23 ديسمبر، 2024 6:24 ص

قراءة في رواية ( أساتذة الوهم ) للروائي علي بدر

قراءة في رواية ( أساتذة الوهم ) للروائي علي بدر

منطقة الأوهام تجدف في مأزومية تراجيديا الشخوص
مدخل : يتساوان كلا من ضمير السارد و الشخصية الروائية المتمثلتان في معايير القول السردي في عنوانات تجربة عوالم الروائي علي بدر ، بدءا من رواية ( بابا سارتر ) و حتى رواية (الكذابون يحصلون على كل شيء ) . فالقارىء لمجموعة هذه الأعمال الروائية لبدر , عله يعاين مدى صلة شخصية السارد في مجسدات و تماثلات الشخصية السردية الكامنة في بنيات الفضاء النصي المشارك . و انطلاقا من هذه الحدود التي تلخص لنا ، علاقة السارد الشخصية إزاء محورية شخوص الرواية المحكية ، حيث نلحظ بأن الأمر بات فاعلا في رواية ( أساتذة الوهم ) . غير أننا وجدنا في الوقت نفسه السارد في هذه الرواية أضحى نموذجا شخوصيا متخفيا أو غير متخفي ، أو أنه بعبارة أخرى يبدو على هيئة صيغة متعينة في ظل حكاية المروي عنه ، و الذي بات هو من يتكفل في ارساليات و محكيات مجمل مبثوثات التبئيرات الروائية .

ــ السارد و التقطيع الزمني في الرواية .
إن الخطاب الأسنادي و التعليقي في مسار الرواية ، حل علينا ضمن تدخلات صوت السارد الشخصية ، إذ تقدم السارد بهما في محاور تماثلات الشخوص و في مواضع حواراتهم و تنقلاتهم ، في مساحات فضاء السرد . و تبعا لهذا نجد إن هذا السارد هو من غدا يفضي بموجهات الخطاب : كأن يورد جزءا منه بخطاب غير مباشر ، فيما يباشر في نطاق تبادلية الشخوص و الأدوار و سياق الحبكة و مواضع القول التعليقي من خلال خطاب يبدو أكثر مباشرة في توزيعاته للمشاهد السردية المحكية .

