23 ديسمبر، 2024 1:21 ص

قراءة في رواية ( يا مريم ) لسنان أنطوان

قراءة في رواية ( يا مريم ) لسنان أنطوان

هستيريا أقليات النموذج و صراع عينات الإحادية الزمنية

توطئة :
أن السيرورة الذهنية الموصوفة في تجربة رواية ( يا مريم ) للروائي سنان أنطوان ، تتلخص إجمالا فكرتها على تكريس معنى دائرة النموذج الفئوي في حجاجة حكاية منسوجة ببناء حساسية الأقليات المسيحية في موضوعة و الطابع الروائي ، لذا نجدها من جهة ما تصور لنا كيفية تعلق حياة شخوصها إزاء فرضية الماضي مرورا بفرضية و إشكالية إخفاق و إقصاء جملة هذه النموذجية من الأقليات داخل تصاعد حدة و تيرة الغضب ضد الأسلام ، بما يوضح شتى المؤولات التي تختص بواقع و صورة هذه البنية المحكوم عليها في البقاء في طابور كل من وقف في ينتظر دوره الأكيد في مقصلة الموت المحتم . في الواقع هذا هو المعنى الذي وجدناه في رواية المبدع سنان أنطوان ، أي هي بمحض تصورات و أسئلة تسعى إلى جلب مؤثرات و مؤشرات حالتها الأثباتية جدلا في أرجحية المعطى التصوري ، لدى مؤلفها الفاضل و شخوصه في محراب إظهارية الذات الأنوية المغتربة ، وممن حولها و من ذاتها الخاصة أحيانا .

ـــ مستويات إنتاج حكاية المتن الروائي .
من المستويات التجسيدية في سؤال تأسيس المحور الصياغي في دلالة مكونات الرواية ، تتلخص في أربعة أبعاد ، أولا مرجعية التوصيف المعادل في المتخيل الروائي ، ثانيا تماثلات التبئير المطرد ، ثالثا ضمنية علاقة وحدات السرد ، رابعا حجب الفعل الدلالي المؤجل .. و هذه المؤشرات في المحاور التي سنقوم بها بمعاينتها داخل مسار الوظائف السردية في الرواية ، أي هي بمثابة الدليل الأفعالي و الصفاتي و المدلول الراجح في مباحث أمكانية دراستنا إلى ملفوظية سياق وحدات النص الروائي .

