صدرت عن مطبعة الرفاه رواية للصديق العزيز حسام آل زوين تحت عنوان (المتألم المتأمل) والرواية رحلة شاقة تروي حكايات ومحطات عن ظروف مر بها المؤلف، رواية تُمسك بجمر الحكاية، وتسير بك على الشوك الذي مشى عليه مناضلٌ عراقيّ، قرر أن يهرب من جحيم الاستبداد لا لينجو بنفسه، بل ليلحق بحلمٍ أكبر من القيد.
من جبال كردستان إلى برد روسيا، ومن جبهات القتال إلى دهاليز الخيبة، يسرد الراوي رحلةً مفعمة بالتضحية، والخذلان، والتأمل في ما تبقى من وطنٍ كان يومًا سببًا لكل هذا الألم.
ليست هذه حكاية نصر، بل شهادة رجلٍ ظلّ يحارب حتى بعد أن وضعت البنادق…
يحارب ليبقى صوته حيًّا وسط صمتٍ خانق، وضميره يقظًا في زمنٍ صار فيه النوم شكلًا من أشكال النجاة.
رواية عن الهروب إلى الحقيقة، والعودة إلى الخيبة، والعيش في منطقةٍ معزولة بين “كان” و” لم يَكُن”.
انها تحمل وجع وطن، وصدق التجربة.
وما بينَ ليلتين من ليل العراق، خُلق هذا الحرف…
في الأولى، كان صراخُ امرأة تُخفي دمعتها عن الجدران، تنادي غائبًا لن يعود.
وفي الثانية، كان رجلٌ يسند روحه إلى كتف الظل، يُقلّب خرائط الهرب كمن يفتّش عن مخرجٍ من قفصٍ لا يرى قضبانه، لكنه يشعر بها تُطبق على قلبه.
ما بين ليلتين، يُولد المنفى.
هذه ليست رواية، بل جُرحٌ طويلٌ لم يندمل، امتدّ على هيئة طريقٍ وعرة، حفرتها أقدام الهاربين من الجحيم، وسُفدت بدماء الذين لم يجدوا سوى الجبال ملاذًا حين ضاقت الأرض بما رحُبت. هنا، حكاية رجلٍ ما سقط من ذاكرة وطنه، بل دُفع للسقوط دفعًا، ووجد نفسه، ذات فجرٍ جبليٍّ بارد، يحدّق في السماء محاولًا أن يفهم: كيف لوطنٍ يُنجب أبناءه من رُحم العذاب، أن يأكلهم حين يشتد عودهم؟
لقد سار بطلنا، لا على قدمين، بل على رماد الطفولة، وأشلاء الرفاق، ومجازر القرى، وصدى أسماء لم تُسجّل في دفاتر التاريخ. سار بخطى ثقيلة، يتقافز بين موتٍ مؤجَّل وآخر وشيك، حالمًا بكلمة سرٍّ قيل له إنها طريق الخلاص. لكن، أي خلاصٍ ذاك الذي يمرّ عبر حدودٍ ممزّقة، وكهوفٍ تعجُّ بالخوف، وأيامٍ لا يعرف فيها من يقاتل مَن، ولا لمَ؟
لم يكن بطلاً كما تصفهم الروايات. لم يمتلك إلا قلبًا يدقّ خارج إيقاع القطيع، وعقلاً ما أطاق أن يُصفّق للمشانق. كان يرى أن الوطن ليس اسمًا على الخارطة، بل رعشة في الصدر، ودمعة تتسلق العين حين يُغنّى النشيد، وصرخة تُقال في وجه من يُراد له أن يكون إلهًا صغيرًا يوزّع الحياة والموت بمزاجٍ مريض.
هرب… لا جبنًا، بل لأن الشجاعة أحيانًا هي أن تختار طريقًا يُوجعك أنت وحدك، لا أن تُوجع به الآخرين. عبر الجبال، جاع، وخاف، وتخفّى، نام بين الصخور، وأفاق على أصوات الطائرات لا تعرف الفرق بين مقاتل ومارق. سار نحو المجهول، لا حبًّا به، بل لأنه كان النقطة البعيدة التي قد تمنحه فرصة التنفس… فقط أن يتنفس.
ثم عاد.
عاد حين سقط الوحش الذي أحرق البلاد عقودًا. عاد حاملًا قلبه كما تركه: مكلومًا، منتظرًا أن يجد ما يُبرر كل تلك الدماء، كل ذلك البرد، كل تلك الأحلام التي جُمّدت في ممرات الموت.
لكن البلاد لم تكن تنتظر أبناءها.
وجد نفسه غريبًا في مدينته، مُحاطًا بوجوهٍ لم تُقاتل، لكنها تحكم. وجد أن الخيانة صارت وجهًا مقبولًا، وأن المصلحة لبست زيّ الشرف، وأن الذين ماتوا لا يذكرهم أحد، لا شارع باسمهم، ولا حتى خبرٌ في صحيفة. لقد سرق الطغاة الماضي، لكن من سرق الحاضر كان أكثر مهارة، وأكثر خبثًا.
فماذا يفعل من قاتل لأجل فجر، حين يجد الشمس وقد بيعت في المزاد؟
جلس الرجل، بعد كل ذلك، على أطراف الذاكرة، وأخذ يتأمل. صار يرى نفسه طفلًا في الأزقة، شابًا في المنافي، مقاتلًا في الثلوج، ومنفيًا في وطنه. صار المتألم المتأمل، لا هو قادر على النسيان، ولا هو راغب في العيش دون معنى.
هذه الرواية ليست للتسلية. إنها نايٌ مكسور يعزف على وترٍ وحيد. هي مناجاة من خسر كل شيء، ثم جاء يكتب لا لينتصر، بل ليفهم.
أن تفهم، في هذا البلد، نعمةٌ ثقيلة، تكلفك كثيرًا.
أن تتأمل، بعد أن تتألم، فهذا هو النبش في الرماد بحثًا عن جمرة لا تزال حيّة.
فهل تجدها معه؟
اقرأ… وستعرف.