في التاريخ، تاريخ اي شعب، وفي تدوين مرحلة مهمة من تاريخ هذا الشعب؛ تُغيب مأساة البشر، ومعاناتهم، وما يتعرضون له من قسوة وظلم، وهنا يأتي دور الادب وعلى وجه التحديد الرواية. أن التفاصيل التي تتعلق بحياة البشر والذين هم وبطبيعة الحال، أداة مرحلة ما في تاريخ الشعب ما، وهدفه، وضحيته في آن واحد. ان تعرية الشراسة التي يتعرض لها الناس، لا تجدها في المدونة التاريخية مهما كانت حياديتها وانصافها؛ لأنها وببساطة لا تنصرف في البحث عن ما تخلفه هذه المرحلة من التاريخ من طحن وسحق لروح الانسان، ومعها وفي تلازم متوائم تمزيق جسده بما يخرجه من الخدمة الانسانية لروح صاحبه، أذ تحوله الى كتلة من اللحم والعظام، غير قادر على الحلم والأمل، وبالتالي يخسر قوة الحياة فيه، وكرامة الأنسان. رواية بين اليأس والأمل للروائي الهندي، روينتون ميستري، التي يتولى السارد فيها، للأحداث وضحاياها؛ الكشف عن مرحلة مهمة في تاريخ الهند. الرواية كلاسيكية تماما. لكن المهم فيها هو تحريك الاحداث بحيوية، وفعل الشخصيات بطريقة تبدو للقاريء وكأنه يراقب المشهد من مكان قريب او في وسط المشهد، وهذه براعة مذهلة، في ان تتحول الكلمات الى كاميرا تنقل الحدث الى القاريء المشاهد في لحظة وقوعه أو أن القاريء يسحبه السرد عقليا وعاطفيا، من الصفحة التي يقرأ الحروف فيها الى المشاركة تضامنيا مع أوجاع وألام الضحايا؛ ليقف مندهشا لكمية الشر في البشر حين تقتضي المنافع والمصالح الأنانية؛ تدفقه بشراسة من الأمكنة المعتمة في العقل والنفس معا . تتناول الرواية مرحلتين في تاريخ الهند؛ مرحلة الاستقلال، ومرحلة الاضطرابات، وقانون الطواريء في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم. اربع شخصيات من الشخصيات المحورية في الرواية، تمثل الهند طبقيا، أوم وآيشفار من الطبقة الدنيا في النسيج المجتمعي في الهند، دينا من الطبقة الارستقراطية، ومانيك من الطبقة المتوسطة. يحاولان أوم وآيشفار، الهندوسيان، التخلص من الظلم الذي يتعرضان له في منطقة جبلية نائية لم تصل لها الحضارة والمدنية، يدخلان العاصمة، بحثا عن عمل يلائم قدراتهما في الخياطة فقد تعلماها بمساعدة الخياط أشرف، المسلم، صاحب ورشة الخياطة، وصديق العائلة، الذي يدفعهما الى مغادرة المدينة الصغيرة، والقريبة من القرى البعيدة في الجبال، بعد سيطرة الالبسة الجاهزة على السوق. في الليالي والايام التي اعقبت انسحاب بريطانيا واعلان استقلال الهند، الذي صاحبه تقسيم شبه القارة الهندية؛ يبدأ الهندوس في الليل على وجه التحديد، بمذابح طالت الاقلية المسلمة. في احد الليالي، هاجم الغوغائيون ورشة الخياطة لأشرف حيث كان يسكن مع عائلته في الطابق الثاني، فيما أوم وآيشفار ينامان في الورشة التي يعملان مع اشرف فيها؛ يقوم الغوغائيون بكسر الباب واقتحام الورشة، بحثا عن اشرف وعائلته. يتصديان أوم وآيشفار للغوغائيين، ويقدمان نفسيهما على انهما مالكان للورشة والشقة التي فوقها، ويدور الصراع بالكلمات بينهما، في الاخير يقتنع المهاجمون بان الورشة والشقة يتملكها هذان الهندوسيان، بمساعدة الهندوس من اصحاب المحلات في الشارع، والبيوت الصغيرة التي تضمهم وعوائلهم كمساكن لهم؛ يؤكدون للغوغائيين؛ ان الشقة والورشة