1ــ عاملية الدلالة الحاصلة و فرضية الدلالة المؤجلة :
تتحقق في وحدات موضوعة رواية ( يا مريم ) ثمة آليات و مشروطات فاعلة في حصيلة تحيينات المؤول الدينامي ، و هذه المشروطات السوسيولوجيا ، قد تبدو لنا كقراء ، إنها قد حلت في حدود علاقة تكنيكية خاصة من ثنائية ( الماضي / الحاضر) في حين أننا نجد أن كل حالات الأدلة الشخوصية و المكانية و الزمانية و الصياغية السردية في محصلات وظائف النص ، تتحرك ضمن علاقة محفزة من مستوى ( الدلالة الحاصلة ) و مستوى ( الدلالة المؤجلة ) دخولا منها إلى نطاق محددات مواضع الالتباس و اللاتجاوز في حيز مكرورية الإشكالية الفئوية المنعقدة ، خارج و داخل الإيقاع السكوني في حياة شخوص الرواية .، و دون أدنى مبررات استهلالية أو عتباتية أو تصديرية ذاتية أو غيرها ، من شأنها أن توافينا فيها جملة المدخلية الرواية في موضوعة النص ، سوى جملة ( أن تعيش في الماضي ) و جملة الحوار اللاحقة المقتصة من بداية الرواية ( أنت عيش بالماضي عمو ! ) نلاحظ بادىء ذي بدء ، أن تمظهر مساحة تمفصل الزمن الماضي ، هو علامة مصداق و ميثاق الحرمة السردية في محاور شخصية يوسف ، ذلك المحور العاملي الأظهر في وظيفة السرد الروائي ، و عندما نتابع إيحائية و قصدية مرجعية هذا الماضي في حياة الشخصية يوسف ، نعاين بأن هذا الرجل : ( لم أنم جيدا و بقيت أتقلب في الظلام و أنا أقلب الحكم الجائر الذي أصدرته مها بحقي .. كررت السؤال على نفسي بصمت : ــ هل أعيش حقا في الماضي ؟ و كنت أجيب عليه بأسئلة أخرى : ــ كيف لا يعيش من كان بعمري في الماضي .. ولو بعض الشيء ؟ أنا في العقد الثامن من عمر صار معظمه في عداد الماضي . / ص10 الرواية ) أن مساحة المتن المونولوجي في محاور مسرودية العرض الذاتي ، جاءتنا على هيئة سردا لضمائرية الشخوص وهي تحكي عن ذواتها مواقفها في الرواية ، ما خلا من وجود ذلك السارد المحايد في مسار السرد . و عندما ندقق في مجليات وحدات (مكان / زمان / ظهور الأفعال السردية ) إذ نجدها جميعا تنحسر داخل وظيفة استدعاءات مرجعية الأمكنة الخطية المتلاحقة تباعا إلى جانب احتواء ذلك الزمن الأحادي ، و المنظور في وظيفة قصيرة الأمد ، ربما لا تتعدى اليوم أو اليومان من الزمن المتعين فيزيقيا . على أية حال لنشاهد كيفية حصول عاملية و ثنائية ( الدلالة الحاصلة / الدلالة المؤجلة ) في خضم مفاصل أحداث الرواية ، مرورا بحياة يوسف و ذكرى ألبوم صور أسرته المحكية إلى جانب التركيز على مشاهد ذكرى أخته حنة : ــ ( أخرجت طقم أسناني من القدح المليء بالماء وأعدته إلى فمي و ثبته فيه .. تساقطت أسناني منذ سنوات .. و كنت أنزعج من الطقم لفترة طويلة قبل أن أعتاد عليه .. كنت أعزي النفس ببقاء شعري الأبيض قويا : ــ كل شيء ولا الصلع ؟ .. لكنني كنت أصلع في الحلم . / ص12 الرواية ) يندرج هذا التعالق بين حاضر زمن يوسف البطيء في النمو السردي ، و بين توالدية حلمه المفترض بالصلع ، و هذا المفترض في محفز الوحدة السردية ما كان يمهد بفاجعية الزمن القادم ، ما غدا يشكل في الآن نفسه تلك الواجهة الاستعادية في موسومة زمن يوسف الشخصي ، وما راح يواجه من تتاليات قاهرة من حياة انخراطه الاستعادي في متحف صور العائلة ، و صور زمن الدلالة الحاصلة و غير الحاصلة في معطى زمن أطروحة ذلك المتحف العائلي وما يترتب على هذه الاستعادة لأحوال و شخوص عائلته المحنطة ، داخل إطار من الزمن المتوقف و الزمن المتحرك في ذكرى الصور المثبتة على الحائط ، و بهذا المر صرنا نواجه دلالة مؤجلة ، خاصة و أن زمن نواة صور العائلة ، كانت كبداية بيانية من جهة السارد المحايد أو الشخصية المشاركة يوسف ، مما جعل وظيفة الدلالة المؤجلة ، بمثابة التعالق الذاكراتي بين زمنه المفقود و أزمنة أصحاب الصور مرورا بفعل نواة الدلالة المؤجلة في مضمر الفعل النصي : ( الزمن الحاصل في دلالة السرد : هل أهرب فعلا من الحاضر ـــ الزمن الحاصل : ألمن تطلب مني أن أحكي لها الحكايات التي تختزن الصور ـــ حاصل الاستذكار بمسافة نواة الدلالة المؤجلة = مرجعية التوصيف المعادل = تماثلات التبئير المروي = ضمنية علاقة وحدات زمن السرد ) و إذا كان الزمن المرجعي ، قد غدى في شكل الرواية ما يشكل ثنائية سياق ( زمن القصة ــ زمن الخطاب ) فلربما الزمن الحاضري هو ذاته زمنا شخصيا مضافا إلى معادلة التوصيف في الامتداد و التشخيص ، و نمو تماثلات خلفية التبئير لاحتواء مؤشرات أزمنة الرواية الإحادية في المنظور و التأثير .

2ـــ تعدد صور الأنا الساردة في الإحالة المحكية :
كقصدية واضحة نعاين كيفية اشتغال محاور المسرود الذاتي على مواقع شخوصية متعددة في علامة الإحالة المتوالية في الحكي الروائي ، فمثلا نعاين شخصية مها و كيفية نقلها لواقعة الخلاف بينها و بين يوسف : ( شعرت بالذنب لأني أنفجرت بوجه يوسف .. أقدر كرمه و طيبته في استضافته لنا كل هذه المدة و سأظل مدينة له مهما حييت . / ص109 الرواية ) على حين غرة تقابلنا آلية وعي يوسف وهو في موقع سرده المشارك : ( عارية تماما بعد أن تخلت عنها أوراقها : ترى هل تشعر بالبرد الذي أشعر بشيء منه الآن ) ومن جهة أخرى نلاحظ صوت السارد المحايد في الرواية وهو يقوم بنقل حدثا قوليا قد انجزته هذه الشخصية أو تلك في هذا الموضع من السرد أو ذاك ، على سبيل الإيجاز و التلميح إلى مضمون أو رابطية فعل الشخصية في وظيفة المسرود الذاتي : ــ ( كان يوسف في منتصف العقد الرابع .. بلا زوجة أو أطفال .. رصيده نزوات لا بأس بها و ليال نؤاسية في الملاهي .. و قصة حب حزينة مع أبنتة خالته نجاة . / ص63 الرواية ) .