1ــ الفضاء الزمني للأحداث الروائية :
إن مجاليات الترتيب الزمني في أحداث رواية ( أساتذة الوهم) يقوم على بنيات استرجاعية / ارتدادية ، فيما نجد ثمة مشاهد سردية تلتزم من الروائي تقديمها قبل زمن حلولها في مبئرات المتن الوظيفي في السياق السردي ، بمعنى ما ، هناك وقائع في مسار الحكي قد أعلن عنها الروائي ، و منذ بدايات الرواية ، فيما قام بسردها في أماكن متقدمة من النص ، و في حدود شكلها المكمل لمسلمات المروي في فقرات النص : و لتوخي الدقة لابد من القول إن المبنى الروائي في الرواية ، قد جاءنا مسبقا على مستوى من فقرات و شواهد التقطيع الزمني ، و هذا الأمر بدوره لربما حل حلولا لا يطيل من الوقوف الاختزالي ، لتلك الخطاطة الزمنية التقطيعية التي انتظمت وفقها الأحداث أولا في صنيع الرواية. لقد أعلن لنا الروائي و ضمن الفصل الأول حدود هذه العنونة ( حينما يظهر الجنود الشعراء في رسالة غير متوقعة ) و تبعا لهذه المفصلية العنوانية الأولى من زمن الرواية تبرز لنا مسلمات حبكة الرواية و بوسائط من التقديم الرسائلي ، الذي كان يشغل طرفه الشخصية ليلى السماك منها إلى جهة المرسل إليه وهو السارد الشخصية في الرواية، و الذي كان دوره في النص ، كما قلنا سلفا ، أشبه بما يكون عليه الحال في خصيصة المتون الهامشية أو حالات الوسائط النقلية أو سلطة المتكفل بين الأطراف الشخوصية رويا على خطى السرد . إن الصراع بين هذه الشخوص في الرواية كان معبرا عن مأزومية غياب ذلك الواقع المتمنى لكل طرف من اطراف تلك الجماعات . كحال جماعة بهية العاهرة و جماعة الساعة الخامسة ، و هذه الجماعات تشكل بذاتها فئات أدبية لها توجهاتها الخاصة في كتابة الشعر و الرواية و الفنون الأخرى . و تتكون هذه الأخيرة كما تخبرنا الرواية من خمسة شعراء ، كان الأبرز فيهم هو الشخصية الدكتور ابراهيم و منير . أما االجماعة الأولى فهي ثلة تختص بالأوهام تختص بالعبثية و الغرائبية و نزولا إلى عمليات السطو و السرقة و التلصلص و الفرار من الخدمة في الحرب ، حيث كان الأبرز فيهم هو الشخصية المحورية عيسى . و يحدثنا السارد كثيرا عن خصائص كل من هذه الجماعات . فكان لكل جماعة خصوصيتها و أثرها غير أنهم متفقين جميعا على ذات المستوى من الأرسالية الوهمية في التصرف و الهاجس و الواقع الملتبس ، و الذي آل أخيرا بهم بالفشل و الانسحاب داخل فوهة طاحونة الحرب و الأحلام المفقودة . إن طبيعة علاقة السارد مع رسالة ليلى السماك لا تهتم كثيرا ، بإيراد كل تفاصيل حياة الشخوص في الرواية ، غير أنها كانت بمثابة البوصلة و المحرك الذي راحت من خلاله مخيلة السارد المباشرة تهم بتعريف حكاية الجنود الشعراء في العراق مع التطرق إلى سير حيواتهم الشخصية ، بالمناسبة كان أحد أولئك الجنود هو شقيقها منير و عيسى و السارد الشخصية نفسه ، و هنا الحديث للرواية : ( كانت رسالة ليلى السماك ـــ الرسالة التي ذكرتني بتلك الأعوام المنسية من حياتي ـــ غير متوقعة أبدا / كانت الرسالة مرسلة من روسيا .. و قد لحظت ذلك من الطابع الملصق على المظروف قبل أن أقرأ العنوان .. قرأت الرسالة بسرعة .. كانت مكتوبة بلغة بسيطة و بطريقة منظمة .. ذلك أنها مقسمة على شكل فقرات : قالت ليلى في ثاني فقرة منها أنها ألتحقت هذا العام ببرنامج الدكتوراه في جامعة بطرسبورغ .. و ستكون أطروحتها عن شعراء روس ماتوا مجهولين في السجون أو في معسكرات الأعتقال تحت الحكم الستاليني ./ الرواية ) في الواقع أن حقيقة رسالة ليلى إلى السارد جاءت على عدة محاور و فقرات ، منها ما كان مبتسرا يتحدث حول حياتها الشخصية في روسيا ، و ظروف هجرتها إلى روسيا أيضا ، وصولا إلى أشارتها الأسقاطية حول وضع والدها المنزوع في بغداد ، و حكاية أفتراقها عن والدتها الروسية ، التي قامت بالرحيل إلى مدينة أخرى لم تحدد أسمها . قلنا بأن رسالة ليلى كانت تحاول الولوج للحديث عن وقائع أطروحتها ، و هذا الأمر نفسه ، الذي كان يسعى السارد إليه لأجل كشف مضامينه المخبوءة في جوهر طيات الرسالة : ( و قالت في رسالتها أنها تريد أن تصنع نوعا من المقارنة أو على الأقل نوعا من المقاربة تجمع شعراء عراقيين عاشوا أعوام الثمانينات في العراق .. و الشعراء الذين ماتوا أو قتلوا في ظل حكم صدام حسين و لم ينشروا شيئا عن شعرهم .. مع هؤلاء الشعراء الروس المجهولين الذين عاشوا في حقبة مشابهة .. ذلك أنها ترى تشابها كبيرا في المرحلتين . / الرواية ) . ولعل مبدأ هذه الشراكة بين رسالة و أطروحة ليلى و رواية المؤلف / السارد الشخصية ، هو ما بات يشكل تلك الإقامة المزدوجة في زمن المحكي ، صعودا منه إلى مرويات مضاعفة في صنيع الرواية و أحداثها ، و سيرة شخوصها القابعة في صورة سيرة المؤلف أولا و أخيرا . غير أن رسالة ليلى قد حلت كوظيفة توسطية نحو ملامسة و كشف جوهر العلاقات النصوصية و الشخوصية في مصائر أحداث الرواية .

