23 ديسمبر، 2024 5:53 ص

قراءة في رواية مضيق المعطوبين للروائي الجزائري واسيني الاعرج

قراءة في رواية مضيق المعطوبين للروائي الجزائري واسيني الاعرج

في الصمت الذي تلا جسد ساقط كشجرة يابسة،فرَغها الزمان من نسغها، امتزج الموت بكسوف الشمس، تاركا المجال لغناء وطني قديم يخرج مكسرا ومحطما من صخرة قديمة من الجبل المقابل لجبل الذئاب القديم:” يا اخوتي، يا اخوتي، لاتنسوا الشهداء ابدا”. بهذا المقطع الاخير تنتهي رواية مضيق المعطوبين للروائي الجزائري واسيني الاعرج. هذه الرواية على الرغم من قصرها فهي تقع في 147صفحة من القطع المتوسط؛ قالت اشياء كثيرة عن الوضع السياسي في الجزائر، وطرحت الكثير من الاسئلة الوجودية، واسئلة اخرى عن مآل الثورات وعن الكيفية التى بها تأكل رجالها او تدفع بهم الى الهامش ليحل محلهم، الاخرون من الذين لم يكونوا من رجالها، تلك الاسئلة وغيرها الكثير والتي، سوف ناتي عليها؛ قالتها هذه الرواية القصيرة. بسرد انسيابي و لغة سلسلة، تحمل على اجنحة كلماتها، المعاني العميقة. في المقبرة التى تقع مقابل جبل الذئاب القديم، تحلق في السماء غيمة سوداء، تختفي الاصوات وحتى الصدى لم يعد له وجود. باروخ النحات الجزائري يقف بين القبور، مخذولا ويائسا ومصدوما، لقد تعرض الى خدعة كبيرة وألقي به في العراء بلا بيت، ليس سواء المقبرة التي عمل فيها دهرا مع القبور وساكنيها، وهو ينحت شواهد القبور للموتى الذي ياتون إليها تباعا في كل يوم، هي، من اجبرته الظروف ان يساكنها ويتآلف مع الموتى ويأنس بمعاشرتهم. العم داب غادر باب المقبرة وتركه وحيدا في المقبرة بعد ان افرغ حاجياته القليلة جدا من الشاحنة التى اقلته. حدق طويلا في الغيمة السوداء التى غطت تماما، الآن، وجه السماء.” أمحى كل شيء، حتى صوت الموت، ولون السماء والنخلة الهرمة. انحنت الشجرة اكثر تحت وطأة صوت الطلقتين المدوي، انحنت لكي تفتح القبر الذي كان باروخ قد حفره في ممر المجهولين، تماما بجانب قبر لالا شريفة.” ص146. باروخ فنان ونحات، كان قد عاش خارج الجزائر، في باريس التى درس النحت فيها، في مدرسة الفنون الجميلة، وهو نحات من الطراز الاول. في الجزائر العاصمة سدت جميع الابواب في وجهه، حتى انه لم يعد بامكانه تدبر عيش يومه وعانى كثيرا من نفاق زملاءه مما اجبره على العودة الى مسقط رأسه. عمل في نحت شواهد لقبور الموتى. عاد الى السكن في البيت الذي كان فيه، هو وعائلته التى لم يبق من افرادها، احدا. كان متوحدا ووحيدا إلا من ذكرى كانت هي الملاذ الجميل على الرغم مابها من ألم ووجع لا يحتمل، كان في الليل يعيش مع ذكرى، حبيبته لالا شريفة، التى ماتت حين جرفها السيل، امام جبل الذئاب” سمع صوت لالا شريفة يسقط في الماء كحجر وهي تصرخ بكل قواها:بااااااروخ… انقذني يا بااااروخ!!!!!”.اغمض عينيه وغاص بهدوء في الصمت.”. لالا شريفة تشكل هنا رمز لإنزياح ثورة التحرير الجزائرية عن اهدافها النبيلة لتتحول الى سلطة دكتاتورية..