منذ عام 2003 والعراق يعيش حالة من الفوضى الأمنية جعلت منه واحدا من البلدان التي تشكل حاضنة للإرهاب والتنظيمات المسلحة، وساهم في ذلك العامل الاقليمي والدولى مما جعل العراق ساحة للصراع وتصفية الحسابات ، وبالرغم من محاولته تجاوز مرحلة الصراع الطائفي الذي اندلع مع بداية 2006، إلا انه سرعان ما تفجر الوضع بصورة مرعبة ومخيفة عام 2014 بعد ان تحول العراق الى ساحة خلفية للصراع في سوريا وتسلل مئات الارهابيين الى مدينة الموصل والتي ربما كان لكمية الاسلحة التي تم تخزينها في هذه المحافظة من قبل الدولة العراقية الدور الكبير في جذب أنظار الارهابين اليها، فضلا عن وجود البيئة الحاضنة لهذه الجماعات الارهابية.
وقد ازداد الوضع العراقي سوءا بعد انتشار الوباء العالمي ( فايروس كورونا ) والذي كشف هو الاخر عن ضعف البنية التحتية للمؤسسات الصحية وعجزها عن مواجهة هذا الوباء، لاسيما مع وجود أزمة سياسية واقتصادية أطاحت بحكومة السيد عادل عبد المهدي نهاية العام 2019.
وسط كل هذه التهديدات والتحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والصحية، دعت العراق بابا الفاتيكان (البابا فرنسيس) لزيارة العراق وتم قبول الدعوة من طرف البابا، وهي المرة الثانية التي يبدي فيها الفاتيكان رغبته بزيارة العراق، اذ كانت المرة الاولى عام 1999 عندما اعلن البابا يوحنا بولص الثاني رغبته بزيارة العراق وتم اجراء الاستعدادات لهذه الزيارة، وبحسب بيان الفاتيكان الذي صدر في حينها أعلن عن توقف هذه الزيارة لان بغداد تدعي انها لا تستطيع ترتيب الزيارة بشكل صحيح بسبب حظر الطيران الذي فرضته الأمم المتحدة.
وصف بعض المقربين والمتابعين قبول البابا بهذه الدعوة بانها قرار خطير مما كشف عن حجم المعارضة التي لاقاها البابا من مستشاريه ومعاونيه، اذ أكد البابا بنديكتوس السادس عشر على خطورة هذه الزيارة بالرغم من اهميتها الروحية والمعنوية؛ اذ وصف الزيارة بانها “مهمة لكنها خطيرة” ولعل هذا التصريح ينطلق من استعادة الذاكرة البابوية لمحاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها المتطرف التركي محمد على أغا، الذي حاول اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني عندما اطلق اربع رصاصات على البابا في الفاتيكان نفسه اخترقت واحدة بطن البابا والثانية أصابت جانبه الايسر وكادت ان تودي بحياته.
ولم يقف الجدل عند حدود الدائرة المحيطة بالبابا وانما اتسعت لتشمل عدد من المراقبين والمحللين الغربيين من المهتمين بالشأن العراقي، اذ رأى بعضهم ان قرار البابا فيه من الخطورة والمجازفة الشيء الكبير سواء من جهة البابا نفسه او الحشود البشرية التي يتوقع انها ستخرج لاستقباله وخصوصا وان برنامجه يتضمن العديد من زيارة المحافظات العراقية واقامة الصلوات في بغداد وآربيل.
أما خطورة القرار؛ كان في استمرارية المشهد الإرهابي، وانتشار العبوات الناسفة والجثث من أفراد الجيش والحشد والشرطة التي مازالت تتصدر أخبار العراق في الواقع والاعلام، وكانت الخطورة الأكبر تكمن في الخوف من أن رمزية البابا العالمية تجعله هدفا للعمليات الارهابية لتنظيم داعش الارهابي والذي ربما سيسعى من اجل القيام باي عمل حتى ولو كان استعراضيا يحاول من خلاله تحويل الاضواء الاعلامية نحوه من جديد، خصوصا وان هذا التنظيم استهدف المسيحيين في العراق استهدافا قاسيا اذ قام بتهجيرهم ومصادرة ممتلكاتهم وهدم دور عبادتهم، كما ان له موقفا عدائيا واضحا من الفاتيكان والذي عبر عنه في وسائله الاعلامية اذ قام عام 2015 بوضع صورة لساحة القديس بطرس في مدينة الفاتيكان على غلاف مجلته (دايق) مع علم التنظيم الذي يرفرف فوق الصورة.
لذا شكل قرار زيارة البابا فرنسيس الزعيم الروحي لكاثوليك العالم للعراق؛ تحديا كبيرا وخطيرا ليس للأجهزة الامنية العراقية فحسب وانما لجميع الجهات والشخصيات المسؤولة عن حياة هذا الرجل، الذى يمكن استهدافه ، على غرار ما حدث لممثل الامين العام للامم المتحدة ” سيرجو ديملو” عام 2003.
وأما من ناحية تحدى تجمع الحشود البشرية فانه يمكن تسجيل نوعين من التهديدات والتحديات التي تواجه البابا فرنسيس في هذه الزيارة: الاولى التهديدات الامنية؛ كما ذكرنا من قبل عن طريق أيادى الإرهاب الغادرة التي لا تنتمي لوطن ولا تنتمى لإنسانية ، وكان التحدى متمحورا حول زيارة البابا لسماحة السيد السيستاني (دام ظله) ، صاحب فتوي الجهاد الكفائي؛ التي أنقذت العراقيين من براثن الارهاب الغائر، خصوصا بعد تراجع القوات الامنية للدولة ، وانهيارها السريع والمفاجئ .
