( فاعلية القراءة تروج المعنى الآخر )
لاشك أن القارىء لقصيدة ( القربة على الصحراء ) للشاعر طالب عبد العزيز لربما سوف يتفهم بشكل فوري مدى اشتغالية آلية هذه القصيدة عبر تناوبية تفاعلية متداخلة بين المد الانفتاحي للمكان ثم انسراحه الأحوالي من خلال حالاته المتصلة اتصالا حيويا نحو مساحة معادلة توصيفية توافقية راح الزمن الشعري من خلالها يقترح لمشاهده العابرة الآنية ثمة فضاءات حركية لدوال أخذت تتمكن فيه من تدوين متخيلاتها اللاقطة لأدق مجالات الأنفاس و الهمسات و التركيز و الأحتمال .
نقطة على البرية ، بين سوق الشيوخ و البصرة
قرب مسجد بمنارة ، هي الأطول في الريح
من هنا يتداخل الأفق المكاني ارتباطا موقعيا لاستجابة ما تحتمل صوريا ألتقاط الحالات و المشاهد التي راحت تصل عين الشاعر بوسائط تناوبة متداخلة بين الانفتاح على نافذة دال ( القربة) و بين فضاء مفاصل الموضعية الجغرافية في دليل ( الصحراء ) لذا فأن المعاينة القرائية راحت تتبع بمعنى ما ثمة قطبين يتجاذبان صناعة البديل الأحتمالي و مساحته الكتابية الوصفية و على نحو راح يجعل من حركية الدال في بؤرة النص كما لو أنه عبارة عن مقولة تمهيدية لجولة أخرى تستكمل حلقات المتن النص و تستظهر
استجابته التحاورية إزاء دلالة جملة ( يتوقف الجنازون بها ) و تبعا لهذا الشكل من معادلة المسار التصوري الذي يبدو أكثر عمقا و تكثيفا و تركيزا وصولا منه الى خطية أفق دلالة الصفة الأستيعابية في الخطاب و التي من وراءها نهجس مدى انفتاح عدسة كاميرا فاعلية التركيز لدى الشاعر وهو يستثمر خطوات المكان الزمنية تمكينا لظاهرة عتبة ذروة العنوان ( القربة / الصحراء ) بعد أن تبلغ الصورة السردية الوصفية مبلغها في إثارة اشكالية ( الخارج / الداخل ) و ( الواقعي / الذهني ) و ( المصور / المتخيل ) و بهذا التركيز اللحظوي الخاطف من ثراء موجودات مسارية الحالات عند الشاعر ، نعاين حدود الدالين المتضايفين للعتبة العنوانية ( القربة + الصحراء ) بيد أنهما راح يشتغلان بخصوصية عالية التمركز في بؤرة تمفصلات دليل الموضوعة التي هي الأخرى أضحت لنا بوابة مؤدية نحو تجليات الفعل القولي داخل صفات مسيرة الحكي في القصيدة .
( الأشياء تعيد أنتاجها في الداخل المنزاح )
تبدأ القصيدة بفعل توصيفي ينقله لسان الراوي عن الآخر المكاني (نقطة على البرية ) و حيث لا يكتفي الراوي الشعري بنقل الآخر المكاني الذي يحتمل ان يكون قوة تصويرية حادة و وضعية من وضعيات الزمن القناعي الذي يتضمن توجه ما نحو حاضنة تشكيلية ما من شأنها أولا إحالة التدليل التصويري ثمة فتحه على فضاء تداخل ( قرب / بعد ) حالات الأشياء . و حين ينفتح الدال الأستنتاجي البيني بجملة ( بين سوق الشيوخ و البصرة ) يتم العمل الأفهامي القرائي بأن واقعة ( القربة على الصحراء ) تتضمن طاقة استشرافية في دعم محاور الدوال الكامنة في نشاط حالات الأشياء
وهي تعيد أنتاجها في الداخل المنزاح . أي بمعنى ما نلاحظ بأن أساس دال ( القربة ) في بناءها الأنشائي توفر لدى قراءتها حالة من الاستنتاج الأحتوائي و الاستقبال . وما أن يدخل مدلول (الصحراء ) حتى يتضح لنا بأن مستوى ذلك الأحتواء الطرقاتي الكامن في جوف ملفوظات الحال ( مسجد بمنارة / يتوقف الجنازون بها / هي الأطول في الريح ) هنا يتضاهى و يتعامد و يتوازى حقل دوال ( القربة + الصحراء + النقطة + البرية + بين = منارة = الريح = البرهنة على فروض فضاء الزوال و الموت معا ) . لذى فأن المراد الاستفهامي و الأستدلالي في مسار دلالات و مشاهد ( القربة الصحراوية ) لربما يستهدف الشاعر من خلالها حالة حصولية ما ناتجة من وراء جدلية تقارب الأجواء و الكينونات التي راحت تشتغل بالتقاط فاعلية الخارج و الداخل معا كقول الشاعر اللاحق في القصيدة .
صاعدين الى النجف
أو قادمون منها ..
