بعد تفكك المنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة عام 1990 اعتبر الغرب أن ذلك يمثل نجاحا باهرا ونهائيا للرأسمالية الليبرالية والتي يجب أن يعمم نموذجها على باقي مناطق العالم مترافقا مع العولمة التي تهدف لإلغاء الحدود الوطنية أمام حركة السلع ورؤوس الأموال. لذلك كتب فوكوياما كتابه “نهاية التاريخ”. ولقد نشرت كتب غير قليلة تحلل تناقضات النظام الرأسمالي الليبرالي والمشكلات البنيوية الكبيرة التي يواجهها على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن هذه الكتب “لماذا فشلت الليبرالية” الذي اخترنا تقديم قراءة عنه لمؤلفه باتريك دينين، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدستورية في جامعة نوتردام في الولايات المتحدة، ترجمة يعقوب عبد الرحمن والصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، 483، أبريل 2020. يقع الكتاب في 239 صفحة.
نهاية الليبرالية
في المقدمة التي جاءت بعنون “نهاية الليبرالية” يذكر المؤلف، بأنه يعتقد قرابة 70 في المئة من الشعب الأمريكي حاليا أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ، كما يعتقد نصف السكان أن أفضل أيام بلادهم قد ولت إلى غير رجعة. ويعتقد معظم هؤلاء المواطنين أن أطفالهم سيكونون أقل ازدهارا، وأنه ستتاح لهم فرص أقل من تلك التي أُتيحت للأجيال السابقة. وتُظهر كل مؤسسة حكومية مستويات منخفضة من ثقة عامة المواطنين فيها، وينعكس التشاؤم العميق تجاه السياسة في الانتفاض على جميع الطيف السياسي ضد النخب السياسية والاقتصادية. إن الانتخابات التي كان يُنظر إليها في يوم من الأيام باعتبارها احتفالات عامة منظمة تنظيما جيدا تستهدف إضفاء الشرعية على الديمقراطية الليبرالية، تعتبر على نحو متزايد دليلا على نظام مزوَّر مُحكم وفاسد. من الواضح للجميع أن النظام السياسي مُعطَّل والنسيج الاجتماعي يهترئ، خصوصا مع تزايد الفجوة بين الأثرياء الذين يملكون والمهمشين الذين لا يملكون، ومازال الخلاف العميق قائما حول دور أمريكا في العالم (ص 28).
تعتبر الدعوة إلى علاج أمراض الليبرالية من خلال تطبيق المزيد من الإجراءات الليبرالية بمثابة إلقاء مزيد من الزيت على نار مستعرة. ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
يشارف مواطنو الديمقراطيات المتقدمة على الثورة ضد حكوماتهم، ضد “المؤسسة” وضد السياسيين الذين اختاروهم بأنفسهم باعتبارهم قادة لهم وممثلين عنهم. إذ تنظر الأغلبية الساحقة إلى حكوماتها باعتبارها بعيدة عنها وغير مستجيبة، وواقعة في قبضة الأغنياء، وتحكم فقط لمصلحة الأقوياء. فقد بشرت الليبرالية في مستهل عهدها باقتلاع طبقة ارستقراطية قديمة باسم الحرية؛ ولكن بينما تزيل كل آثار نظام قديم، فإن ورثة أسلافهم المناهضين للأرستقراطية المستبشرين يعتبرون استبدالها نوعا جديدا من الأرستقراطية التي ربما تكون أكثر فتكا (ص 32 ).
حاجج ماركس ذات مرة بأن أكبر مصدر للسخط الاقتصادي لم يكن بالضرورة هو عدم المساواة بل الاغتراب- انسلاخ العامل عن المنتج وما يصاحب ذلك من فقدان أي صلة بغاية وهدف جهود الفرد. لا يحافظ اقتصاد اليوم على هذا الاغتراب ويوسع نطاقة فقط، بل يضيف له شكلا جديدا وعميقا من الاغتراب الجغرافي، والفصل المادي بين المستفيدين من الاقتصاد المعولم عن أولئك الذين تخلَّفوا عن الركب.
