17 نوفمبر، 2024 9:35 ص
Search
Close this search box.

قراءة في قصيدة الشاعرة اللبنانية : جميلة مزرعاني – مصيدة الحلم الرّماد .. تلّ الزعتر

قراءة في قصيدة الشاعرة اللبنانية : جميلة مزرعاني – مصيدة الحلم الرّماد .. تلّ الزعتر

كريم عبدالله
(( تلّ الزعتر , الجرح الذي لنْ يندمل , والذاكرة الحيّة ))

قراءة في قصيدة الشاعرة اللبنانية : جميلة مزرعاني – مصيدة الحلم الرّماد .. تلّ الزعتر .

رغم صعوبة انقياد القصيدة السرديّة التعبيريّة , وصعوبة كتابتها بالطريقة النموذجية , ها هي الشاعرة اللبنانيّة : جميلة مزرعاني , تعشقها وتُخلص لها , فتتخلّى عن الوزن والقافية , وتكتبها على شكل سلسلة مترابطة بفقرات نصّية متوالية , لتعبّر عن هواجس النفس الإنسانية الدفينة , وعمّا يحدث في أعماق الروح , لتُثير المتلقي وتجعلهُ يقفُ أمام طوفان لغتها مندهشًا متحيرًا قلقًا , ها هي تكتبها على شكل كتلة واحدة متراصّة , وبدون تشطير أو فراغات بين فقراتها النصيّة , ولا تترك نقاطًا بين هذه الفقرات , ها هي تكتبها بالجُمَل المتوالية وتبتعد كثيرًا عن السرد الحكائي القصصي , كتابة متواصلة تمتاز بكثرة الصور الشعرية , والمشحونة بزخم شعوري عنيف , والتشظّي , والمزاوجة ما بين النثر والشعر , فكل جملة فيها عبارة عن سطر شعري ثريّ محمّل بالكثير من الدلالات والرؤى والرموز , فكما نعلم بأنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة ليست قصًّة كما يتصورها البعض متوهًّما , ولا حكاية تمتلك ثيمة وتسلسل حكائي , ولا حتى تحتوي على تطور حدثي , تتابع فقراتها وتتوالى .