التطابق و الاختلاف في استرجاع بنية الزمن .
و نحن نقرأ مشاهد الاسترجاع الزمنية في وظيفة السرد ، توارد إلينا أربعة عامليات تحفيزية وهي : ( الوقفة الوصفية / التداخل المكاني / الإضمار الذاتي / التحنيط الزمني ) ـــ إقترانا ــ بمنح الوظيفة البنائية في مشاهد النص حظا وافرا من الموضوعية و الإقتراب من نواة زمن الخطاب الروائي ، فعلى سبيل المثال تواجهنا مشاهد حياة يوسف إلى جنب شقيقته المتوفاة حنة . بطبيعة الحال كانت الأحداث المتعلقة بالشخصية حنة كهيئة ماضية في زمن استعادات يوسف لها و لواقف حايته معها ، غير أنها تظهر لنا و كأنها دقائق و ساعات حية من حيز نطاق ال ( التداخل / الإضمار ) وصولا منها إلى غرس وقفة توافقية بين زمن الحكاية و الخطاب : (فتحت الباب و خطوت خطوة إلى الداخل .. كانت غرفتها مظلمة و باردة كالقبر .. كبست على الزر الذي كان على الجدار إلى اليمين .. فلم ينقشع الظلام .. تذكرت بأني لم أغير ذلك المصباح أبدا .. و حتى عندما جاءت النسوة ممن تبقى من العائلة في بغداد و بعض الجيران ليغسلن جسدها .. قلت لهن أن الشمس تكفي في النهار و طلبت منهن أن يوقدن الشموع في الليل . / ص17 الرواية ) .

1ــ المكان المتزامن و مرجعية التوصيف المعادل :
تحتل وحدة الافتراض ( المكان المتزامن في حدود مرجعية التوصيف المعادل ، العتبة القصوى من وظائف هذه الرواية موضع دراستنا ، ترد في الرواية مشاهد وحالات مكانية ، نستشف من خلالها موقعية مزامنة الحالة المكانية ذاتها اضافة مع توافر اختلاف هوية الأمكنة الأخرى ، و لكنها في الآن نفسه تقدم إلى الحيز المقامي للمكان مفهوما موحدا في أفق علاقته مع الخطاب الدلالي في النص . فعلى سبيل المثال تواجهنا أمكنة يوسف : ( لابد أن مها التي أسدلت الستائر / مشيت نحو الشباك و أزحت الستائر كما فعلت قبل سبع سنوات / تذكرت سخونة جدالي مع مها و أنا أعد الشاي / كنت أذهب إلى الكنيسة / و في اليوم الذي تلا ضرب بريد العلوية قررت أن أمشي لأشاهد بنفسي ما حدث / كانت حنة ستلقي باللحم الذي كان في المجمدة في الزبل بسبب الصوم الكبير / لا أحد يعرف تاريخ الصورة بالضبط .. لكن يوسف يتذكرها بأنها التقطت ذات جمعة ) و هذا الأمر الذي تابعناه في ملحق هذه الفقرات من الوحدات السردية ، ما راح يؤكد لنا على علاقة المكان المزامن إلى طابع خاصية الذات الشخوصية ، و أثر هذا المكان يبقى كلازمة دلالية في ترتيب مبنى و متن الوظائف السردية في الرواية .

