23 ديسمبر، 2024 9:57 ص

قراءة في رواية قيلولة

قراءة في رواية قيلولة

(هناك اشخاص يولدون وهم متمردون لا يعجبهم العجب ، يشعرون بتفردهم ونشاز خطوات الآخرين ) بهذه البداية بدأ (سلام حربة ) روايته قيلولة ، وفيها يعرفنا بشخصية فرات بطل الرواية الذي بدأ حياته شاعرا حديثا ثم ثوريا شيوعيا لتنتهي حياته بالانتحار بعد غيبة ( قيلولة ) قسر نفسه عليها .
يلون (سلام حربة) المشاهد بألوان زاهية معتمدا على رصيد لغوي بديع حافظ عليه وطوره منذ سبعينيات القرن الماضي ، فقد توقف في كل مفصل من مفاصل الرواية ليصف الجو العام ، وينسق صوره وينضدها ، فيبعث بذلك هدوءا في النفس يتوقف عنده القارئ ليتمعن في جمال الكلمات والوانها ورشاقة التعبير ، ويريك مالم تشاهده عين بعد انقضاء غيبة البطل وعودتة ، وقد تكررت تلك الصور لدى الاف المنفيين واللاجئين العراقيين الذين عادوا من المنافي حيث باغتهم منظر نفس المباني القديمة الآيلة للسقوط ، وشاهدوا رثاثة الواقع الجديد التي انطبعت على الوجوه والملابس ، ويعرفون في النهاية بانه مجتمع قد خرج توا من زلزال ، اندثرت فيه تلك الصور الزاهية والحياة الطبيعية ، وتصف الرواية بحنكة هذا الواقع الجديد الذي استعصى على فهم العائدين من المنافي بصور وكلمات يتصاعد جرسها مع التقدم بالرواية ويبدأ بالخفوت رويدا رويدا ويترك صدى خشنا في نهاية الرواية .
كانت شخصية فرات سلبية منذ البداية ، فلم ينفتح على الناس ، عزل نفسه عن المجتمع ، وسلك سلوك المظلومية في اجمل قصة غرام مع عائدة التي منحته ارثها وجمالها وغرامها وحياتها مقابل لاشيئ ، وكان في سلوكه العام يظن نفسه صاحب الحق وعلى الاخرين الاقتراب منه والنظر اليه وابرازه والسعي لاكتشاف جوهره المخفي في اصداف صلده ، ومن يقرأ الرواية ولم يتعرف على الشيوعيين في السابق وعلى اخلاقهم وتضحياتهم لايجد في فرات الا شخصا متطرفا في احسانه وفي نرجسيته ، ولم تعكس الرواية ضوءا على نشاطه السياسي ، ولم تتوضح معالمه الا لماما في النشاط الطلابي وفي العمل الجماهيري .
كان فرات بطل الرواية لكن عظيم نافسه تلك البطولة فهو الراوي الرئيسي لها وصاحب احداثها ، وكانت شخصيته ملحقة بفرات الشاعر بطل الرواية ، وارتضى عظيم بشخصية الملحق والظل والمقلد ، وبعد الغيبة ( القيلولة ) يبدأ عظيم يأخذ دورا ارشاديا وذلك بتعليمه وتوضيح المتغيرات خلال فترة غيبته ، وبيان نتائج تلك الغيبة ، ولم يبق لدى عظيم ما يتعلمه من فرات ( رفع راية الاستسلام البيضاء وسلم أمر قيادته الى الاكثر مهارة ص ١٣٢) . وكانت نكسات واقع الحرب والانكسارات الاجتماعية المتوالية وانقطاع الامل قضت على جانب كبير مما تعلمه من فرات ، و التجأ الى الاحتماء من الواقع الصعب خلف متراس صلد من الامكانيات المالية ، واثر ذلك على حياته الشخصية ، ولم يحاول تخفيف صدمة فرات في الخروج من الغيبة والانقطاع عن المجتمع ولا شرح متغيرات الواقع غير المحسوبة ، بل وضعه امام الواقع وصحبه الى المقبرة في اليوم الاول والى زياراته الاخرى التي نقلت فرات من عتمة الى عتمة اشد من الاولى ومن هول الى آخر ولسان حال عظيم يقول بان كل ذلك نتيجة منطقية لغيبة فرات في حوض النتروجين ، ووافقه فرات في النهاية .