يملكاها هذان الهندوسيان. نلاحظ في هذه الجزيئة المهمة من كتلة الرواية، هناك حالتان او موقفان متناقضان ومتقاطعان؛ الأول يمثله الهندوسيان، ايشفار وأوم، وسكنة الشارع، جميع هؤلاء يمثلون روح الشعب الهندي في الرقة الانسانية، والتألف والتعايش في فضاءات الأخوة الانسانية. والثاني لا يمثل روح الشعب الهندي بل يمثل الجانب السياسي، والذي يلعب لعبة الانتقام و الثأر، مع ان من كان يقود الهند في تلك المرحلة هو المهاتما غاندي، بطل الاستقلال والسلام بكل جدارة واقتدار، لكن، هناك قوى، خارج سيطرة غاندي، لعبت لعبة الشر هذه، والتي طالت حياته، في نهاية المطاف شخصيا. في هذه الجزئية المهمة، أراد الكاتب السارد، ان يقول للقاريء؛ ان اللعب على عواطف الناس، يأتي بالفظائع والمذابح، والتي لا علاقة لها بروح الشعب بل استثمار لرد الفعل على فعل التقسيم، بثورة غضب، مشحونة العواطف بخطاب مؤدلج ومصمم لمخاطبة العامة من الناس الذين يغيب العقل عنهم في لحظة فوران الحس الوطني، وكأن التقسيم من صنع المسلمين في الهند وليس هو بالكامل، صناعة بريطانية. تنتهي الرواية، نهاية مأساوية، حيث يتم سحق آدمية ثلاث من الشخصيات الرئيسية، أوم، وآيشفار، ودينا التي تعود مضطرة الى بيت اخيها بعد ان تتخلى نهائيا عن استقلالها عن اخيها، وتترك ورشة الخياطة الصغيرة التي تعاملت بها مع شركة هندية لتصدير الالبسة الجاهزة او لبيعها في السوق المحلية، حالها حال المئات من ورش الخياطة. لقد تحولت الى حطام. اخوها يقوم بعد ايام من عودتها، بالاستغناء عن خدمة عاملة الخدمة. تفهم دينا هذه الاشارة، وتقبل بها بلين وهدوء، واستكانة المغلوبة على أمرها، بعد ان فقدت اي أمل في حياة افضل، حياة مستقلة. بفعل قانون الطوارىء والفقر المدقع، انتشرت الرشا والفساد وعصابات الجريمة المنظمة التي يقوم بها من يفترض بهم، محاربتها، والتي تستخدم قانون الطواريء في تنفيذ جرائمها ضد الانسان وبالذات الانسان الذي لا يجد من يدفع عنه الضرر، حيث وضع القانون على الرف، وترك الباب مفتوحا بلا رقيب ولا حساب لرجال الامن والشرطة والبلدية. تنتظر دينا في كل يوم، في الساعة الواحدة، في بيت أخيها، نسوان، أوم وآيشفار، المتسولان، ليتناولا طعام الغداء، خلسة ومن دون علم اخيها وزوجته، اذ الاول في العمل والثانية في النادي. في احد الايام تفاجأت وهي تفتح الباب، بمانيك يقف على الباب، في البداية لم تتعرف عليه بفعل السنوات العديدة التي غاب فيها عنها، لكنها في النهاية تتعرف عليه. لتسرد له ما حدث لها. عندما غادر شقة دينا التي سكنها، مؤجرا لأحد غرفها، خلال سنتين من دراسته، وحصوله على دبلوم فني في تقنيات التبريد والتكيف. استولى مالك البناية على الشقة التي لم يكن فيها من احد الا دينا، فقد غادرها الخياطان، أوم وآيشفار الى بيت اشرف، بحثا عن زوجة لأوم. يتعرضان أوم وآيشفار واشرف في يوم السوق حيث يتوافد سكان القرى البعيدة الى السوق في هذا اليوم. في لحظة مباغته لهم، تهاجم الشرطة الناس ومن ثم تعتقلهم. يتسألون عن سبب اعتقالهم والشرطة تصيح في وجوههم مع الضرب المبرح بالهراوات. اشرف الذي بلغ من العمر عتيا، يتلقى ضربة قوية على قمة رأسه ويسقط، يترك وحده على الرصيف والدم يشخب من هامته