علما أن ماركس يشير إلى أن التسوية التي هي حقيقة المساواة في عملية التبادل تنتهي إلى أن تقطع كل علاقة اجتماعية حقيقية بين الأفراد وتجعل العلاقة الوحيدة بينهم هي علاقتهم باعتبارهم أجسادا. هكذا يختزل التبادل السلعي الأفراد إلى أجسادهم بعد أن يلغي وجودهم الاجتماعي بالكامل ().
ويبرز المؤلف القول بأن الليبرالية تركتنا في حالة هشة تكون فيها مجالات الحياة التي يُفترض أن تحررنا خارجة تماما عن سيطرتنا. يشير هذا إلى أن الفرد كان طوال الوقت “أداة” للنظام الليبرالي، وليس -كما كان الاعتقاد- أن الأمر عكس ذلك.
الخطوة الأكثر تحديا والتي يجب أن نتخذها هي رفض الاعتقاد أن أمراض المجتمع الليبرالي يمكن إصلاحها من خلال تحقيق الليبرالية. السبيل الوحيد للتحرر من الحتميات والقوى التي لا يمكن التحكم فيها والتي تفرضها الليبرالية هي التحرر من الليبرالية نفسها.
إن أكبر تهديد حالي لليبرالية لا يكمن خارجها أو بعيدا عنها ولكن في داخلها. تنبع قوة هذا التهديد من الطبيعة الجوهرية لليبرالية، مما يعتقد أنها نقاط قوتها بالذات – بصفة خاصة إيمانها بقدرتها على تصحيح نفسها وإيمانها بالتقدم والتحسين المستمر- ما يجعلها غير قادرة إلى حد بعيد على إدراك أعمق نقاط ضعفها، حتى التدهور الذي تلحقه بنفسها (ص 51-52).
الليبرالية غير المستدامة
تحوم الآن شكوك متزايدة حول ما إذا كان الوعد بالنمو يمكن أن يستمر إلى الأبد. فقد واجهت البشرية القيود التي فرضتها الطبيعة، حيث تصبح تكاليف النمو الاقتصادي لحقبة بلغت قرنين واضحة بصورة متزايدة في التغير المناخي المتسارع اليوم.
انكبت الليبرالية في المجالين المادي والاقتصادي على استنزاف مستودعات المواد الموجودة منذ الأزل في سعيها لإخضاع الطبيعية. وبغض النظر عن البرامج السياسية لقادة اليوم فإن استنزاف مزيد من ذلك هو برنامج لا نزاع فيه. لا تعمل الليبرالية إلا عن طريق الزيادة المستمرة للسلع الاستهلاكية، ومن ثم بالتوازي مع التوسع المستمر لغزو الطبيعة والسيطرة عليها. لا يمكن أن يطمح أي شخص في الوصول إلى منصب في القيادة السياسية من خلال المطالبة بوضع حد للاستنزاف المستمر للطبيعة وضبط النفس.
لا ينجم التوسع في الأسواق وتشييد البنى التحتية الضرورية لهذا التوسع عن “ترتيب عفوي” بل يتطلب الأمر وجود بنية لدولة شاملة ومتنامية، والتي تستلزم بدورها في بعض الأحيان انتزاع الخضوع من المشاركين المتمرّدين أو العازفين من النظام. في بداية الأمر يُبذل هذا الجهد على مستوى الاقتصاد الوطني، حيث يتعين على الدولة تطبيق عقلنة وفرض أسواق حديثة عديمة الشخصية. غير أنه في نهاية المطاف يصبح هذا المشروع محركا أساسيا للإمبريالية الليبرالية، وهي ضرورة يبررها، من بين آخرين، جون ستيوارت ميل في بحثه “اعتبارات بشأن الحكومة التمثيلية” والتي يدعو فيها إلى إكراه الشعوب “غير المتحضرة” على أن تعيش حياة اقتصادية منتجة، حتى لو كان من خلال “إجبارها على ذلك بالقوة”، بما في ذلك من خلال مؤسسة “العبودية الشخصية” (ص 71).