حرك المؤلف شخوصه بين طبقتين اجتماعيتين هي طبقة الحرفيين التي انحدر منها فرات وعظيم وبين طبقة البروليتاريا الرثة ، وقد اظهرت الاولى اهتماما بالسياسة وبمفاهيم العدالة الاجتماعية ، وظلت الثانية التي ظهر منها طارق وحامد المنغولي على هامش المجتمع ، ومن هذه الطبقة صنع المؤلف ابطال المرحلة القادمة : طارق ابن الخبازة ، السارق الذي لم يتعلم شيئا من حياته غير السرقة ، ولم تغير نصائح فرات ومساعيه منه شيئا ، وحامد المنغولي الواقع بين الطيبة والبلادة ، وسلمان رجل الدين المنحرف والمتعاون مع الامن ، لقد جمعتهم الرواية في جهد مسبق لوضعهم على راس السلطة ، وهؤلاء سيشكلون رجال المرحلة الحالية الخالية من منطق ، وهم يخلفون الفئات المتعلمة وسيطرون على الدولة ويقودون السلطة .
وضع المؤلف كل المتغيرات السيئة والتراجع الحضاري الرهيب الذي حدث بعد غيبته على مسؤولية فرات وعاتقه ، وهو من جهة اخرى ضحية النظام السياسي الذي اضطره للغيبة ، ولم يذهب الى حوض النتروجين لرغبة زائدة او متعة شخصية ، لكنه اعتبر في نهاية الرواية غيبته وهروبه من الواقع جرما ( لو لم اهرب انا في بطن العلم والآخرون الى الخارج ، وتركنا البلد لهؤلاء اللصوص المجرمين لما اصبح حامد المنغولي مثل البلاد الاعلى … ) وفي ذلك اخفاء لدور المجرم الحقيقي الذي ورط البلد بقادسياته المشؤومة ونازيته التي طالت الاخضر واليابس ، واراد الكاتب ان يبرز لنا دليلا على مايقول هو بقاء الشاعر (عرفان موسى ) واقفا في احدى مكتبات الانتفاضة التشرينية في ساحة التحرير حيا . وظل نضاله مستمرا بالرغم من تقدمه بالسن ، لكن الامر يمكن ان ينظر بشكل آخر هو انه بالرغم من بقاء هذا الشاعر في البلد وعدم مغادرته فان حامد المنغولي مازال مثل البلاد الاعلى .
كنت اظن ان فراتا سيختفي في التحرير ويعوض مافاته بالوقوف مع الصبية والشباب والشابات الذين امتلأت ساحات البلد بهم وبتضحياتهم ، ويدفع نفسه في مواجهة مع الذين ساعدهم في مقتبل حياتهم ( حامد وطارق وسلمان ) ومجموعة اخرى من بقايا النظام السابق دخلوا معهم ليخلقوا الواقع الجديد . لكن الامر جرى بشكل مأساوي جديد وهو انتحار بطل الرواية وانطفاء الامل بالتغيير وانتهاء الزمن المتعلق بفرات وانغلاق كل الطرق المؤدية الى الوقوف بوجه حامد وطارق وسلمان .
كل الفصل الاخير من الرواية (16) اقصر الفصول ، فلم يتوسع به الكاتب افقيا بل حفر بئرا مظلما رمى به كل ماضي فرات وارثه ، فسمعنا في النهاية صوتا رهيبا لاصطدام هذا الماضي في قعر ذلك البئر .
تميزت الرواية بشجاعة الطرح، وهي في نفس الوقت رشيقة بديعة تجبر القارئ على متابعتها والتفكير بذلك الماضي القريب الذي عاشه اعضاء فئة سياسية معروفة واصدقاءهم، وسيجد القارئ عددا من المشتركات حدثت معه شخصيا ، لانها حفرت في عمق الحدث وعكست كثيرا من الاحداث والصور ، وحاولت تلمس الاسباب التي ادت ببلدنا الى قعر الحضارة .