في الليل وهو ينظر الى القبور من شرفة بيته، يسمع طرقتان على الباب. حين فتح الباب كان هناك شرطي يقف. في المقر، للولاية التى استحدثت حديثا، يطلب الوالي منه، عمل تمثال كرمز للولاية الجديدة. لعبة التمثال والذي هو عبارة عن تمثال لكبش، اراد بها الروائي ان يقول ان النظام الدكتاتوري في الجزائر كما هو في غير الجزائر من انظمة النظام الرسمي العربي، يترجم عقلية ونوازع الطغيان في العقل العربي الرسمي وتحويل الشعب الى بيادق شطرنج، يحركونها في المربع الذي يريدون، الى الدرجة التى يكون بها حتى ما يختاروه من رمز او رموز تعكس بقوة هذه العقلية التى اضاعت الكثير من فرص التطور في الاوطان العربية ومنها الجزائر، وتعكس ايضا ضحالة التفكير وسطحيته”- اننا نريد من هذا العمل ان يمثل الفحولة والخصوبة والحيوية والاستمرارية، فيجب ان تكون خصيتا الكبش، واعذروني على هذا التعبير، اضخم واكثر تدليا. ويجب ان تعبر مؤخرة الحيوان عن هذا البعد بطريقة ذكية. ص56″. ينتهي باروخ بعد ثلاثة اشهر من نحت تمثال الولاية، كبش ضخم نحت من قطعة كبيرة جدا من رخام جبل الذئاب. حين تم وضعه على قاعدة كبيرة تحيط بها التوتياء، دبت الحياة فيه، واخذ ينظر الى افق غير محدد وبعيد، خصيتاه كبيرتان بدتا كأنهما تتفحصان وهما تتسمعان كلام الناس في الساحة التى اقيم فيها.”…بقصة الخصيتين هذه فهمتُ لماذا اتخذ المسلمون على عاتقهم تحطيم الاصنام كمهمة جوهرية. ص76″ دابا او دابزا، كلف بحراسة رمز الولاية الى ان يحين يوم الافتتاح الذي يحضره وزير الداخلية، ساطور. الاسم الذي يحمل اشارة واضحة كل الوضوح الى القسوة والظلم والتعذيب والقتل. يفجأ مدير مكتب الوالي الذي اوكلت اليه مهمة متابعة اتمام رمز الولاية والمحافظة عليه بعد الانتهاء، الى ان يحين الحين في يوم الافتتاح، بسرقة خصيتي الكبش. يرتعش خوفا فيوم الافتتاح اصبح قريبا، يتسائل مرعوبا، كيف يكون موقفه في يوم الاحتفال القريب وماذا يقول للوالي ووزير الداخلية، عندما يحضرا، كبش بلا خصيتان، انها كارثة كبيرة. يستنجد بباروخ، ناحت التمثال، رمز الولاية، فليس هناك من ينقذه من هذه المصيبة إلا باروخ. باروخ الذي كان في هذا الليل الذي نزل فيه، المطر مدرارا، يجلس مرتاحا بعد عناء لثلاثة اشهر من العمل المتعب في نحت الكبش، رمز الولاية، في شرفة بيته الذي سكنه، صغيرا ويافعا وكبيرا وراحلا منه الى باريس وعائدا اليه ورحلا منه مرة اخرى الى الجزائر العاصمة وراجعا منها، اليه مرة اخرى، يتآمل مقبرة الشهداء التى لم يبق منها إلا الاسم، كان ينظر الى قبر لالاشريفة حين ناداه من تحت الشرفة، مدير مكتب الوالي. ينجح باروخ في صناعة خصيتين جديدتين ويضعهما في مكان الخصيتين المسروقتان. إلا ان الامر لم يتوقف على الرغم من الحراسة الشديدة على الكبش، رمز الولاية، فقد سرقت الخصيتين مرة اخرى في الوقت الذي لم يبق، سواء ايام ويحل يوم الاحتفال بالكبش الرمز وبولادة الولاية الجديدة. يفقد مدير مكتب الوالي هذه المرة صوابه ويصرخ في دابزا الذي كلف مع اخرين في حراسة