23 ديسمبر، 2024 5:14 ص

قراءة في رواية فندق كويستيان

قراءة في رواية فندق كويستيان

منذ اللحظة الأولى وهنا نستعير”مقاربة لفظية” للنص، يضعنا الكاتب خضير فليح الزيدي في روايته “فندق كويستيان” الصادرة عن دار الحريري في بيروت 2014 ، أمام الاختبار الأمثل للوظيفة الحقيقية للسارد، على حد قول “رولان بارت” ليست الوظيفة الوعظية أو الإخبارية ولا حتى السردية بل وظيفة من يمنحك الإجابة على سؤال لن تجده مكتوباً في متن النص، “أن يكتب الكاتب يعني أن يهب منذ اللحظة الأولى الإجابة الأخيرة للآخر: ص8” وهنا تكون الإجابة عن المعنى في “الجدوى”، الجدوى من ممارسة غواية الكتابة وليس هوايتها، الجدوى في أن تكون هنا في بغداد وليس هناك في برلين، الجدوى في أن تبحث بين خيوط متشابكة لثلاثة عقود من زمن مكهرب بالفوضى والحروب، الجدوى من الهروب، الجدوى من الحياة نفسها.

وفي مفتتح شعري للكاتب الأمريكي براين تيرنريمنحنا الكاتب فرصة أن نتلمس طريقنا في “فندق كوستيان” والذي يبدو منذ وهلته الأولى معبداً برعب الانفجارات وليس الاحتمالات،”ما أن مرت لحظة على الإنفجار: ص7″ ثم تأخذ تعدديات “المدلولات” الصورية بانثيال وكأنها شريط سينمائي سالب لم يمنتج بعد”رجل عجوز يترنح- يداه تضغطان- اصوات الجرحى- المباني تحترق- عمود هائل من الدخان- أوراق تتجعد في القمم الزرقاء ص1″ ثم تايتل وسط الشاشة-النص، ونقرأ”وتمر اسابيع” وكأننا أمام ملحمة ميتافيزيقية ليعود تدفق الصور،”لون الغروب- حقول الربيع-غسق الخزامى- حقول الترمس- ليجدوا انفسهم مكسوين بالرماد- قصائد زهير ابن ابي سلمى في شعرهم- قصائد سعدي الشيرازي على حواجبهم- قصائد حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي على شفاههم: ص8″.

بعد أن ينتهي تأثير الصور على المتلقي يبدأ فعل السرد المحكي بلسان الراوي، وهنا تكمن فذلكة الكاتب في انه استطاع ان يجمع بين عين السينمائي الثافبة والريشة المبدعة للرسام وموهبة الكاتب وعفوية الانسان.

“في هذه اللحظة بالذات تجاوز عمري الخمسين سنة عراقية: ص9″ وهنا لم يترك الكاتب – الراوي العنان لخيال المتلقي ليستبطن المعنى من أن يكون المرء عراقياً!مُستلا من تأريخ استطاع أن يجمع بفرادة بين الإنساني والدموي، ولأن السنوات العراقية لاتشبه غيرها من السنوات على وجه الأرض فهي بحاجة لمن يفسرها بطريقة أقرب ماتكون إلى”الحاكي الشفاهي” والفرق هنا، ان “السارد-الحاكي” سيتحدث بضمير”الأنا”وليس”هم” وزمن “الحاضر” وليس “الماضي”

فنحن في العام2007 في “سنة السبعة المنحوسة” على حد تعبير الشيخ حمادة أحد شخوص الرواية “ماتحتها غائم وما فوقها معتم: ص77”.