أن المحورية الشعرية هنا لا تستهدف حصولية الإجابة حول طبيعة ذلك التجوال في دائرة مصور فضاء البرية ، بل أنما يتركز حول المعنى ( الفنائي ) في تجليات بواطن ذلك الخطاب الوصفي : (القربة ـــ الصحراء ـــ قرب مسجد بمنارة ــــ هي الأطول في الريح ـــ الجنازون بها ــــ الى النجف ـــ أو قادمون منها = دلالة استمرارية الصفة الفنائية = الموت = الرجوع = الى تخوم نقطة الصحراء = الجنازون =القربة ) و ما يتمخض لاحقا عنها من
طاقة تصويرية توصيفية تعبر عن تحاور الأمكنة الجامدة (طريق مندثر للحجيج / و مطعم صغير / يخرج يتيما من ضلع المسجد / واجهته خشب و زجاج يتصدع دائما ) الخطاب هنا يتوقف لألتقاط ملامح الرجوع من مدينة النجف وذلك ما يتمثل بقول الشاعر الأستدراكي و الأخباري بالعودة ( أو قادمون منها ) أو يجوز أن يكون وصف الشاعر قد جاء على نحو الصعود الى ( مدافن الأموات ) في وادي السلام . على أية حال لا فرق بين الأمرين سواء أن كان صعودا أو نزولا لاسيما و أن طبيعة المكان و الزمان غير مؤشران و محددان في كائنية المعطى الحسابي للزمن و المكان لدى الشاعر . و ما هو أهم من ذلك هو ناصية اداة الصورة اللحظوية الخاطفة التي في عداد آلية الصور و المشاهد و الأحوال الأحتمالية في مقياس نشاط الأبصار بعوامل الزمكانية الصحراوية وما تعبر عنه صورة القصيدة من حدية وضعيات الأجواء الفنائية فيها . ويقودنا هذا الأستنتاج الى اكتشاف ثمة فضاء مباشر موصوف يحيل بمستوى رمزي معين على فاعلية احتواء هذه المغايرة و الانزياح الذي خضعت له بنية الدوال بتركيبها اللفظي و انتاجها الدلالي .
يأخذ صاحبه اللحم طريا من الرعاة .
في المطعم الذي تزاحمه البيد من كل الجهات
يتبادل العابرون الدموع و الضحك
و النعوش الفارغة .
و أمام هذه اللحظة الترقبية البانورامية التي تقودنا نحو تمظهرات الإثارة في مشهد دلالة ( اللحم طريا من الرعاة ) حيث يساورنا المحتمل المؤول بأن نقطة هذه البرية ( القربة على الصحراء) ما هي إلا فضاء و مسرح ترقب النعوش العائدة و الصاعدة نحو مقبرة النجف . و أمام قراءة تراجيديا دلالة ( اللحم طريا / الرعاة ) لربما تساورنا مشهدية و أحتمالية و مؤول طراوة لحم الأجساد البشرية في جوف تلك النعوش المترقبة لحظة دفنها البرزخي على أيدي (حفاري القبور= الرعاة ) وعلى النحو الذي يضع الأشياء في نصابها المخالفة احتمالا و التباسا و إثارة . أي بمعنى ما لم لا تكون مستوى انعكاسية مصورات الشاعر على النحو الذي يجعل من صورة ( ضلع المسجد ) بمثابة المؤول ( البرزخي ) أو بمثابة العين الفنائية المراقبة لمشهد تلك النعوش الحاملة لجثث الموتى و المتهيئة للدفن في أرض القربة الصحراوية الأخرى . و على النحو الذي يكون فيه الرعاة هم من أهل حفر القبور لمحمول تلك النعوش.
يتسامح الرعاة مع اضحياتهم
فيما العشب لا يزال أخضر على ألسن النعاج .
إلا أن فاعلية دليل الحكي ما تلبث أن تخرج بمعيق اشكالي يضع دلالة ( الرعاة ) في صورة المتعاطف إزاء ( اضحياتهم ) لاسيما وترقب منظر العشب الأخضر على ألسن النعاج .أن الشاعر راح يسعى في هذا المنحى نحو فاعلية تفتح السياق الصوري على فسحة تأمل آخر إلا أنها تنتقل في الوقت نفسه نحو فاصل تواصلي أحادي المعنى و القصدية . فالرعاة تتسامح و تتعاطف إزاء ( اضحياتهم) و حفاري القبور تتلقف الجثث الى جوف القبور بليونة و برقة
وحذر أيضا . و الرعاة يشاهدون العشب الأخضر على ألسن النعاج فيما يشاهدون حفاري القبور ذوي الجثة وهم ( يتبادل العابرون الدموع ) .
( تعليق القراءة )
يتجه الشاعر في سياق معين ومهم من سياقات كتابته الشعرية لقصيدة ( القربة على الصحراء ) الى منطقة القراءة المفتوحة على التأويل و الأحتمال المستمر حتى حدود لحظة الإقفال اللغوي و الصوري :
فالبطحة قربة ،
لا تبعد عن الغراف طويلا
وهي منذ ألفي تصر من
مقيل الرعاة .. سلوان الريح
مفازة العائدين من النجف
مبكى القادمين من البصرة
وفي الأخير لابد لنا من القول بان هذا النوع من القصائد الشعرية لا تقدم نموذجها الاحوالي المحمول في موضوعة النص دفعة واحدة أي بين القصيدة و تشكيل فعلها . أي بمعنى ما أقول أيضا أن من المحال أن تكون رؤى النص عبارة عن صورة تذكارية جامدة راح يصف من خلالها الشاعر أجواء بقعة برية بطريقة الرحال الوثائقي الغاطس بمقرراته وصوره الفوتوغرافية حول
محض أحساسه العابر ببريق هذه البقعة الصحراوية الرابطة بين البصرة و سوق الشيوخ . قد يبدو لنا الأمر إجمالا و تفصيلا من العبث و الفراغ لو كانت فضاءات القصيدة مقتصرة في حدود شفراتها على هذه المواطن الطرقاتية و الجغرافية الظاهرية وحدها ودون الإضافة الحقيقة و القصدية من الشاعر في دعم القصيدة في غير دلالاتها الظاهرية أي بمعنى ما ولوج المعنى الشعري نحو محاور الآخر من الإيحاء الشعري في المقصود الشعري الآخر .