وبالعودة الى قصيدة الشاعرة (مصيدة الحلم الرّماد .. تلّ الزعتر ) , نرى ونتلمّس بوضوح مقدرة الشاعرة وهي تتكئ على الذاكرة الحيّة , وتتحايل وتحاول جاهدًة أن تلمّع الأحداث المخزونة بعيدًا في ذاكرتها النشطة , وتسكبها على مساحة كبيرة في نسيجها الشعري هذا , وتسكب كلّ ما يجول في ذاكرتها على شكل لوحة طريّة بزخم شهوري وحسّي وخيال بديع صادق نابع من قلب رقيق عاشق للحياة والجمال , فلقد اختمرت هذه المحنة في روح الشاعرة , فتدفقت سيلًا عارمًا من المشاعر المجروحة والأصوات المبحوحة . من خلال عنوان قصيدة الشاعرة , نرى وكأنّ الشاعرة تتمنّى لو أن ما حدث كان مجرد حلم وينتهي حالما تستيقظ الذات , لأنّ هول الفجيعة كان عبارة عن كارثة انسانية مازالت وستبقى عالقة في الذاكرة , وهذا يُنبّئُ عمّا حدث , وما تركه في أعماق الذاكرة , فتبدّا الشاعرة قصيدتها بهذه اللغة القاموسيّة والمشتملة على / الموت / , فهي تقول / روائح الموت الكريهة المنبعثة من سراديب التاريخ تنفث إشعاعاتها السّامّة في اتوف الحاضر / , فهي تحاول ان تربط الماضي بالحاضر مستهلّة هذا التشظّي بـ / دوّي صرخات يتسرّب من كوى ذكريات حروب آنفة الذكر / , فنحن اذا امام دوّي صرخات تستغيث , وتتشبّث بالحياة من / مطر القنابل المنهال على عزّل لاذوا الهدوء في هدنة قصيرة / , فهي ترسم لنا صورتين مختلفتين متناقضتين ما بين / الحرب / والسلام / , بين انسان أعزل يبحث عن الامان , وبين أنسان يحمل السلام ويحاول إزهاق الحياة , لا لشيء سوى الطائفية المقيته , والقتل على حساب الهوية والمعتقد والدين , فها هي / ملامح وجوه تتلظّى خلف جدار الرعب / , و / نشيج النوارس ينعق فوق يمّ الأشجان / , وترسم لنا صورة مأساوية اخرى متّشحة بالقُبح والبشاعة / اسراب يمام تنوح عند أطنان جثث قضت تحت الأنقاض وتعفّنت جزئياتها المتناثرة / , وتتساءل الشاعرة وهي تغوص في بحر من الألم / لست ادري لِمَ أخذتني الذاكرة الى هناك صوب بؤر الموت الرخيص / , حيث فقد الانسان إنسانيته وهو يقتل وببشاعة الروح المسالة والآمنة بوحشية لن تُنسى ولن تنمحي من الذاكرة , ان الشاعرة تتكئ على ذاكرة حيّة , لتروي للأجيال القادمة حكاية ألم وبشاعة روح , فهي قد غرفت من ينابيع ذاكرتها كلّ هذا التشظّي , وسطّرت لنا هذا الوجع والابداع , لقد كانت ذاكرتها ذاكرة شاسعة احتوت تفاصيل كثيرة لمحنة الانسان في هذه البقعة من الارض , لقد دخلت هذه المحنة في مختبر الذاكرة الحيّة , وخرجت لنا بكلّ هذا الابداع والجمال , فها هي تقول – ترسم لنا ذلك عن طريق هذا المقطع النصّي المخيف / حيث بيعَ الخُلق بمزاد العهر المستورد لإبادة جماعيّة عربد فيها شبح الظلم الخبيث / , فرياح الذاكرة كلّما هبّت في أعماق الذات الشاعرة , مطرت مطرًا غزيرًا , وكلّما كانت المحنة اشدَّ إيلامًا , كان نسيجها الشعري أكثرَ وضوحًا وعنفًا و فهي تقول مستحضرة الماضي و في عملية استرجاع موفّقة وذكيّة / يقتلني منظر عمّتي المسكينة تقضي عند باب المخيّم تصنع أقراص الحلوى بدقيق الغدر الحاقد لتحمي صغارها الجوع الكافر / , صورة ملطّخة بالعار والعُهر واللاإنسانية , فكأننا نقف مع / عمّتها / ونحن نرى ما يحدث ويجري أمام أعيننا , فتضاريس الزمن تركت أخاديدًا عميقًة في ذاكرة الشاعرة , لمْ تتمكن رغم مكرور سنوات طويلة على الفجيعة ان تمحو بعضًا منها , فهي تصاحب وعي الشاعرة , فالذكريات المريرة تتدفق رغمًا عنها , وتنفلت من سريرها الراقد في الذاكرة لتعبّر بصدق عن ذاكرة حيّة متجدّدة , وترسم لنا بعد ذلك صورة اخرى لـ / إمرأة في عمر الورود تقطف عن وجناتها باقات الزهر يلثمك عطره الشجي وأكفّ ممتدّة للعطاء تسكنها طيبة لا متناهية قلّ نظيرها / , لقد تراك الألم في ذاكرة الشاعرة الى حدّ الانفجار , ولولا الكتابة لترك هذا الألم بصماته في روح الشاعرة و وانا على يقين بأنّ روح الشاعرة قد اصابها الكثير من الوجع المملوء بأبشع الذكريات التي رافقت ذاكرتها , وهي المرأة التي / احتلّت قلوب مَن عرفها عن كثب شاء ان تتربع على عرش الشهادة يتشظّى جسدها النحيل اشلاءً مبعثرة تؤاخي الجدران / , أنّ الشاعرة هنا تعبّر بصدق عن الحياة وحسّها كما هي حياة متشظّية وملتهبة في ذاكرتها , وأنّها كذلك متشظّية وملتهبة من خلال لغتها المثيرة والمدهشة , انّ المكان حاضر وبقوّة , ويحتفظ بالكثير من الذكريات المريرة , فكل ما في هذا المكان ينطق ويؤرّشف لمحنة إنسانية حدثت فيه / بيروت / هذا الوجع الذي لا يريد ان ينتهي , لقد كانت الذاكرة الحيّة لدى الشاعرة هي المنبع الحقيقي لتدوين هذا الوجع المزمن و ورسم صورة الانسان المنكسر والمخذول , صورة حيّة لأنسان آخر تعرّى عن إنسانيته , فتقول / ما استطاع أحد أن يلمّ تثار هامة نديّة كالزنبق فلا مدافن في حروب ضروس ! كلّ الحسرة على صباها تمرّغ برائحة البارود النتنة / , أن القضايا الكبيرة والمهمة تبقى عالقة في ذاكرة الشاعرة , وقصيدتها هذه تؤرشف ما مرّ في الماضي , لا تنمحي من الذاكرة مهما حاولت الذات ان تنسى او تتناسى , فهي تقول / حاولت مرارًا تغييب تلك الصورة الأليمة لمْ افلح البتّة فكلّنا مشروع عقيم في حرب شعواء لا ناقة لنا فيها ولا جمل / , فنجد هنا النثروشعرية الجميلة واللغة المتماوجة ما بين النثر والشعر , مع المحافظة على نسق الشعر وإيقاعات القصيدة والتقاط المعاني العميقة والدفينة ونشرها على حبال الذاكرة , من خلال / بازار الازمات المستوردة المستديمة / , نعم انها المزايدات والمهاترات والنكوص الى الوراء من اجل المصالح الشخصية والعمالة للأجنبي , فيعود الحلم الممزوج بالرماد ودخان المعارك الشنيعة / الحلم الرماد / , والقتل البشع والموت الرخيص , / الموت الرخيص مَنْ يوقف طواحين الايام تقضم حبيبات الفرح من على ثغور الطفولة المعذّبة ؟ / , هذه الطفولة التي تشبه الزنابق في احلامها الطفولية البسيطة / زنابق تحلم بالدّمى ونفحات من سلام وأمان / , وتستمر سلسلة المآسي ويتردد صداها رغم تقادم الزمن , فهي صامدة في ذاكرة الشاعرة , / سلسلة مآسي حُفر صداها في دم اسود دأبت تغيّب معالم وجوه كثيرة وقامات طُمرت في باطن النسيان التهمها حوت أزرق / , لقد استطاعت الشاعرة أن توظف المكان والزمان في قصيدتها , فاستثارة ذاكرة المتلقي , وأستولى عليه هاجس الألم الفظيع والمحنة , فهي تقول / لتنقش عنوانًا بالخط العريض ( تلّ الزعتر ) واقعة تعتنق التاريخ المشؤوم لحروب ما توقفت يومًا ولا اراها سوف تتوقف فَمَنْ ينسى ..؟! ./ , لقد استطاعت الشاعرة في قصيدتها السرديّة التعبيريّة هذه ان تكتب عنوانًا وبالخط العريض لمحنة ستبقى في الذاكرة تتناقلها الاجيال دائمًا , فكانت قصيدتها عبارة عن قذائف وجدانية محمّلة بالهمّ الإنساني , ومشحونة بأمرّ الذكريات , وأقسى المعاناة , فكلما حاولت الشاعرة أن تجعل قصيدتها قلعة تتحصّن خلفها من المآسي والذكريات , تهاوت هذه القصيدة – القلعة بعدما أنهكها الغدر والرصاص واللوعة والموت . أنّ هذه القصيدة صرخة مدوّية بوجه القُبح والموت واللاإنسانية , قصيدة عبّرة عن محنة أمّة تلاقفتها الخفافيش في لحظة غفلة وصمت .

