23 ديسمبر، 2024 7:18 ص

قراءة في كتاب “حكايات الطب والحرب”

قراءة في كتاب “حكايات الطب والحرب”

لعل الطبيب العراقي -بما مرّ عليه من أحداث بلاده القاسية كما مرّت على أبناء شعبه- هو أكثر الأطباء في العالم كتابة في السيرة الذاتية.. حيث صدرت خلال السنوات العشر الماضيات كتبا عديدة تتناول أحداث تاريخية مر بها العراق من وجهة نظر الأطباء العراقيين، الذين كانوا يخدمون في جبهات القتال، أو في مستشفيات بلد وقع تحت نير حصار أقتصادي وسياسي جائر في فترة التسعينيات..وراح بعض الزملاء يكتبون على صفحات التواصل الأجتماعي دون أن يسعوا لأن تكون مقالاتهم منشورة في كتاب.
ولقد وجدت كتاب الزميل الطبيب العسكري يوسف حنا والموسوم ب ” حكايات الطب والحرب” من كتب السيرة الذاتية المهمة والتي تتناول أحداث حرب عقد الثمانينيات من القرن الماضي بين العراق وأيران، وآثار فترة الحصار على العراق في التسعينيات وما تركته من نتائج على المستوى الأقتصادي والصحي والنفسي والأجتماعي للوطن ولشعبه. ثم أن الطبيب العراقي كان قد عانى من حملة الخطف والأغتيالات التي طالت العلماء في فترة ما بعد 2003.. مما أدى الى هجرة الكفاءات العلمية والطبية بالذات من البلد حيث بلدان العالم المختلفة..حتى بلغ عدد الأطباء المهاجرين ما يزيد على العشرة آلاف طبيب ومن مختلف الأختصاصات والدرجات العلمية..
وكتاب “حكايات الطب والحرب” للدكتور يوسف حنا والصادر عن دار المثقف للطباعة والنشر في بغداد، والذي جاء على 176 صفحة من القطع المتوسط، أنما هو أحدث كتب السيرة الذاتية التي أعتمدت وقائع الأحداث، وحقائق التاريخ دون أضافات ولا أستنتاجات من صنع الخيال.. فجاءت الحكايات صادمة وواقعية، لتعبّر عن طبيعة الظروف التي تتجاوز أحيانا قدرة الأنسان على التحمّل. وهي ظروف فرضت نفسها على الطبيب الذي وجد نفسه في أتون حروب متتالية ضمن مجريات تاريخ لا يرحم.
أما الكاتب الطبيب فهو الذي تخرّج من كلية الطب بجامعة بغداد عام 1978 ليتدرّج في الرتب العسكرية طبيبا، حتى وصل الى رتبة عميد طبيب بعد 25 عاما من تخرّجه، حيث أختص بالطب النفسي. وعليه فلابد للقاريء أن يقرأ الكتاب بجزأين: جزء أول حكى فيه المؤلف عن الشباب والطب والحرب (23 حكاية)، وجزء آخر راحت فيه الحكايات تترى (12 حكاية) عن تجربة طبيب نفساني في عيادته الخاصة ببغداد، مع مرضى تأزمت عندهم حالات نفسية مرضية، فلجأوا الى الطبيب يبحثون عن الشفاء ولو بكلمة طيبة.
وقد وضع المؤلف صورته الشخصية في صفحات الكتاب الأولى وهو بزيه العسكري كملازم طبيب ليقول “لقد تربينا على مبدأ من يتعب يلعب.. فتعبنا وتعبنا لكن واحسرتاه لم يأت اللعب الموعود ليكافيء تعبنا!”..وحتى يؤكد لقارئه حقيقة ما ذهب أليه، حكى له عن القنبلة التي سقطت على دار الأطباء في مستشفى كركوك العسكري أيام الحرب الأولى في الثمانينيات حيث كان، ولكنها لم تنفجر، فدخلت جهاز التبريد ساكنة، حتى تم العثور عليها بالصدفة..!. كما حكى عن أريحية جندي مكلف ما ينفك يقص الطريف من حكايات، ويعلق بالتعليقات المرحة في الأوقات العصيبة.. وذلك في قاعة بنيت من الطين، وحوّلت الى موقع لأسعاف أصابات الحرب في مفرزة طبية أمامية في قاطع الخفاجية عام 1981.. (بدأت الحرب العراقية-الأيرانية عام 1980). وفي حكايته عن وحدته الطبية على ضفاف هور الحويزة وعلى مشارف مدينة البسيتين في جبهة العمارة، يفصّل المؤلف في سر الصورة التي أختارها غلافا لكتابه.. فيقول: “أننا كنا نقدم الأسناد الطبي لوحدات اللواء المدرع 35 من الفرقة المدرعة التاسعة، وكان الموقع الذي وضعونا فيه يتعرض لقصف الهاونات من قبل متسللين بين آونة وأخرى..حيث سقطت قذيفة الهاون على وحدتنا وأصابت أحداها منام الأطباء.. فأخذنا أنا ومحمد (زميله) أحد الدواشك المقصوفة، وتمددنا فوقه، وأخذنا الصورة للذكرى وكأننا في نزهة في فينسيا..!.
وهكذا تتواصل الحكايات حتى تقرأ “صور من المعركة”..الحكاية المؤلمة حد الصمت.. والموجعة حد البكاء.. حيث جثث الشهداء، والتي كان من ضمن واجبات الدكتور يوسف حنا أن يفحصها ويصف موضع الأصابات عليها..ويبحث في جيوب كل شهيد عما يدل على أسمه..وها هي سيارة النقل العسكري تأتيه محملة ب “أكوام اللحوم البشرية المتعفنة والمتخشبة”.. فهي جثث جنودنا التي تم جمعها من ساحة المعركة بعد أستشهادهم بثلاثة أيام.
نعم.. يكتب المؤلف بلغة بسيطة شفافة مفهومة…ولكنها عنيفة أحيانا بعنف الأحداث التي تحكي عنها..وهي لغة بالتالي نابعة من قلب أنسان كبير، وطبيب حريص على تأدية الواجب بأمانة.. فتدخل الحكايا قلب القاريء المتلهف للتفاصيل، ليفهم حقيقة ما جرى في زمن صعب مرّ على العراق.
ثم أن المؤلف حرص عبر حكاياته ال 35 والتي ضمّها الكتاب، على أن يكون بينها الطريف واليسير الوقع والغرائبي أحيانا، وخاصة في حكايات مثل “من وحي الكورونا” و “الحاروكة”.. وحكاية “حكيم عيون في الجبهة” “والدكتور مازن صبري..للضحك فقط” و “جرحك وسام على صدورنا”..و “عندما زعل عليّ السيد النائب”.. وصولا لبعض حكايات الجزء الخاص بعيادة الطب النفسي ومنها حكاية “عندما دخلت الفياغرا الى العراق”..
لقد أحسن الزميل العميد الطبيب يوسف حنا بنشر كتابه “حكايات الطب والحرب” والذي يقرأه القاريء فلا يملّه، بل يعود أليه مرة بعد مرة..
ولابد بعد ذلك من القول أنه من خلال التوثيق لوقائع التاريخ، نتمكن من فهم الدروس والعبر، والتي لابد من أن تعمل عليها الأجيال لخير الوطن والأنسانية.