ــ شواهد النص و مرايا وقائعه .
و عليه فأن فضاءات رواية ( أساتذة الوهم ) تجذب الانتباه خصوصا و إن مسار أحداث شخوصها ، جاءتنا ضمن أزمنة الحروب في العراق ( الأولى ــ الثانية ) و تحديدا في عام 1987 : ( مشهد من بغداد في العام 1987 : كنا ثلاثة منير و عيسى و أنا .. نقف قبالة مقهى صغير .. في زقاق قاتم و معتم / عيسى بدا حزينا ذلك اليوم بوجهه المتعب المهزوم .. و مع انهمار قطرات المطر الغزيرة انتابه شعور بالتردد.. تمتم بكلمات غير مفهومة .. وهو يسحب نفسا من سيجارته / كان منير يضع كتابا سميكا لكاتب انجليزي ذائع بين الشباب .. مسح أنفه المحمر من البرد ثم خبأ يده في جيبه : ــ نعم لقد أمطرت كثيرا هذا اليوم .. قال بصوت خفيض كأنه صوت منجم .. فرفع عيسى رأسه لينظر نحو الغيوم التي تنث رذاذا متلاحقا : قلت لهما ــ ظننت في البداية إن من الأفضل أن لا نقوم بهذه النزهة .. لأن الجو رطب و سيء .. ولكن ما أن قرأ عيسى قصيدته حتى تغيرت / البداية / فصل : شباب يحلمون بالشعر ولا شيء آخر : الرواية ) . فها هنا تبدو مرحلة مسيرة الأبطال الشعراء الثلاثة ، حيث تضعنا ظاهرة وجودهم كشعراء في زمن الحرب جنودا أمام حسية عدمية الشهادة و التوثيق لحضورهم الممسرح في شوارع و دور الحانات و دبق مقاعد المقاهي في وضع مأزوم من واقع مفرغ من أحلامهم و أسئلة طموحاتهم الضالة و التي تحولت مع زمن شدائد الحرب إلى جلبة ساخرة من حزم الأوهام و دوائر العلاقات الفنتازية مع أشكال أحوالهم الشخصية التي راحت تشكل بذاتها مدونة صاخبة بالأوهام و المأزومية .

ــ حياة الشخوص / و إحتفائية لحظة الحرب .
إن البلاغة الكبيرة في مجريات و مقاربات رواية ( أساتذة الوهم ) تكمن قيمتها في مضاعفاتها لمادة تولد زمن أنشغال أفرادها في أماكن الأنفصال و النقص ، و الغياب و الصمت أحيانا عن ذلك الواقع المادي ، المتمثل في خطاب الحرب و قيود حالات العسكرتارية و مساءلة الواقع الشخصي في مواقع ترابطات الأزمات المادية و المعنوية في حياة الفرد المثقف و النازف في سجلات الرواية . نعود من جديد إلى فقرات و مشاهد رسالة ليلى السماك شقيقة منير ، حيث يخبرنا السارد الشخصية بأن ليلى في أحدى فقرات رسالتها كانت تطلب المساعدة من السارد الشخصية ، و الذي هو بمثابة المتبقي الوحيد و الشاهد الوحيد بعد موت منير شقيقها في الحرب و مقتل عيسى هاربا من الحرب : ( قالت أنها تريد مني مساعدتها في ذلك .. و قد أختصر طلبها مني بكتابة ــ فيما إذا كان لديك الوقت الكافي ــ بعض التفاصيل و المعلومات عن تلك المرحلة المهمة من حياتي .. و قد حددت بالأخص الكتابة عن حياة عيسى الذي أعدم في العام 1987 ــ كانت تعرفه جيدا ــ و حياتي أيضا .. ثم طلبت مني و هذا هو الغريب في الأمر أن أكتب لها بشيء من التفصيل عن حياة شقيقها منير و الذي قتل في آخر شهر من الحرب العراقية الأيرانية . / الرواية ) من الغريب فعلا ؟ إن ليلى كانت تطلب من السارد الشخصية ملخصا موجزا عن حياة عيسى و شخصية السارد و منير و بهذا الأمر راح يعلل لنا السارد ذلك السبب بقوله : ( وقد عللت ذلك بسبب معقول .. هي أنها تعرف أشياء شخصية كثيرة عنه .. ولكنها لا تعرف الكثير عن حياته كشاعر . / الرواية ) و تبعا لهذا الأمر راح السارد يحدثنا عن حكاية ما ورد في رسالة ليلى واصفا إياها بـ ( غير متوقعة ) فيما أخذ يخبرنا عن مدى صلته العلائقية الحميمة بمنير و صولا إلى حديثه المسهب حول محددات زمن لقائه الأخير بليلى و هي بصحبة أمها الروسية ، في أحدى أحياء بغداد يوم ذاك . مما جعل السارد يتشعب في سرد تفاصيل أكثر غورا حول هذه العائلة : ( كان والدها مجدي السماك مهندسا في شركة نفط .. و تزوج من امرأة روسية أسمها أولغا .. كانت تعمل أمينة مكتبة في الحي الذي قطنته في موسكو .. و قد أنجبت له ليلى .. و منير صديقنا في الجيش الذي كان مولعا بالشعر مثلنا . / الرواية ) و من خلال هذه الفقرات نلاحظ توحد السارد الشخصية / المؤلف و كيفية اختلاءها بذاتها التأليفية نقلا على لسان حال السارد طبعا ، بعد اطلاعه على رسالة ليلى راح يتذكر أفراد العائلة فردا فردا وصولا إلى مظهر والدة منير الذي غير الزمن من مظهرها الخارجي تماما : ( و زوجته الروسية تقف جانبه بتنورتها الكتان الخفيف تضع على رأسها شالا ملونا و تلفه على طريقة نساء تولستوي الروسيات ..و حين رأيتها هذه المرة لم يكن بأمكاني أن أصدق أن الزمن أستطاع أن يحدث مثل هذا الخراب ليس في العراق و حسب .. و أنما في هذه العائلة التي فقدت أبنها في الحرب . / الرواية ) لربما تنبه القارىء إلى استراتيجية المؤلف في استرجاع الأحداث و في زمن تقديمها كأخبار و سير مرتبطة بمصائر شخوص روايته و منذ اللحظة الأولى من مستهل موضوعة الرواية ، فيما يمضي صعودا في سردها كحالة تجسيدية خاصة ، ضمن تمفصلات فصل خاص بها .