2ــ مرجعية المعادل التوصيفي في وظيفة علاقة المستعاد الوصفي :
من هنا سيتبين لنا أهمية الأدوار الأربعة العاملية في حدود هذه الترسيمة الإحصائية المفترضة ( مرجعية التوصيف المعادل ـــ تماثلات التبئير ـــ ضمنية علاقة وحدات السرد ـــ حجب الدلالة المؤجلة ) و تتوزع أشكال و طرائق و وظائف هذه المحاور ــ توصيفا ـــ لتصل بنا إلى أقصى صورتها المكتملة و المكملة على جلب أحداث خارجة عن نطاق المخيلة المتوقعة : ( ضمنية علاقة وحدات السرد : مر المصور الأرمني على الشارع بيتا بيتا يحاول إغراء العوائل بأن تلتقط صور جماعية / تماثلات التبئير : لم يسمعوا سوى وقع خطاهم و حفيف السعف و أغصان الأشجار التي حركتها ريح كأنها تودع نسيم / حجب الدلالة المؤجلة : انتابتني مشاعر ملتبسة و غريبة في الأيام الأولى في البيت / مرجعية التوصيف المعادل : سمعت صوت الماء يدلق كان أحدا ما يستحم .. لكني كنت وحدي في البيت .. مشيت إلى الحمام فسمعت صوت امرأة تدندن : عرفت أنه صوت مها استغربت أن تنزل و تستخدم هذا الحمام .. لم أتبين شيئا سوى أرضية الحمام المبللة .. توقفت عن الغناء .. فرأيتها تقف تحت الدوش عارية تحتضن طفلا تهزه بين ذراعيها ) و على هذا النحو من التوصيف المعادل تتحدد المحاور الأربعة في نقطة تحولات وجه الحكاية ــ إقترانا منها ــ على خلق المساحة التوصيفية المعادلة و المضافة في نمو استراتيجية السرد .

ـــ تعليق القراءة .
يمكننا القول بصيغة أو بأخرى ، أن أفعال و وظائف رواية ( يا مريم ) جيدة رغم أنها جاءتنا مخططة في حدود موضوعة نسبية في القيمة و البلاغة الاسلوبية في ترسيمة الرواية الابداعية المؤثرة . فالرواية المشار إليها أنفا ( يا مريم ) أبدعت في تجسيد آليات محورها و وحدتها المسرودية من جهة المؤلف الذاتية ، ولكنها أخفقت في تحرير موضوعتها من براثن اللهجة الفئوية المرفوضة . على أية حال هذا الشأن يتعلق بشخص المؤلف نفسه أولا و أخيرا ، و لا يمكننا محاسبة الرواية في حدود هذه الزاوية الاستفهامية الضيقة . غير أني أجدني أقول مجددا أن أفعال الرواية و أحوال شخوصها و وحدات الصياغة السردية و الزمن و المكان فيها جاءتنا في بعض فقرات الرواية ، التي لم نشير إليها سلفا ، عبارة عن علاقات مفتعلة ولغة خالية تماما من بلاغة التوصيف الاسلوبي المتقن ، بل أنها لا تلقى حتى إلى مستوى قائمة جائزة البوكر المزعومة اطلاقا بل أنها محض تخريجات فاقدة لحس الأدوات الروائية الجادة و الجديدة ، فالعلاقة الاهتمام و الاختلاف الذي كان يشغل مساحة شخصية يوسف إزاء مها تبدو لنا من جهة ما ، وكأنها علاقة مفتعلة و مفبركة ، و ذلك لغرض إتمام واقعة دخول المسلحين إلى الكنيسة كلما في الأمر : (لم تدرك مها كم من الوقت و هي جاثمة على الأرض في الظلام .. كانت تعرف بأن الموت قريبا جدا و أنه قد يجيء في أي لحظة .. فكرت بلؤي و والديها و بشقيقتها / فكرت بيوسف الذي لم تعتذر منه / ظل جسد يوسف مسجى على أرض الكنيسة لأكثر من أربع ساعات . قبل أن يحمل إلى الخارج بعد تخليص الرهائن / كان محاطا بأشلاء بشرية و بقطع من الزجاج المكسور و الغبار / داس أحد أفراد قوة مكافحة الارهاب الذين دخلوا الكنيسة على أصابع يده اليسرى بالخطأ فهشم عظام ثلاثا من أصابعه . / ص147 ص155 الرواية ) و تشكل حادثة الكنيسة و موت يوسف ، وقفة توصيفية متماسكة من دلالات البنية الميلودرامية في الرواية ، وهذه الرؤية الأخيرة من النص تشكل صرخة احتجاج عنيفة على واقع الانسان العراقي و في مواطنة الأقليات الأجتماعية و الدينية حصرا و يبقى السؤال الاشكالي مطروحا و حتى آخر صفحات الرواية تأطيرا مكانيا و زمانيا و ذواتيا لأجل وقوع و توقيع ملامح المظلومية التي كانت تعيشها هذه الأقليات الباحثة عن الوطن وعن دلالة الأمن و الأمان . و تبعا لهذا الأمر حققت رواية ( يا مريم ) تلك الخصوصية النسبية التي ينشدها النص الروائي لدى سنان أنطوان بين عنونة هيستيريا أقليات النموذج و صراع تعيينات الإحادية الزمنية المحفوفة برؤية الإغتراب و اللاأنتماء في عزلة زمنها الإحادي من التأليف الروائي المفترض .