وفي رؤية ذهنية بطابع سردي استرجاعي flash backمتعدد الأصوات يأخذنا الكاتب خضير فليح الزيدي في سفر(زما-كاني) يمتد افتراضياً لأكثر من عشرين عاماً تتوزع فصوله بين حيوات متباعدة في المسافة، ضيقة الحدود في الروح واللغة، أراد لها الكاتب وعلى مساحة 30 فصلاً وأكثر من ملحق رقمي وقصيدة أن تكون إضافة جديدة واعية لرفوف المكتبة في أدب “الميتا سردي” من خلال مخطوطة منسية في زويا النسيان عن رحلة منفلتة من ذاكرة إنسانية أسماها “حديث الريم” “والرواية مخطوطة تعود إلى حرب الثمان سنوات كما يسميها الأخ علي عبدالهادي واعتقد ستفتح فتحاً عميقاً في الرواية العراقية: ص89” وهي مخطوطة عن الموت والمشاعر”انها تحتوي على معلومات مهمة عن “ريم الموت” السيارة التي اختفت في الجنوب وعلى متنها 38 عراقياً؟ ملخص روايتي سفرة برية من بغداد الى البصرة في سيارة ريم أبان حرب الثمان وتحدث المفاجأة الكبيرة لها علاقة حب غير مصرح بها بين البطل المسكين وامرأة ذاهبة للبحث عن زوجها: ص90″ وهذه السفرة البرية من بغداد الى البصرة في ثمانينيات القرن الماضي قدر لها أن تكون بداية النهاية لرحلة كاكة ناصر الحياتية التي ابتدأت في منطقة الدير شمال البصرة في مركز تسليم الشهداء في جبهات قتال الفيلق الثالث لتحط الرحال مؤقتاً في شقة برلينية فاخرة في أحد شوارع برلين الجميلة (زونين اليه) ومن ثم يقفز بها الزمن إلى بغداد في سنتها السابعة بعد الألفين أو “بغداد تحت السبعة” حيث كل شيء غائم وغير واضح كما يقول ناصر”شيخ حمادة مثلا وحده يستطيع تفسير الوضع العراقي من وجهة نظر تحت وفوق السبعة بوجهة نظر مختلفة عنا..هو العراقي الوحيد وأمثاله يستطيع ادراك مايحدث والتماشي معه وهو الوحيد الذي له القدرة الفائقة على تقبل الوضع العراقي وكأنه في جنة أرضية: ص77″، ومن خلال هذه المخطوطة يقودنا الكاتب الزيدي إلى بدايات تلك العلاقة التي جمعته بالسيدة رباب حسن التي صادفها وهي في طريقها إلى البصرة في رحلة البحث عن زوجها المفقود في جبهات الحرب،”في سيارة الريم….جلست قرب امرأة ثلاثينية ملفعة بالسواد تخفي بعضا من وجهها المضاء بعباءة شديدة السواد وذات لمعة حادة….. تدعى رباب حسن

وتسكن في بغداد …. يختفي الزوج في ظروف معركة غامضة لم يخضها كهذه..لم يعد إلى بيته منذ أربعة اشهر..رباب المسكينة تعبت من البحث عنه والسؤال عنه في كل مكان ومتابعة المذياع:ص94 ” هذه الرحلة القصيرة التي قادته للتعرف على هذه السيدة التي وجد فيها ضالته رغم ابتعاده عنها كل هذه السنوات جاءت به أخيراً الى بلد الجمرة كما يسميها صديقه علي عبدالهادي.

من وجهة نظر الناقد العراقي دكتور حسين سرمك للمنجز الروائي ” أن الأدب عموما والرواية خصوصا تُعدّ من مصادر دراسة الشخصية القومية، لكن من الأمور المفروغ منها هو أنه ليس من مسؤولية الروائي أن يكون مؤرخا ولا محللا اجتماعيا، كما أنه ليس من واجبات الرواية، حيث يستطيع أي مؤرخ أن يسجّل الحوادث التاريخية ويعرضها أفضل من أي روائي، مثلما يستطيع أي عالم اجتماع تحليل الوقائع التي يمر بها المجتمع أفضل من أي روائي أيضا.لكن من مسؤولية الروائي الشهادة الحيّة والتفصيلية على حيوات شخوصه وتحولاتها السلبية والإيجابية، هذه التحولات التي لا تجري في وسط مفرغ من الأشخاص والمؤسسات والأفكار. إنها تحيا داخل شبكة هائلة من العلاقات وتتعرض لمقادير لا تحصى من مؤثرات مكونات النسيج الاجتماعي الذي يحيط بها. ولكن على الروائي أن ينتبه إلى “وظيفة” أي معلومة تاريخية أو اجتماعية يذكرها ، وظيفة سردية تحفظ السياق الحكائي وتعزز لحمته وتغنيه، وتكشف محطات ” تأريخية ” و”اجتماعية” تثري حضور الشخصية وتوسّع دائرة أفكارها وتعزّز مصداقيتها.

وفي رواية فندق كويستان حاول الروائي خضير فليح الزيدي الخروج من مشكلة التقريرية والإخبارية وحتى التوجهات الأيدلوجية، في أنه جعل من التداخل السردي: طريقة لاصطياد اللحظة الروائية من خلال افراز حالة مستمرة لتداعي الوعي بطريقة شخصية أكثر منها مسيطر عليها من قبل الروائي ذاته.