إن الثقافة السليمة تشبه الزراعة السليمة، فهي شكل واضح من أشكال البراعة الإنسانية، الزراعة التي تأخذ في الاعتبار الظروف المحلية للمكان تستهدف الحفاظ على خصوبة التربة على مر الأجيال، ومن ثم يجب أن تتعامل مع الحقائق الطبيعية الموجودة، لا أن تتعامل مع الطبيعة باعتبارها عقبة أمام نيل الشهوات غير المحدودة. تعمل الزراعة الصناعية الحديثة وفق النموذج الليبرالي الذي يتضمن التغلب على الحدود الطبيعية من خلال تبني حلول قصيرة الأجل والتي سوف تترك آثارها على أجيال المستقبل. تشمل هذه الحلول إدخال الأسمدة القائمة على المشتقات النفطية التي تزيد من غلة المحاصيل، ولكنها تسهم في وجود مناطق تفتقر إلى الأكسجين في البحيرات والمحيطات. وكذلك استخدام المحاصيل المهندسة وراثيا والتي تشجع على زيادة استخدام مبيدات الأعشاب والحشرات والتي لا يمكن احتواء اتجاهاتها الوراثية أو التنبؤ بها. واستخدام المضادات الحيوية للماشية والتي ساعدت على تسارع الطفرات الوراثية للبكتيريا، ومن ثم قللت من فائدة هذ الأدوية للبشر. ويعتمد هذا النهج على القضاء على الثقافات الزراعية الموجودة. ويزعم أنه يتطلع إلى المستقبل، بيد أنه عالق في الحاضر بعمق.
في الوقت الذي يتجادل فيه الفاعلون السياسيون الرئيسون بشأن ما إذا كانت الدولة الليبرالية أو السوق هي التي تحمي المواطن بنحو أفضل، فإنهما يتعاونان في نزع أحشاء الثقافات الحقيقية. إذ يعزز كلٌّ من الهياكل القانونية الليبرالية ونظام السوق بنحو متبادل تفكيك التنوع الثقافي لمصلحة ثقافة أحادية قانونية واقتصادية، أو على نحو أكثر دقة، مناهضة أحادية للثقافة، حيث يصبح الأفراد المحررون والمزاحون من تواريخ وممارسات معينة، قابلين للاستبدال داخل نظام سياسي-اقتصادي يتطلب أجزاء قابلة للاستبدال عالميا (ص 98).
يتم تجنب إلقاء اللوم على الفيسبوك باعتباره سببا في تفشي وباء الشعور بالوحدة. ويُذكر عوضا عن ذلك أن الفيسبوك، والتقنيات المشابهة له، قد يسّرت أو حتى مكنت من نزعة موجودة مسبقا تتمثل في الرغبة الدفينة لدى الأمريكيين منذ أمد بعيد في أن يكونوا مستقلين وأحرارا. وهكذا يعتبر الفيسبوك أداة تستثير الشعور بالوحدة من مجموعة أعمق من الالتزامات الفلسفية والسياسية وحتى اللاهوتية. كما يشير ماركي “الوحدة هي واحدة من أول الأشياء التي ينفق الأمريكيون أموالهم لتحقيقها… نحن نشعر بالوحدة لأننا نريد أن نكون وحيدين. نحن جعلنا أنفسنا وحيدين”. ويكتب قائلا إن تقنيات مثل الفيسبوك “هي منتج ثانوي لرغبة وطنية طويلة الأمد في الاستقلال”. تلك الرغبة هي في حد ذاتها نتيجة لإعادة تعريف طبيعة الحرية (ص 116-117).