ــ شخوص الرواية و زمن الأضداد .
أن جميع مواضع الأضداد في كيان مشاهد فصول الرواية ، كانت تتوزعها أمكانيات خارقة مؤلفة من خليط فقدان الأمن الذاتي و شمولية التوزع في فضاءات الوهم السقيم . فالسارد في فصل ( أصدقاء الحظ النكد ) يعرفنا على الكيفية التي تعرف من خلالها على منير ، في أحدى الوحدات العسكرية بعد نهاية المعركة : ( بعد نهاية المعركة أصبحنا أنا و منير أصدقاء .. كنا نتحدث كثيرا فيما بيننا .. و عن أشياء متعددة ولا سيما الأدب . / الرواية ) و على حين غرى يخبرنا السارد حول لقاء الأثنان في المركز الثقافي البريطاني . و في الفصل المعنون بـ ( جنود ــ ساعات ــ وجماعات أدبية ) يواجهنا هذا الفصل بحادثة الشخصية عيسى ، و الذي كان السارد قد تعرف به قبل الشخصية منير ، و يخبرنا السارد على أن منير و عيسى (ولكنهما هما من عرفاني فيما بعد على مجموعتين من الشعراء الجنود .. نشطتا بشكل سري تلك الأيام .. تطلق الأولى على نفسها مجموعة الساعة الخامسة .. تتكون من خمسة شعراء ــ تعرفت بشكل شخصي على ثلاثة منهم على الأقل . / الرواية ) . و قد تعرف السارد على هذه المجموعة التي كان يترأسها طبيب شاعر يدعى ابراهيم ، فيما كان يسميه البعض بـ ( الدكتور فاوستوس ) .

1ــ الدكتور ابراهيم / الشخصية البوهيمية :
أشرت فيما تقدم إلى أن طموح شخوص الرواية ، في تجسيد واقعهم الخاص بعوالم الشعر و ترجمته عن الأدب الروسي ، و كان ذلك الأمر متعلقا بمنير تحديدا .. أقول بأن شخوص الرواية كانت بالضد من واقع بلادهم السياسي و موقفهم الخاص من الحروب تحديدا . بيد أن هذه الشخوص بقية تزحف بمقولة الحالم / الواهم نحو تصوير أزمة الأنسان في بلاده وهو يوغل في باطن قوة الغرائبية و اللامألوف . كانت شخصية أبراهيم ، شخصية تتمطى و تسيل غرائبية ما و من الطراز الذي يصل بالعقل و الفرد إلى حد التيه و الضياع إزاء عاداته و قصائده و مقولاته التي تومىء إلى كونه شخصية من أقصى درجات جحيم البوهيمية و الانفصالية عن أرض الواقع : ( بعد تعرفي إلى منير بفترة قصيرة .. كتب لي رسالة تتحدث عن شخصية غريبة الأطوار و شاعر خارق أسمه الدكتور ابراهيم .. و تحدث لي فيها عن ديوانه أناشيد الذي يعده ديوانا فذا . / الرواية ) وبعد مرور فترة من الزمن صار يخبرنا السارد عن كيفية تعرفه على ديوان أناشيد : ( وهو كتاب شعري صغير كتبه شاعر غريب الأطوار .. وهو جندي طبيب في وحدة الميدان الطبي / الرواية ) وهكذا أمضى منير حياة متغيرة تماما بعد قراءته لذلك الديوان ، إذ بات يخبرنا بأنه واقعا تماما تحت تأثير تلك الأشعار الشيطانية على حد قول رسالته : ( على الرغم من مرور عام على قراءته .. ولا أقصد الديوان وحده من حيث هو بكلماته و دلالاته و صوره .. أنما بسلسلة الأفكار التي كانت وراءه و بشخصية أبراهيم . / الرواية ) تحديدا كانت هذه هي فقرات رسالة منير التي بعثها إلى سارد الشخصية ، و تبعا لهذا الأمر راح السارد يحدثنا عن منير نفسه ، من أنه شخصية : ( ذا وجه رؤيوي .. أشبه بوجه منجم حقيقي .. عيناه حادتا الذكاء .. وله نظرة قوية كأنها إزدراء متعال . / الرواية )

