23 ديسمبر، 2024 4:58 ص

قراءة في رواية “الهاوية” للكاتبة سالمة صالح

قراءة في رواية “الهاوية” للكاتبة سالمة صالح

رواية “الهاوية” للكاتبة العراقية سالمة صالح تقدم رؤية عبثية عن حياة الإنسان و هذا في محاولة منه لفهم ذاته و ما يحدث من حوله و هذا هو شأن البطل “حسن التمار” المسكون بهاجس “الألم الكوني” رغم أنه جامعي و شاعر مثقف تحصل على فرصة عمل كمحرر في جريدة المساء لكنه يفكر في وضع حد لحياته و كأنه يعيدنا إلى مقولة إرتكز عليها ألبير كامو في جملة من أعماله الأدبية ألا وهي: “هل ثمة في الحياة ما يستحق العيش؟”، هذا ما سيكتشفه القارئ عبر أحداث هذه الرواية.

ما يثير الإهتمام في بداية الأمر هو العنوان الذي يعتبر المنطقة الأولى بصريا و دلاليا لفهم أولي للمضمون اختارته الكاتبة بإمعان كمؤشر تعريفي لمحتوى الرواية بشكل عام.

اختارت سالمة صالح “الهاوية” عنوانا نلج بواسطته عالمها المتخيل و في المعنى العام لهذه الكلمة نجدها تشير إلى وضع خطير قد يؤدي بصاحبه

إلى الهلاك و هذه سمة تضيء لنا الطريق لنكتشف خلال عملية القراءة هوية النص و نستطيع فك رموزه.

يعلن السارد منذ البداية عن إهتمامه بعالم الثقافة و الكتب هو و جملة من أصدقائه “مالك القسري”، “رياض عبد الرحيم” و “هشام عبد الله” و غيرهم لتتضح الصورة جليا منذ البداية حيث يقول: ” و كان الكثيرون منا يذهبون إلى هناك، يعقدون الصداقات، يتناقشون و يختصمون، يختصمون و يتصالحون، يروون آخر ما قرأوه و يتعرضون له بالنقد بجسارة أو بحذر.” (ص 2)

هي ذي شخصية البطل التائهة تعكس حالة الإلتباس في فهم الحياة رغم ثقافته المبنية على قراءة الكتب، و تظهر النص منذ البداية نصا متأزما و محتقنا نفسيا كما يقول السارد على لسان “التمار”: “و أنا لا أريد أن أبلغ حتى الثلاثين.” (ص 9).

منذ الوهلة الأولى نكتشف أن أحداث الرواية تدور مجملا في العديد من المقاهي بإعتبارها الخلفية المكانية التي ينطلق منها النص، حيث يركز السارد على وصفها ووصف مرتاديها بدقة كقوله: ” ودخل رجل وحيد إلى المقهى، تردد برهة وهو يروز الصالة بنظره ثم حزم أمره، تقدم بخطوات ثابتة وجلس إلى المنضدة المجاورة، طلب شايا شربه بتمهل، نهض وتناول واحدة من الصحف الموضوعة على منضدة جانبية، ثم جلس يقرأ، أو ربما تظاهر بالقراءة، لم يضع الصحيفة أمام وجهه كما في أفلام الجاسوسية لكنه كان يرفع وجهه بين حين وآخر وينظر في الفراغ أمامه نظرة توحي بأنه يحاول الإصغاء بتركيز، ثم يعود بنظره إلى نفس الموضع من الجريدة في كل مرة.” (ص 4).

و في ظل الضغوط الموجودة في الحياة أصبح المقهى ملاذا للبطل “حسن التمار” و أصدقائه للهرب من عبثية العالم قبل الحرب، و كل ذلك لم يمنعه من السقوط في حالة من الإحباط النفسي مع فقدان الإحساس بكل شيء

جميل في هذه الدنيا حتى أن السارد يذكر طفولته و ولادته بأسى كبير: ” حين ولد، وكان خامس صبي لأبويه، لم يكن والده سعيدا تماما، فقد كان يريد إبنة تساعد أمها في شؤون المنزل وترعاه في شيخوخته، أما أمه فكانت فخورة بكونها أما لخمسة صبيان، ما لبثوا أن أصبحوا سبعة، ولم يتهيأ لحسن الوقت الكافي ليحظى بإهتمام خاص كأصغر الأبناء. وفيما عدا أخيه الذي يكبره بسنتين لم تنشأ بينه وبين إخوته صلات وثيقة، كان يكبر وهو يرتدي السراويل التي ضاقت على أخوته الأكبر سنا ويلعب بخذروف تركه له أحد هؤلاء الإخوة أو يلوي أسلاكا عثر عليها في صندوق للحدائد في سرداب الدار ليصنع منها عربة يدفعها أمامه في أزقة الحي ويردد الأغنية التي حفظوها قبله.” (ص 12-13).

إن الحالة التي وصلت لها شخصية “حسن التمار” عمقت الهوة بينه و بين واقعه حتى أنه كان يتنكر لشخصيته الحقيقية كما يقول السارد: “مرة تعرف عليه رجل جلس قبالته في الحافلة فسأله بمودة: هل تسمح لي بسؤال، لقد قرأت مقالك في الجريدة أمس. و ليمنع الرجل من الاستطراد قاطعه: لا بد أنك توهمت. لكنك تشبه الصورة في الجريدة.” (ص 14).

يسترعي الإهتمام ظهور شخصية “قاسم مطر” الذي يعرفه الأصدقاء بإسم “رضوان” في حياة “التمار” و هو المحور المهم في تغيير مجرى الحكي في الرواية، حيث أن البطل سيدفع له مبلغا من المال مقابل قتله كونه قاتل مأجور لكن تسائل “رضوان” بدوره عن فكرة الإنتحار التي راودت “حسن التمار”: “…ما الذي يدفع شخص لا يزال في مقتبل العمر، لا يعاني من ضائقة مالية، ليس له زوجة تحول حياته إلى جحيم ولا أطفال ينفطر قلبه حين لا يستطيع أن يلبي لهم رغبة، رجل يمارس مهنة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها محترمة، لا يعاني من العوز إلى الانتحار؟…” (ص 20).

كما أن السارد يعود و يرصد لنا بتشويق كيف يعدل “حسن التمار” عن فكرة الموت و يحاول الهرب من حالة الخوف التي تتملكه من قادم مجهول حيث يقول: “لا يعرف حسن التمار متى حل الخوف محل الألم الكوني، أصبحت حياته منذ أن غير قراره جحيما لا يطاق.” (ص 59).

جاءت لغة النص عموما بسيطة و يسيرة في مجملها تدفعنا لإكتشاف النهاية، و قد استطاعت المبدعة سالمة صالح من توجيه الأحداث ببراعة من خلال استخدام تقنية التوازي بين المتخيل و الواقع و هذا الأسلوب جعل البطل لاعبا ماهرا في ترسيم حدود الحركة السردية بإمتياز.