التعليم
يهجر الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء التركيز على العلوم الإنسانية. ويشعر الطلاب في خضم حريتهم على نحو متزايد بأنه ليس لديهم خيار سوى متابعة أكثر التخصصات عملية، والابتعاد عن الموضوعات التي يمكن أن يجذبهم إليها الفضول الطبيعي المتأصل لديهم، خضوعا لمتطلبات السوق. وليست هناك أي غرابة في أن عدد التخصصات في الإنسانيات مستمر في الانخفاض على نحو كبير.
أولئك الذين هم في وضع أفضل للدفاع عن دور الإنسانيات في قلب العلوم الإنسانية -أعضاء هيئة التدريس- يتحسرون من ناحية على هذا الانهيار، لكنهم ينحون باللائمة على المسؤولين وعلى “النيوليبرالية”. وهم يفشلون في رؤية أن التعامل مع العلوم الإنسانية هو انعكاس أكثر عمقا للنظام الليبرالي أكثر من كونه موقف مقاومة. فشل أعضاء هيئة تدريس العلوم الإنسانية في تحدي الاتجاهات الليبرالية السائدة، فضلا عن مقاومتها، ناتج عن عجز واسع النطاق في التشخيص السليم لمصدر القوى التي تصطف ضد العلوم الإنسانية.
ومع ذلك يلتفت المرء من حوله باحثا من دون جدوى عن رئيس جامعة أو عميد كلية -خصوصا في صفوف النخبة- يقر بوجود مسؤولية كبيرة من جانب مؤسساتهم عن فشلنا وفشل طلابنا أيضا بحسب المؤلف. في نهاية المطاف كان الخريجون البارزون في مؤسسات النخبة في الولايات المتحدة هم من احتلوا الأماكن المرموقة في المؤسسات المالية والسياسية العليا في جميع أنحاء البلاد، والذين كانوا مسؤولين عن التعجيل بالأزمة الاقتصادية. احتل خريجو مؤسسات النخبة أماكن القوة والنفوذ في النظام الاقتصادي للبلاد. ويتساءل المؤلف، ماذا عن هؤلاء الخريجين الذين ساعدوا في تعزيز بيئة من الجشع وخطط الثراء السريع؟ هل نحن مطمئنون تماما أنهم لم يعوا جيدا الدروس التي تعلموها في كلياتهم؟ (ص 138).
إن النظام التعليمي الذي تحوَّل إلى أداة ليبرالية، هو أيضا في نهاية المطاف الخلق المنهجي لأرستقراطية جديدة للقوي ضد الضعيف. ذروة الليبرالية في نهاية المطاف هي مجتمع طبقي عميق، وهي حالة يبدي إزاءها الليبراليون مشاعر الأسى حتى وهم يسهمون بطرق متعددة في استمراريتها، بصفة خاصة من خلال مؤسساتها التعليمية. وهكذا فإن نجاح الليبرالية يعزز ظروف فشلها: فبعد أن ادعت أنها أدت إلى سقوط الحكم الأرستقراطي العائد للأقوياء ضد الضعفاء، فإنها تبلغ أوجها بأرستقراطية جديدة، أكثر قوة، والتي تقاتل بلا توقف من أجل الحفاظ على هياكل الظلم الليبرالي.
الليبرالية وعدم المساواة
هذا هو أكثر الرهانات جوهرية لليبرالية: استبدال نظام غير عادل وظالم بنظام آخر يحافظ على عدم المساواة، والذي يتحقق ليس من خلال القمع والعنف ولكن من خلال الإذعان الكامل من قبل المواطنين، ويستند إلى التقديم المستمر للازدهار المادي المتزايد بالإضافة إلى الاحتمال النظري لقابلية الانتقال ما بين الطبقات.