2ــ بنى الملامح الشخوصية : إن الروائي بدر في الواقع كان موفقعا في رسمه لشخصياته على البعدين الخارجي و الداخلي ، أما الخارجي فتلك الملامح الشخصية الظاهرة للعيان ، و التي تشكل بذاتها الاطار الخارجي لها . و أما الداخلي فهو ما لا نراه ظاهريا ، و أنما هو ما يتعمق و دواخل الشخصية من ملامح تنصب لذاتها على الابعاد النفسية التي لا يدرك كهنها ، إلا بالغوص في أعماق الشخصية و سبر أغوارها . و السارد هنا و من خلفه المؤلف الضمني ، راح يغوص في متابعة أعماق منظور شخصية عيسى و شخصية منير و أبراهيم و شخوص أخرى من الرواية . محاولا توضيح مواقع الأحوال الشخوصية صعودا و نزولا ــ لأجل تقديم العلاقات المحورية في النص على أوجه من الأهمية القصوى . لذا فأننا نكتشف أن عوالم الشخوص في الرواية ، كانت على أعلى درجة من درجات مأزومية الشخصية الداخلية و الخارجية بدءا من ليلى وعائلتها و مرورا بحكاية عيسى الفنتازية و الى شخصية ابراهيم البوهيمية و عوالمه الطلسمية : ( منذ العام الماضي .. الزمن الذي قرأت فيه هذا الديوان .. و حتى الآن و أنا أعيش حياة ثانية .. لا علاقة لها بحياتي الأولى .. لقد حررني هذا الديوان من مفاهيم طبيعة الموت و الحياة و النوم و الطعام و الأشياء الأخرى . / الرواية ) . و بعد اطلاع السارد الشخصية على رسائل منير راح يخبرنا كاشفا حقيقة أن منير لم يكن يعرف اللغة الروسية اطلاقا ، و أنه ــ أي السارد الشخصية ــ لم يكن يعرف بهذا الأمر إلا بعد فوات الأوان ــ أي بعد موت منيرا في الحرب : ( صحيح أكتشفت ولو بعد مقتله أن معرفته بالروسية كانت شحيحة جدا .. و إن الشعر الذي كان يترجمه لنا في واقع الأمر كان يؤلفه ارتجالا .. و لكن هذه موهبة مضافة أيضا .. لأن الجميع ذلك الوقت تأثر بأشعاره على أنها قصائد مترجمة .. مع أنها قصائده . / الرواية ) هكذا كان الأمر مع منيرا ، كان يوهم أصدقائه عيسى و سارد الشخصية بأنه هو من يترجم قصائد الروسي ماياكوفسكي و البعض الآخر من الشعراء الروس ، إلا أنه في الوقت نفسه راح يبتكر شعرا مرتجلا ، مما جعل أصدقائه يشيعون له هذا الشعر بين جماعة بهية العاهرة و جماعة الساعة الخامسة ، خصوصا و أنه هو الشاعر الذي كان سباقا في نشر قصيدته الأولى في مجلة الطليعة الأدبية . و تخبرنا الرواية بأن جماعة بهية و جماعة الساعة الخامسة جميعا انتهوا نهاية مأساوية موتا و قتلا على يد السلطة البعثية ، فيما بقي السارد الشخصية الوحيد منهم على قيد الحياة .