وهذا يحدث في كثير من الفصول التي يستدعي البناء الروائي(الزمن – الحدث- المكان- الشخصيات) فيها وجود أكثر من صوت كما في حوارات همام وناصر علي عبدالهادي في الفندق”السلام عليكم وقد عرفني على الفور..قال انت علي عبدالهادي بندر..كان همام يتحدث كثيرا عن نفسه وبطولاته الجنسية ص68-72 ” لقد أراد الكاتب في هذه الصفحات أن يُخرج القاريء قليلاً من أجواء الحرب

وماكانت تمر به بغداد تلك الأيام بعد الكم الهائل من الصور النثرية التي ابدع ايما ابداع في رسمها وهو يتحدث عن مدينة تأن تحت معاول الحرب” أذهلني منظر بغداد من الجو……… تبدو بغداد من الطائرة هادئة مستسلمة إلى قدرها يحيطها ضباب مشوش .. تتلقى الطعنات كثور في مضمار مصارعة الثيران …اثقلتها طعنات خناجر مصارع ثيران نزق ومراهق ومعربد سكيرالمصارع يغوي الثور المتعب المسكين والمترنح بالخرقة الحمراء، فيتناوله مصارع اخر بطعنة خاطفة على الفخذ فيجثو الثور على قائمتيه الخلفيتين ..يفاجئه مصارع اخر بطعنة رمح اخرى ليهوي بكامل جسده ويتلطخ وجهه ودمه بالتراب .. اهذه بغداد ام مقاديشو؟؟ ص34 ” وفي انتقاله في متن النص ينتقل الكاتب بنا ومن خلال عرض المخطوطة للطبع للتساؤل عن مهمة الكاتب”ماذا تريد من الرواية العراقية الجديدة: ص91؟”

ونجد الاجابة قد سبقت السؤال في محاولة الكاتب الحثيثة لتحديد هذه المهمة وفي بلد يغلي مثل العراق، فهو يحيب “اذا ما قهرنا الزمن في الحياة، سندحره في الكتابة، وسيلتنا الوحيدة ضد العفن الحياتي بخنجر الزمن الذي زحف على ماتبقى من ايامنا ص18 “.

جمالياً فلقد اغنى الروائي الزيدي روايته بكم هائل من الصور الغنية بالأنساق السيمولجية كانت “المدلولات” فيها تتسابق لتقديم المعنى”لحظة واحدة مرت بسرعة للاسف ادركت انها كانت سنوات تبخرت من اصابع كفي .. سنوات كفرطك حبيبات الرمان مرَّ كرمشة عين من اجل تراب وطن اجرد واملح .. ايباه لدينا الكثير من تراب الوطن والقليل من الحياة الامنة للعيش الرغيد: ص24 ” ان ناصر الذي يستبدل رفاهية العيش في برلين من أجل أن يبعث الحياة في ركام ذكريات بعيدة جداً ومن أجل أن يعيد قراءة ما حدث وما أُسس لما يحدث من خلال مخطوطة منسية، يكتشف عمق الماساة التي كانت تكرر نفسها بزمن اضحى يغلفه السكون والرتابة والانتظار لما هو اسوء،”ناصر الكردي بطران ..أي مخطوطة وأي رواية .. جرثوكة البلد تصيبهم بخيبات كبرى، ثم سرعان مايعودون الى أوطان المنافي، مختصرين بذلك اجازاتهم: ص25 “، لكن ناصر يرى غير مايراه الآخرون أنه يتشبث ببقايا حلم يحاول الإمساك به ليعيد ترميم ما تخرب من

حياته،” أنا حذرته من الدخول الى الشارع المحتدم بأنواع الرصاص والقذائف..الرجل كان غريب الطباع ولم ينصاع لكل تحذيراتنا….الرجل كان يسير شبه المغمى عليه ..واضعا هاتفه على اذنه..ويوزع ابتساماته للرصاص:ص173 “.

تعتبر رواية “فندق كوستيان” انتقالة مهمة في الأدب الروائي العراقي ما بعد 2003 لأنها سجلت وبامتياز قدرة الروائي العراقي على التعامل مع حيثيات الواقع العراقي بكل مافيه من ارباك وتعقيد ليقدمه بصورة جمالية وسردية تلبي كل طموحات الواقع الثقافي للعراق.