يواصل الليبراليون التقليديون اليوم تقديم هذه التسوية ليس باعتبارها مقبولة فقط ولكن باعتبارها تستحق الاحتفاء. فبعد قرون من جون لوك، لخص الرئيس جون كندي هذا الرهان بالوعد بأن “مدا مرتفعا يرفع كل القوارب”، وقد ردد صدى هذه المقولة في كثير من الأحيان الرئيس رونالد ريغان. كانت أطروحة لوك تقول إن النمو الجاري والمستمر للثروة والازدهار يمكن أن يكون بديلا للتماسك الاجتماعي والتضامن. كما فهم الليبرالي فريدريك حايك، إن المجتمع الذي يحتض “التقدم الاقتصادي السريع” سوف يشجع بالضرورة عدم المساواة.
يعترف حايك بأن المجتمع الليبرالي سيولد قدرا من عدم المساواة مساويا لما ولده النظام السابق الذي حل محله، أو حتى أكثر من ذلك، ولكن وعد التغيير والتقدم المستمرين سوف يضمن أن الجميع يدعم النظام الليبرالي. إنه واثق بأنه حتى عدم المساوة الضخمة المحتملة – التي تفوق بكثير الاختلافات بين الفلاح والملك- سوف يؤدي على الرغم ن من ذلك إلى تأييد عالمي تقريبا لمثل هذا النظام السياسي والاقتصادي.
بالإضافة إلى مواجهة تناقص احتمالات أن تخلق رأسمالية السوق رخاء متزايدا لكل المجتمع. أثبتت السنوات الأخيرة، منطقا مدعاة للمفارقة داخل رأسمالية السوق – بالتحديد الجهود الدائمة لكبح الأجور إما من خلال أيجاد أسواق جديدة منخفضة الأجور وإما استبدال البشر بالآلات- سوف يختزل بنحو متزايد كل أنماط العمل ما عدا القليل منها إلى الأعمال الشاقة والمهينة. وقد أدى هذا الاعتراف إلى العودة إلى الرهان الأساسي للوك بأن النظام الذي يوفر الراحة المادية، بغض النظر عن اتساع حجم عدم المساواة، وغياب احتمالات النمو والحراك والتنقل بين الطبقات، من شأنه مع كل ذلك أن يرضي معظم أفراد المجتمع. وأحدث التأملات عن المذهب الليبرالي عند لوك هو للاقتصادي تايلر كوين، الذي يعكس كتابه “الوسط قد انتهى” الخطوط الأساسية لحجة لوك. إذ يشير إلى أن الليبرالية والرأسمالية تديمان أشكالا ضخمة ودائمة من عدم المساواة، والتي يمكن أن تجعل أدوقة العصور الماضية يشعرون بالخجل أمامها، فإن كوين يحاجج بأننا في نهاية حقبة فريدة من نوعها في التاريخ الأمريكي، زمن يسود فيه إيمان على نطاق واسع بالمساواة النسبية ومصير مدني مشترك، ودخول عصر نرى فيه بشكل فاعل كيف تُخلق أمتان منفصلتان. لكن كوين يخلص مع ذلك في الفصل الختامي المعنون “عقد اجتماعي جديد” إلى أن الليبرالية ستستمر في التمتع بدعم واسع النطاق (ص 149-151).
يدعي بعض الكتاب أن عدم المساواة العميقة يمكن تخفيفه من خلال تقديم النصح الأخلاقي، بينما يزعم آخرون أن الحكومة يمكنها أن تحل محل المجتمع المدني، وأن تعيد بناء الأسرة التي نزعت الليبرالوقراطية أحشاءها. ينظر كل من الجانبين إلى عدم المساواة بين الأجيال على اعتبار أنه انحراف، بدلا من إدراك أنه إنجاز أساسي للنظام الليبرالي.
وإزاء ذلك يبرز المؤلف حقيقة أن الأرستقراطية الصناعية في عصرنا الحاضر، بعدما افقرت الفئات التي تستغلها تتخلى عنهم في وقت أزماتهم، وتتركهم أمام أبواب المؤسسات الخيرية العامة يتسولون طعامهم. هناك علاقات منتظمة بين العامل والسيد، ولكن لا يوجد ارتباط حقيقي بينهما.