ــ النص الروائي و آلياته في التقديم و التأخير .
لعل من أكثر السمات الاسلوبية اللافتة في رواية ( أساتذة الوهم ) هو أنها تنبني على هيئة تقديمات و تأخيرات لمسار صناعة مصائر الشخوص الروائية في الأحداث . فالرواية تجعل من علامات مصائر الشخوص كمقدمات جاءت تضمينية موزعة في رحاب فقرات الفصول الأولى من حكي السرد ، كحال موت منير و نهاية جماعة بهية ، و كحال عدم معرفة منير الترجمة الروسية ، كما و هنالك العديد من هذه الحالات في الرواية ، التي حلت كتضمينات داخل فقرات فصولية مستقلة بذاتها لاحقا . الأمر الذي جعل صيغة الأحداث تنمو ، و كأنها غير مقيدة بصياغة خطية زمنية تماما ، و هذا الأمر جعلنا بالمطابقة مع محور أجواء شخصية ابراهيم ، الذي قد تعرفنا عليه من خلال طرف الشخصية منير : ( و كان سؤالي على الدوام هل كان أيمان منير بالقوى الغيبية و الميتافيزيقية و تحصنه بعدم الأكتراث من الموت .. جاء من تأثير هذا الديوان .. و من تأثير هذا الشاعر الذي يطلقون عليه فاوستوس .. الدكتور الذي باع روحه للشيطان . / الرواية ). و بعد اطلاعنا على دلالة عنوان فصل ( التحرق لمعرفة شخصية خارقة ) واجهتنا في هذا الفصل رغبة السارد الشخصية إلى معرفة وقراءة ديوان الدكتور ابراهيم وتعلمنا الشخصية الساردة ، بأنه و بعد حصاد صراع طويل من الانتظارات و الحماس و الاحباط و البحث عن ذلك الديوان اللامجدي العثور عليه ،و لدرجة وصول الأمر الى أن السارد أصيب بالخيبة و النكوص و التصور الجازم منه ، بأنه لا وجود لذلك الديوان ، إلا أنه و مع تأكيد صديقه عيسى بوجود ذلك الديوان ، إلا أنه في الآن نفسه لم يعزز له هذا الأخير بوجود صاحب تلك الأشعار : (حين سألت عيسى عن هذا الأمر .. أكد لي أنه قرأ هذا الديوان .. إلا أنه لم يتعرف الى الدكتور ابراهيم شخصيا / أنا الذي عرفته فيما بعد / فتساءلت وقتها لم لا يكون منير هو كاتب هذا الديوان الذي ينسبه لشخص آخر في سبيل إثارة الضجة لا غير . / الرواية ) و هذا الواقع الذي راح يلتبس على شخصية السارد في عملية بحثه الدؤوبة حول كائنية ذلك الديوان ، مع تفاقم حلقات سيناريو شكوكه حول صديقه منير من أنه هو الكاتب لأناشيد هذا الديوان ، فطبيعة هذا الشك لم تأت من فراغ تقديرات السارد في حساباته ، أنما جاءت ملتحمة مع معطيات شخصية منير الاعتقادية و السوداوية ، و هنا الحديث للرواية 🙁 أي أنه كان يكتب عن الموت ليتفادى الموت .. أي تصبح الكتابة نوعا من التعزيم .. نوعا من الرقيا و السحر .. و كان لقائي بأردال حاسما فيما يخص حقيقة وجود هذه الجماعة . / الرواية ) . عيسى الذي كان مطلعا على ذلك الديوان قد أكد للسارد الشخصية بأنه لم يكن أي قصائد الديوان ، على ذلك المستوى من الحضور النخبوي و المعرفي و التفردي ، و أنما كان بالضد من تشاؤمية طقوس التعزيم و السحر و الطلسمية التي كانت تتمتع بها شخصية منير .

ــ مملكة ابراهيم ووجدرانها المسكونة بروح الشقيق
ومن خلال بنية التأمل لتمظهرات هذا الفصل الروائي ، تتحول الكتابة الروائية إلى فضاءات تتحقق من خلالها الصور الطلسمية ، و جنائن لأرواح الموتى ، و هذه التداعيات بدورها تكون منفلتة من سلطة موارد الواقع ، بل و تخضع هذه المشاهد المكونة لرؤى مخيلة السرد ، الى مكونات غيبانية و غرائبية و حدودها الجغرافية ذات دلالات ملامسة لواقع معارف التنجيم و خزين الظلال النفسية اللامعقولة . و من هنا يبرز لنا صوت السارد الشخصية وهو يحدثنا في عنونة فصل (التعرف إلى الدكتور ابراهيم ) حول اصطحاب منير إياه بعد مرور فترة من الزمن إلى منزل الشخصية الطلسمية ابراهيم : ( قال لنا الدكتور ابراهيم ان في المنزل مخلوقات شريرة أو ان المنزل كان مسكونا .. و أنه يكتب قصائده من وحي الأشباح و الحيوانات و المخلوقات الخيالية التي يعج بها المكان .. و ما إن جلسنا حتى شعرت بشيء أشبه بالموت المتأصل في هذا المنزل . / الرواية ) . و من خلال هذه المشاهد الفقراتية في النص ، تتبلور في مخيلة السارد الشخصية تلك الأفعال الإيحائية المتصلة بمواطن التفاعلات النفسانية الخاصة في باطن مخيلة اللامعقول ، لتمكنه من تصور مظاهر الأشياء في سمات شخصية هذا الرجل و أمكنته منسجمة مع دقائق البنى الماورائية و المبثوثة بواسطة أخيلة مؤثثات فضاء المكان .