فكان للمرجعية الشيعية متمثلة بالسيد السيستاني الدور الكبير والفعال في تراجع هذا التنظيم وانهياره بنفس السرعة التي ظهر فيها؛ ومن ثم فان هذا التنظيم يرى بان المرجعية الدينية في النجف الاشرف، سبب هزيمته وتراجعه ؛ مما يعني ان قرار زيارة البابا للسيد يمكن ان يعتبرها تنظيم داعش بانها تمثل اصطفافا واضحا بين أبرز قيادتين من قيادات العالم الدينية ضده ـ، ومن ثم تكون كلا الشخصيتين في معرض الاستهداف.
واذا كان سماحة السيد السيستاني يمثل هدفا بعيد المنال بالنسبة الى التنظيم فان بابا الفاتيكان سيكون هدفا أسهل خصوصا وان برنامج رحلته بات واضحا ومعلنا عنه قبل أشهر من زيارته وانه سينتقل بين خمس محافظات عراقية في الوسط والجنوب والشمال، وان عدم الاستقرار الامني الذي تشهده محافظات العراق بسبب الاحتجاجات الشعبية في بعض هذه المحافظات، والخلايا النائمة للتنظيم في بعضها الاخر ربما ستسهل من عملية قيام التنظيم بعملية ارهابية حتى وان لم تحقق اهدافها الواقعية، الا ان التنظيم سيكتفي بأبعادها الاعلامية.
لكن الغريب في موقف تنظيم داعش الارهابي؛ انه كان غائبا عن المشهد الاعلامي خلال هذه الزيارة وبصورة كاملة، لذا يرى بعض المحللين والمراقبين بان فشل تنظيم داعش في استهداف البابا فرنسيس على الاراضي العراقية، وغيابه عن المشهد الاعلامي سواء على مستوى البيانات التي يعلنها، او المناورات الاعلامية التي يجريها في محيط جغرافية زيارة البابا تؤكد على ان التنظيم بات عاجزا عن القيام بأعمال ارهابية، او انه مدرك جيدا لعواقب ومآلات مثل هكذا عملية على التنظيم نفسه.
إذ ذكر المحلل الامريكي جويل وينج ، بانه متفاجئ من هدوء وتراجع تنظيم داعش خلال فترة زيارة البابا والتي كان يمكن أن يستفيد منها اعلاميا، بينما يقول اخر “بصراحة ، لا نعرف لماذا لم يصدر داعش بيانًا ، لكن ما يمكنني قوله هو أن داعش اليوم ليس هو الذي رأيناه منذ أكثر من ست سنوات”.
التهديدات الثانية؛ على مستوى القطاع الصحى العراقي،إذ رأى بعض المحللين بان برنامج زيارة البابا فرنسيس الى العراق تضمنت اقامة العديد من البرامج التفاعلية والجماهيرية والتي تأتي في ظل حزمة من الاجراءات الوقائية خاصة ان الزيارة جاءت في اوقات الحظر الكلي ، التي اتخذتها خلية الأزمة العراقية، وذلك نتيجة ضرب العراق بالموجة الثانية من كوفيد 19 ، وعدم قدرته على مواجهة هذه الموجة نتيجة عدم تقيد المواطنين بالإجراءات الوقائية من جهة، وفشل النظام الصحي العراقي سواء العلاجي او الوقائي في مواجهة الارتفاع المتزايد في عدد الاصابات من جهة أخرى ، لذا فان هذه البرامج الجماهيرية كانت تشكل تحديا للدولة العراقية والوفد البابوي و البابا فرنسيس نفسه البالغ من العمر 84 عاما.
الا ان البابا فرنسيس عبر في كلمته التي القاها قبيل توجهه الى العراق، وكرر العديد من فقراتها في لقاءاته التي أجراها مع الجمهور العراقي بان هذه الزيارة كانت مهمة جدا وتأتي في وقت مهم وحساس يتطلب الحضور بين اتباعه من أجل دعمهم معنويا للتمسك بارض أباءهم واجدادهم ودعوة المهجرين والمهاجرين الى العودة اليها.
ختاما ان قرار البابا بزيارة العراق؛ يصنف من القرارات الخطيرة وفقا للظروف الامنية والصحية التي أحاطت بها، الا ان الارادة الالهية، وشجاعة البابا هذه الشخصية الكبيرة والعظيمة ، خاصة مع حرصه الشديد ، ساهمت في تنفيذ برنامج الزيارة بجميع تفاصيله من دون ان تظهر اي اثار للتعب او الارهاق او الازعاج .
و في اعتقادي ان حفاوة الترحيب وقداسة ورمزية الاماكن العراقية زدات من عزم البابا واطمئنانه الواضح على ملامحه طوال الرحلة ، وعلى الجانب الآخر كان قبول البابا لدعوة العراق ، سبب في اصرار الجهات الحكومية العراقية على ضرورة واهمية نجاح هذه الزيارة وتجنب حصول اي طارئ يمكن ان يضع العراق في حالة احراج امام المجتمع الدولي.
لذا يمكن القول بان اخبار العراق وان لم تغادر شاشات الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي منذ عقدين من الزمن بصورة البلد الطائفي وحاضنة الارهاب ، الا انه استطاع هذه المرة ان يقول للعالم ان العراق قادر إذ قرر النجاح.
واعادة تشكيل صورته الجديدة في وسائل الاعلام وتسويق هذه الصورة الجديدة التي شاهدناها من خلال أكثر من 400 محطة إعلامية ، اكدت على ان نجاح العراق في فرض الامن والاستقرار طوال أيام الرحلة ، بالرغم من صعوبتها وحجم الضغوط التي رافقتها يمكن ان تكون تجربة صالحة للتطبيق في مرحلة ما بعد زيارة البابا فرنسيس وللحديث بقية .