تعمق التفاوت الطبقي
حاجج جون ستيورات ميل بأنه في المجتمعات الأقل تقدما، يمكن أن يكون الاستعباد الخالص للسكان المتخلّفين ضروريا حتى يمكن وضعهم على المسار الصحيح للتقدم التدريجي بدرجة كافية. هذا يعني، إجبارهم على العمل والاهتمام بالإنتاج الاقتصادي أكثر من النشاطات التي ليس لها عائد. ويعقب المؤلف على ذلك بالقول كان مجتمعنا ذات يوم مشكلا على أساس المنفعة للكثير من الناس العاديين، ويتشكل اليوم إلى حد بعيد لمصلحة القلة من الأقوياء.
يُحَّدد مجتمعنا بنحو متزايد من خلال الرابحين والخاسرين اقتصاديا، حيث يحتشد الرابحون في المدن الغنية والمقاطعات المحيطة بها، بينما يظل الخاسرون إلى حد كبير في أماكنهم ويغمرهم اقتصاد عالمي يكافئ النخبة المعرفية راقية التعليم بينما يقدم فتات الخبز لأولئك المنسيين في “الولايات المنسية” التي تقع بين الشرق والساحل الغربي للولايات المتحدة. الاتجاهات التي لاحظها روبرت رايش وكريستوفر لاش منذ عقود مضت، واللذان انتقدا بقسوة “انشقاق الناجحين” و”ثورة النخبة”، أصبحت في الوقت الحالي ذات طابع مؤسسي من خلال الأسرة، والحي السكني، والمدارس، وتُستنسخ من خلال التعاقب الجيلي. يتلقى أطفال أولئك الناجحين إعدادا للدخول إلى الطبقة الحاكمة، بينما يكون أولئك الذين يفتقرون إلى تلك المؤهلات أقل قدرة على توفير الشروط الأساسية اللازمة لدفع أطفالهم إلى المستويات العُليا وأقل معرفة بها (ص 158).
تقييد الديمقراطية
تعتبر الديمقراطية أداة مشرعنة مقبولة فقط مادامت ممارساتها توجد داخل الافتراضات الليبرالية وتدعمها على نطاق واسع. عندما ترفض أغلبيات ديمقراطية جوانب من الليبرالية- كما فعل ناخبون في جميع أنحاء أوروبا الغربية وأمريكا في السنوات الأخيرة- فإن مجموعة متنامية من الأصوات البارزة تنتقد الديمقراطية وعدم حكمة الجماهير. لقد قيمت النخب الأمريكية بشكل دوري إمكانية تقييد الديمقراطية بشدة، معتقدين أن الديمقراطية ستقوض السياسات التي يفضلها الخبراء. أصبح هؤلاء الذين يؤيدون توسيع الليبرالية إلى ما وراء حدود الدولة القومية، ومن ثم السياسات التي تزيد من التكامل الاقتصادي والمحو الفعال للحدود، مناصرين على نحو متزايد لتقييد الديمقراطية. أحد أولئك الخبراء المختصين هو جيسون برينان الذي حاجج في كتابه “ضد الديمقراطية” بأن الناخبين معلوماتهم مغلوطة باستمرار بل هم جاهلون، وأن الحكومة الديمقراطية سوف تعكس أوجه القصور لدى الناخبين في نهاية المطاف. يعتقد الليبراليون الآخرون من ذوي الميول الليبرتارية أنه عندما تهدد الديمقراطية الالتزامات الجوهرية لليبرالية، فقد يكون من الأفضل التفكير ببساطة في وسائل التخلي عن الديمقراطية. وبدل من ذلك دعا برينان إلى الحكم من قبل “إبستوقراطية” وهي نخبة حاكمة تتمتع بمعرفة مجرَّبة لتحكم بكفاءة وفعالية الدولة الليبرالية والرأسمالية الحديثة والنظام الاجتماعي (161-165).