1ــمخيلة السارد تؤدي واقعا محتملا : فبقوة الخيال تتهيأ للسارد الصور الارواحية المتراكمة في أفق المكان ( = المنزل = ابراهيم = قصائد أناشيد = روح شقيقه المتوفى ) و هذا الحشد الملون من الطلاسم في عنوان الشخصية ابراهيم و عوالمه الاسرارية ، هي من بات يؤثث في محيط مخيلة السارد تلك الابعاد الحسية للصورة المنقولة انعكاسا على خلفية مقدمات و علامات سيرة ديوان أناشيد و صاحبها . إذ راحت تلتئم الفكرة أو العاطفة لديه بموجب حافزية ممهدات الصورة المنقولة عن عوالم ذلك الغريب الأسرار و الأطوار : ( كانت الدقائق التي تمر علينا ثقيلة جدا .. لا أعرف ماذا أقول .. جلست هكذا متسمرا دون كلام تقريبا .. ثم انبرى الدكتور ابراهيم ليتحدث عن نفسه .. ألتفت لي و هو يعدل نظاراته على عينيه و قال لي علي أن لا أخاف . / الرواية ) و تكشف لنا الرواية بأن منزل ابراهيم ، كان مسكونا بروح أخيه الذي مات في عمر السابعة : ( أي قبل ولادة الدكتور ابراهيم بعامين .. وكان اسمه ايضا ابراهيم . / الرواية ) .

2ــ لعبة أرواح الشخوص و أمكنتها الخفية :
فالفضاء المتخيل في عوالم أفعال الشخصية ابراهيم ، تأتينا ضمن اللحظات الغامضة ، و التي تسندها في شكلها مقدمات رعب الأمكنة و أرواحها المخفية ، هادفة بهذا الأمر الى إثارة موضوع موت الشقيق الذي اسمه ابراهيم أيضا على حد قول الرواية اعلاه . فهذه الصورة المنقولة من عالم الأفلام المرعبة ، تجد لها خير صدى في خصوصية و لعبة الأمكنة و أبعادها و ظهورها الذي بدا ذات مزايا متخيلة داخل فقرات خارجية و داخلية النص . أن معظم الأعمال الروائية الرائعة هي أعمال قائمة على أساس فعل المخيلة و الخيال ، و لكن يشترط لهذه الأعمال النصية المغرقة بالخيال ، أن تكون لها جذور مرجعية واقعية في بنيات النص ، فمهما أوغل عنصر الميعة الوهمية في فضاءات حياة النص ، فلابد له أن يتغذى من طبيعة العناصر الواقعية ، فلا شيء يولد من لا شيء . و تبعا لهذا نرى عاملية الخيال الواهم قد حاز على مناطق غير مترابطة سياقيا في قصة ابراهيم و شقيقه المتوفى ، حتى بات لنا أمر هذه الحكاية ، و كأنها خطاطة مقتطعة من سيناريو أحدى الأفلام السينمائية ذات الصور اللامحسوسة و اللامنتمية .
3ــ أطياف الميت في صورة مجسدات الحي :
و تخبرنا أحداث هذا الفصل حول حكاية و كيفية وقوع شقيقه قبل موته من جسر بلا قضبان : ( لقد طرحه من أرتفاع عدة أمتار ليسقط على الصخور أسفل الجسر و مات . / الرواية ) إلا أن الغريب في أمر هذه الحكاية هو أن الشخصية ابراهيم عندما كان يذهب الى المدرسة في فترة طفولته : ( كان يمر كل يوم من هذه المقبرة إلى المدرسة أي أنه كل صباح يقرأ أسمه منقوشا على شاهدة قبر من القبور .. فهكذا كان ميتا في الحقيقة .. و كل ما يصدر من شعره هو من وحي موته .. لا من وحي حياته . / الرواية ) . فيما تطلعنا الرواية على حين غرى ، حول أحداث شعور السارد بأن خطوات شبح الشقيق في ارجاء المنزل جوالا : ( كان يقف مثل شيطان على الحائط .. وجهه ينم عن عبقرية مطلقة .. وعيناه مشتعلتان ذكاء / لم استغرب أنه كان مخيفا و مكروها بسخاء .. ذلك أنه لم يكن من هذا العالم الذي نعيش فيه .. كان ميتا لكنه كان يحيى أيضا و يتحرك من خلال خطى شقيقه الحي . / الرواية ) .