القصيدة :

مصيدة الحلم الرّماد .. تلّ الزّعتر .

روائح الموت الكريهة المنبعثة من سراديب التاريخ تنفث إشعاعاتها السّامّة في أنوف الحاضر دويّ صرخات يتسرّب من كوى ذكريات حروب آنفة الذّكر مطر القنابل المنهال على عزّل لاذوا الهدوء في هدنة قصيرة يتنفّسون الحياة ملامح وجوه تتلطّى خلف جدارالرعب نشيج النوارس ينعق فوق يمّ الأشجان أسراب يمام تنوح عند أطنان جثث قضت تحت الأنقاض وتعفّنت جُزيئاتها المتناثرة ، لستُ أدري لِمَ أخذتني الذّاكرة إلى هناك صوب بؤر الموت الرخيص حيث بيع الخلق بمزاد العهر المستورد لإبادة جماعيّة عربد فيها شبح الظّلم الخبيث يقتلني منظر عمّتي المسكينة تقضي عند باب المخيّم تصنع أقراص الحلوى بدقيق الغدر الحاقد لتحمي صغارها الجوع الكافر إمرأة في عمر الورود تقطف عن وجناتها باقات الزهر يلثمك عطره الشّجيّ وأكفّ ممتدّة للعطاء تسكنها طيبة لا متناهية قلّ نظيرها احتلّت قلوب من عرفها عن كثب شاء أن تتربّع على عرش الشهادة يتشظّى جسدها النحيل أشلاء متبعثرة تؤاخي الجدران ما استطاع أحد أن يلملم نثار هامة نديّة كالزّنبق فلا مدافن في حروب ضروس ! كلّ الحسرة على صباها تمرّغ برائحة البارود النتنة حاولتُ مرارًا تغييب تلك الصورة الأليمة لم أفلح البتّة فكلّنا مشروع عقيم في حروب شعواء لا ناقة لنا فيها ولا جمل ، بازار الأزمات المستوردة المستديمة ..الحلم الرّماد .. الموت الرّخيص من يوقفُ طواحين الأيّام تقضم حبيبات الفرح من على ثغور الطّفولة المعذّبة؟ زنابق تحلم بالدّمى ونفحات من سلام وأمان ؟ سلسلة مآسي حُفر صداها في دم أسود دأبت تغيّب معالم وجوه كثيرة وقامات طُمرت في باطن النّسيان التهمها حوت الحقد الأزرق لتنقش عنوانًا بالخطّ العريض ” تلّ الزّعتر ” واقعة تعتنق التاريخ المشؤوم لحروب ما توقّفت يومًا ولا أراها سوف تتوقّف فمن ينسى ! ؟ .

 

تلّ الزعتر : مخيّم يقع شمال شرق بيروت

شهد مجازر أثناء الحرب الأهلية ..

جميلة مزرعاني

لبنان / الجنوب

أحدث المقالات