ) و استنادا لهذا الأمر ، نعاين مشروطية تواجد الفعل المحول ، حيث تشير منه كفاءة الفعل الموجب إلى ذاتية الفاعل المنفذ ، و ذلك انطلاقا من الأداء المحوري المجمل الذي يحرك سلفا وظيفة الفاعل المنفذ في إرادة فعل الفاعل : ( يمرُّ سريعاً .. يغادرُ .. محطاتٍ .. حافلةً .. الوجعِ) إذن قابلية الفاعل المنفذ هنا ، تتم عبر محل فعل الأداء المحور، الذي يظهر في الغالب عبر عمليات الباث الاقناعي الموجب إلى جانب ذروة دوره كمرسل إلى جهة كينونة الحالات المدلولية الواقعة في معطى الحال الشعري .

ــ القصيدة للواقع و رفضه .
نقرأ في مجموعة ( وشم الذاكرة ) ثمة مواقف و مشاعر و أفكار و عناصر حيوية معيشة تقطرة عبر مصفاة ( التصعيد اللغوي ) الأمر الذي جعل من قصيدة الشاعر ، و كأنها مغالاة في معادلات الوظائف المجازية و الكنائية و الاستعارية المفعلة بتضاعيف الأصوات و فاعلية الدوال التي لا يمكن النزول عنها . و عند قراءة قصيدة ( ثمة سؤال ) تتكشف لنا عملية قبول الواقع بصورته الخلافية المرفوضة في الآن نفسه . فالشاعر من خلال موجهات هذه القصيدة ، راح يكشف لنا آلية فضاء الانفتاح الوصفي لديه ، فيما راح يكشف في الوقت نفسه مجالية رفضه المميت للواقع السياسي الراهن في مدينته و تقلبات الأقنعة و اللغات و الهويات فيها :

تضاريسُ المدينةِ
تستغرقُ كلَّ شروخ الماضي
وذكرياتِ الأيامِ الغارقةِ
بالطاعونِ
كرصاصاتٍ طائشةٍ . / ص57

و تتمثل في دلالات المقاطع الأولى من النص ، مساحة تعيين الفواصل الزمنية الماثلة في أفق دلالة بدء الجملة : (تضاريسُ المدينةِ ) لتتحقق من خلالها ديباجة موحيات مدلولها المتصل بمصدرية الخطاب الذاكراتي / الوقائعي ، من سيرة تواريخ هذه المدينة الموبوءة بمؤشرات جملة (وذكرياتِ الأيامِ الغارقةِ بالطاعونِ ) و بعملية الكشف عن بداية تاريخ المدينة ، يتجلى لنا النص الرافض لواقعه و منذ بدايته و حتى شروعه الأخير بوصف مجمل مشاهد المدينة بصور الإحالات الكابوسية إلى مدينة غارقة بتفاصيل علامات الوباء :

بأمتدادِ نعوشِ اللعنةِ
تقيمُ بأسماء مستعارةٍ
نوباتِ الوجعِ المقدسِ
لاشكَ ..
في قيامةٍ تختزلُ الحياةَ
بسمِ الدينِ ..
و كـأنّهُ ممهورٌ بسرِّ الخطيئةِ
العاريةِ
يأخذني الأستغراقُ
دونَ فمٍ ..
أطلقُ الصيحاتِ في سماواتٍ
محجوبةٍ . / ص58

يمكننا ها هنا أن نتلمس عدة علامات ترميزية ، كان قد أعدها ( وليد حسين ) في ثنايا قصيدته : ( بأمتدادِ نعوشِ اللعنةِ ) و هي مقاطع دلالية متحولة أراد منها الشاعر ، فيما يبدو إطالة الإمعان بهوية الواقع السياسي و تحولاته العجائبية ، فيما يشير من جهة أخرى الشاعر ، إلى جهة : ( تقيمُ بأسماء مستعارةٍ .. نوباتِ الوجعِ المقدسِ .. لاشكَ .. في قيامةٍ تختزلُ الحياةَ .. بسمِ الدينِ ) و يبدو جليا إن الشاعر من خلال إحالات نسق صور قصيدته ، كان يسعى إلى كشف عدة وجوه مختلفة في الموارد و المصادر و الهويات ، فهو تارة يلمح إلى هوية الإرهاب و مظالمه ، و تارة أخرى يتبين إنه يلمح إلى ساسة الحكومة في واقع مدينته البائسة ، خصوصا بعد ورود هذه المقطعية اللاحقة من النص :

فالتكبيراتُ تتوالى دون غربلةٍ
تتقاربُ مع آذانِ الحرمِ
المكيِّ
كلّما .. مررتُ أتعكزُ بنصفٍ آيلٍ
للجنونِ
بحبائلَ الشُركِ الأعظمِ
بسبب التخمةِ من الأحزابِ المتأسلمةِ . / ص59

و على هذا القبيل من حسية القيء بوجه الوجود كله من لدن مقاطع دلالات القصيدة . تتضح إن البنية الموضوعية في مجموعة قصائد ( وشم الذاكرة ) ما هي إلا مجموعة بنيات تتلمس حسية المرور لذاتها و عبر بعضها البعض من مكونات و أصوات النص ، حيث لا تختص دلالات النص بموجهات موضوعية ثابتة على صعيد الفكرة و الرؤية و التأسيس ، لذا نجدها كموضوعة شعرية تتناول دلالة الرحيل و الوجدان و القبول و الرفض و الولاء المذهبي الدينية لأولياء الله ، و ذلك بدءا من قصيدة ( أترحل يوما) ، و حتى المنتهى بقصيدة ( يا سيد الجرح ) .

ــ تعليق القراءة ــ
مما لاشك فيه إن تجربة ( وشم الذاكرة ) رحلة شعرية غارقة بالاستدلال و الوقفات الإيقاعية النغمية و المقتربات الاستهلالات الشعرية و التمهيد ، ما يستحق منا تسجيلها في أعلى مراحل القصيدة الإيقاعية المفعلة إجمالا و إشراقا و حضورا . فالشاعر البهي وليد حسين و منذ أعماله الشعرية الأولى التي خصنا بالكتابة عنها ، يشكل بذاته ذلك التفصيل اللامحدود الأفق في سعة المخيلة و فصاحة المضمر الخطابي الشعري العام و الخاص . و اليوم ها نحن في صدد قراءة مجموعة ( وشم الذاكرة ) حيث مساحة بنى دلالات القصيدة ، جاءتنا صورا و أشكالا و إيقاعات تعبر عن مدى ذروية و نضج اللغة التصعيدية و التحفيز الخطابي في مكنون علاقات أفعال الواصلة الدلالية الحاصلة في فضاء و متن القصيدة ، وهي تتجلى بأسمى تعريفات حدود الجمالية الشعرية الاخآذة ، و المؤشرة في كل محطات أهتمامنا على سحر التلقي و المعاينة الثقافية السليمة . وختاما أقول : إن قصيدة عوالم المبدع الموهوب ( وليد حسين ) ما هي إلا مستويات من فاعلية شعرية متينة و ثمينة لها كل الأثر و التأثير و السمو في ذائقة المحايثة الشعرية الهامة في مشغل محفزات فضاء القصيدة العراقية الأثيرة .