الخصيتين والاحالة بينهما وبين لصوص الشعب الذي ما انفك يخرج في التظاهرات بين يوم واخر، يطالب بتوفير فرص العمل والانصاف والعدل والحرية. باروخ كان قد تنبأ بان الخصيتين سوف يقوم الناس يتحطيمهما وليس سرقتهما كما يحلوا لمدير مكتب الوالي، وصف هذا العمل. تكونت هذه الفكرة لديه حين كان وقت الفراغ يختلط كما هي عادته دائما مع الناس في المقهى وكان البعض يلومه”- انت صادق اما الاخرون؟ فقد باعوا كل شيء حتى ضمائرهم، هذا ان كان لديهم ضمائر. انهم يوسخونك. – ما هذا إلا رمز. – على كل حال لاشيء مجانا مع هؤلاء البقارين. – لاشيء مجانيا. الامر يستدعي ذلك لأن المسؤولين سيرفعون الى المناصب الكبرى بفضل هاتين الخصيتين الناجحتين…كيف لخصيتين صغيرتين جدا ان تحدثا تاثيرا رهيبا الى هذا الحد على قدر الناس. ص80″ خصيتان من البرونز كان قد صنعهما باروخ قبل ايام ووضعهما مكان الخصيتين المسروقتان. مدير مكتب الوالي اشار الى ان هذا العمل التخريبي وراءه جهة خارجية، لذا، قام باستدعاء فصيل من الجيش واخر من الشرطة لحراسة نصب الولاية وحماية الخصيتين البرونزيتين الجديدتين، من السرقة. الناس لم تهدأ ابدا. وهي ترى ان هذا العمل ما هو إلا لتبديد المال العام. تتعالى الاصوات بالرفض لهذا الكبش وما يحمل من خصيتين. وتشتد التظاهرات.” كان المتظاهرون يدورون حول الساحة متمنطقين بالتوتياء والجبس، وفي ايدهم حجارة صغيرة يرمونها كفيما اتفق لكي تصيب التمثال. ص85″. تصدى الجيش والشرطة للمتظاهرين بقوة وقسوة، قمعت المظاهرات والاعمال الاخرى والتى توصف من قبل الجهات الرسمية بالاعمال التخريبية التى تقف وراءها جهات خارجية وفي اول هذه الجهات، الموساد. ” منع تجول حقيقي. كما دعي التجار الى عدم فتح متاجرهم دون كثير من الشرح حتى لو ان الناس كانوا يعلمون ان الامر يتعلق بكل تاكيد بمسألة الرمز والولاية. واخيرا منع الاطفال من الدخول لأسباب امنية. واحيط مضيق المعطوبين كليا بالمظليين وبالقوات الخاصة.” ص113. في خدعة غادرة ودنيئة وخسيسة من قبل السلطة وبعد ان ينتهي الاحتفال وكذلك التظاهرات التى تم ايقافها بقوة البندقية وما تحمل للناس من رعب وموت، ليسود السكون الخادع؛ يتهم باروخ بانه كان قد غش في نحت التمثال، الكبش وخصيتاه اللتان عملهما من البرونز وليس من حجر الرخام كما يفترض به كفنان ان يكون امينا على فنه ولا يخدع المسؤولين. يطرد من البيت الذي كان فيه خلال اكثر من نصف قرن، هو وعائلته قبل رحيلها الى العالم الاخر وتتركه وحيدا.”أإلى هذا الحد؟ لا، ولكني اسكن هنا منذ نحو نصف قرن. ابي وامي واختي الصغيرة ولدوا وماتوا بين هذه الجدران.-أرأيت؟ انت لاتملك إلا الكلام. وعلى ان اخبرك بلطف- فعلى ما يبدوا انك لاتعرف- ان بعض البنايات والعقارات الفارغة صارت ملكا للدولة منذ ان اكتسبت ام البواقي صفة ولاية. لقد صارت فيلتك اليوم مقرا لرئيس المنطقة العسكرية.” ص141. رواية مضيق المعطوبين للروائي الجزائري،واسيني الاعرج، من اصدارات دار ورد السورية.