ويلفت المؤلف الانتباه إلى مسألة هامة وهي أن من الغريب، وربما من الخطأ، مناقشة “الكفاءة الديمقراطية” للعامة من الناس في أمريكا، بالنظر إلى أن نظام الحكم الذي صُمّم بوضوح من قبل واضعيه لم يُقصد أن يكون ديمقراطيا. جادل واضعو الدستور والمدافعون عنه باسم القانون الأساسي برفضهم الصريح فكرة أن الدستور سوف يؤدي إلى الديمقراطية. لقد سعوا إلى إقامة جمهورية، وليس دمقراطية. كما كتب جيمس ماديسون في “فدِرِاليست 10”: “من هنا فقد كانت الديمقراطيات مسارح للاضطرابات والمنازعات أكثر من أي وقت مضى: دائما ما وجدت متعارضة مع الأمن الشخصي أو حقوق الملكية؛ وكانت بوجه عام قصيرة في فترة حياتها بمثل ما كانت متسمة بالعنف في موتها. لقد أخطأ الساسة النظريون الذين رعوا هذا النوع من الحكم، بافتراض أنه باختزال البشر إلى مساواة تامة في حقوقهم السياسية، فإنهم في الوقت نفسه سوف يتساوون مندمجين في ممتلكاتهم وآرائهم وأهوائهم” (ص 170).
خاتمة
يستنتج المؤلف في الخاتمة، لقد فشلت الليبرالية لأن الليبرالية قد نجحت. وهي تًصيّر نفسها مكتملة، تنتج الليبرالية أمراضا متوطنة بنحو أسرع وأكثر انتشارا من قدرتها على انتاج حُجب لتغطيتها. النتيجة هي التعتيم المستمر والمنهجي في السياسات الانتخابية والحوكمة والاقتصاد وفقدان الثقة بل بالشرعية بين المواطنين، والتي تتراكم ليست باعتبارها مشكلات محددة و منفصلة يجب حلها داخل الإطار الليبرالي بل باعتبارها أزمات مترابطة بعمق بالشرعية ودلائل مُنذرة بحلول نهاية الليبرالية.
إن “الأزمة التي تواجه العالم الغربي ليست مؤقتة وإنما هي علامة على تغير عميق يشمل النظام الاقتصادي والاجتماعي بأكمله وستكون لها نتائج بعيدة المدى”. تلك هي أطروحة كتاب “حالة تأزم” الذي نشره البولندي زيغمونت باومان والإيطالي كارلو بوردوني عام 2014().
بحسب المؤلف، يجب الاعتراف بإنجازات الليبرالية، ويجب تجنب الرغبة في “العودة” إلى حقبة ما قبل الليبرالية. يجب أن نبني على تلك الإنجازات مع التخلي عن الأسباب الأساسية لفشلها. لا يمكن أن تكون هناك عودة إلى الوراء، فقط تحرك إلى الأمام.
وعلى الرغم من ذلك، فمن المرجح من الدروس المستفادة من داخل هذه المجتمعات أن تنشأ نظرية سياسية ما بعد ليبرالية قابلة للحياة، والتي تبدأ بافتراضات أنثروبولوجية مختلفة اختلافا جذريا، ولا تنشأ من حالة مفترضة للطبيعة أو تنتهي بدولة سوق ممتطيتين للعالم. ومع زوال النظام الليبرالي سوف يُنظر إلى الثقافات المضادة لها باعتبارها ضروريات (ص 196-197).
هكذا نرى على الرغم من أهمية الكتاب في تشخصيه لأزمات النظام الرأسمالي البنيوية في ظل الليبرالية فإن المؤلف لم يطرح بديلا نظريا واضحا ولم يعول على أهمية الصراع الطبقي والاجتماعي في إيجاد هذا البديل ويبدو أنه لا يعد الاشتراكية بديلا قادما للنظام الرأسمالي بكل أزماته المتراكمة.