حتى يتحول الى جثة هامدة. في مخيم خارج العاصمة، في مكان بعيد عن ضاحية من ضواحي العاصمة؛ تبدأ مجموعة من الاطباء والممرضات والممرضين، بأشراف التخطيط العائلي، في اجراء العمليات للرجال بقطع قناة المني والنساء بقطع قناة فالوب، للحد من الزيادة السكانية. ” أسرَ المدير لمساعده: علينا ان نكون حازمين مع الاطباء، أذا تُرك لهم أمر درء خطر الانفجار السكاني، فستغرق الأمة، وتثبت على وتد حتى الموت، وتنتهي حضارتنا.” يعودا بعد ان تم قطع قناة المني لكيلهما الى خيمة الرجال. يبكي آيشفار في نوبة بكاء مر على ما حل برجولة ابن اخيه الذي انتوى تزويجه. ” .. رجاءً أصغِ إلي، يا سيدي الطبيب، أتوسل إليك!. رجاءً يا سيدي الطبيب، ليس أبن شقيقي! اقطع ما يحلو لك من أعضائي! ولكن أعفُ عن ابن شقيقي! لقد انتهت ترتيبات زفافه!” يلعب بهما القدر وسوء الطالع، لعبة التحطيم النهائي لهما، اذ يدخل عليهما في الخيمة مسؤول التخطيط العائلي الذي كان لأوم أبن اخي آيشفار، موقف معه ذات نهار، قبل يومين من حادثة السوق؛ فقد بصق في وجهه وهو يخرج من المقر الرئيسي للتخطيط العائلي، عندما راه يخرج من البناية، تذكر أوم قسوته وظلمه لهما في السنوات السابقة، فأندفع نحوه بكل ما فيه من قوة، لكن عمه، امسكه مما جعل البصقة تخطيء هدفها، وتسقط على الرصيف بين مدير التخطيط العائلي وأوم ” توجه مسؤول التخطيط العائلي، التاكور دارامسي، في الحال، حين وصل الى المخيم، الى خِيِم النقاهة. توقف التاكور عند اسفل فراش أوم وحدق إليه. فكلم التاكور الطبيب الذي يقف بجانبه بهدوء، وانكمش الطبيب خوفاً، هاز رأسه بحماسة. فهمس التاكور ثانية، فشحب وجه الطبيب.” في الخيمة قال الطبيب لمساعديه وهو يرفع خصيتي أوم: ان هناك ورم في الخصيتين لذا سمح التكاور برفعهما خدمة للفتى. كان صوته مرتجف مما فضح كذبته. بعد ايام ظلا فيها في خيمة النقاهة من غير رعاية طبيه، فقد غادر الاطباء ومساعديهم المخيم عندما انتهت عملية التعقيم للنساء والرجال. تركا أوم وعمه يواجهان مصيرهما. مما زاد الامر سوءا، تسمم فخذي أيشفار. في النهاية تم قطعهما. خرج مانيك من بيت دينا بعد توديعها، وهو في حالة من الأسى والحزن الشديد. ظل واقفا بالقرب من الباب، فهناك ساعتان على موعد اقلاع طائرته الى الخليج العربي حيث امضى ثماني سنوات في العمل هناك. لم تمض سوى دقائق، عندما رأى منصة مدولبة، يجلس عليها رجل او بقايا رجل مقطوع الساقين، يضع اناء التسول في حضنه، يسحبها بحبل، شاب سمين. تعرف عليهما، انهما صديقاه الخياطان اللذان عملا عند الخالة دينا. لم يدخلا الى بيت دينا من الباب، افترا دورة كاملة، ليدخلا من الباب الخلفي. تذكر وقفته قبل ساعات امام شقة الخالة دينا، فقد كان يحلم وهو في الطريق إليها بلقائها مع صديقيه، الخياطين. لم يتعرف على الشقة بل لم يتعرف على الشارع، فقد تغير تماما؛ جميع ما فيه من المباني اصبحت مباني حديثة كما المباني في الخليج حيث كان هناك يعمل لثماني سنوات مضت. طاف في خياله، وامام ناظريه، متجر ابيه الذي رفض تغييره بما يناسب التطور وتغير الاحوال. اشار الى اول سيارة اجرة لإقلاله الى المطر وهو عازم على العودة بعد تصفية اعماله ومتعلقاته، والقيام بما لم يتمكن أبوه بالقيام به.