ــ الأستباقية الخارجية و الداخلية في الرواية .
أن البناء الزمني / الاستباقي ، في رواية ( أساتذة الوهم ) ما كان يشكل حركة زمنية تحدث داخل منظومة الاسترجاع . إذ أننا نعاين مدى استباقية السارد ، أثناء مراجعاته الورائية أحداثا تبدو متقدمة على مستوى النقطة الزمنية ، التي وصل أليها السرد في الرواية . و هذا ما نلاحظه في مواطن عديدة في فصول النص . و الجدير بالذكر أن هذه الدلالة الاستباقية في سرد الاحداث بما أنها تقع داخل حافزية زمنية مركزة ، إلا أنها في الوقت نفسه تبدو حالة تفارقية و مهيمنات نمو الزمن البؤروي في مدار واقعة موضوعة الرواية . و الاستباق و شرائطه في محكيات رواية ( أساتذة الوهم ) منه ما كان يشكل فاصلة زمنية ، تتعدى حدود دائرة السرد ، أي بمعنى ما ، تنتهي الحكاية الروائية دون أن تدرك مستوى الفاصلة الزمنية التي كان قد بلغها مستوى الاستشراف الاستباقي الخارجي . و يكون هذا الاستباق الخارجي تصورا يتحقق ، ضمن شرطية صورة محورية معكوسة لما افترض حدوثه سردا . مثلما الأمر وجدناه مع حال دلالات فصول شخصية عيسى و عوالمه الميتاوهمية التي كانت تتعدى حدود تواريخ و مقومات زمنه الحقيقي و واقعه المرير : (كان عيسى يقرأها فهو لا يقرأها فقط .. أنما يعيش كل لحظة فيها .. و لم تكن هذه اللحظات هي لحظات حياة شعراء و كتاب غربيين فقط .. أنما كانت لحظات مدن أيضا .. مدن مثل لندن .. باريس ./ الرواية ) . أو مثل ما حدث مع عائلة منير بعد اطلاعهم بعد زمن موته عن طريق أصدقائه بالصدفة من أنه كان يترجم عن اللغة الروسية قصائدا لشعراء من الروس أو ما يقارب حالة وساوس عيسى و خوفه من دولة وسلطة المراقبة البعثية الماحقة له بحكم كونه هاربا من الجيش : ( كان يشعر بأن كل حركة من حركاته مرصودة .. كل ما يقوم به معروف .. كل نأمة .. كل كلمة .. كل أشارة محسوبة عليه .. من هنا اشتدت عنده رغبة المراقبة . / الرواية ) . ومن الاستباق أيضا ، ما يتعلق بإيراد أحداث تقع ضمن دائرة الحكاية الروائية ، و عندما تصل الى مستوى ركيزتها الزمنية ، وهو ما اتفق عليه بالاستباق الداخلي ، و يتخذ هو الثاني أشكالا. فهو تصور للآتي من الأحداث ، يتحقق فيما بعد ، وهو كذلك تساؤل أنبوءة تتحققان الى واقعة عيانية تشاهدها الشخوص ــ وهو في هذه المواطن جميعها لا يبدو على درجة من المغايرة ــ قياسا و الاستباق الخارجي ، اللهم إلا في كون هذا الأخير يظل يشكل أحتمالا خارج إطار الحكاية و الموضوعة الروائية ، في حين يظل الاستباق الداخلي بجانب آلياته ، يشكل بذاته تحققا ملحوظا . على اية حال ، نقول أن أهم الأشكال التي يتجسد من خلالها الاستباق الداخلي في الرواية ، هو الحرص الأكيد من الروائي ، على توظيف اللعبة الزمنية بكافة أوجهها لتحديث الكتابة الروائية ، هو أن يكون حدثا أو أحداثا تروى قبل وقوعها .

ــ الاحوال السردية / السارد الشخصية .
تحدد موضعية السارد في النص الروائي ، بموقعه في المستوى السردي ، و في علاقته بالحكاية الروائية . و قد حدد بعض نقاد السرد وضعين اساسيين للسارد الشخصية . فأما أن يكون راويا يروي من خارج الحكاية ، غير مشارك في أحداثها . و أما أن يكون ساردا و مشاركا في الحكاية . و تبعا لهذا الأمر وجدنا السارد الشخصية في أحداث رواية (أساتذة الوهم ) يشكل ذلك الحضور المهيمن على محيط الفضاء النصي و نمو الشخصيات كشخصية فاعلة في الأحداث ، فيما راح السارد الشخصية نفسه يشغل محل الصديق الثالث أو الرابع أو الخامس في الرواية .

1ــ الشخصية المحورية و فضاءاتها الإشكالية :
حين نود التعرف على مقومات الشخصية الإشكالية كتعريفا جامعا ، فلابد لنا من طرق أبواب روايات علي بدر عامة ، حيث سوف يتم العثور على تناقضية هويات مأزومية الشخصية الروائية ، و بدءا من مكونات الشخصية النسائية العاهرة وصولا إلى شخصية و بنية الرجل المثقف المسحوق في تفاصيل طبقته و بلاده و هويته اللاوطنية تماما . فالإتجاه الذي تصب به شخوص عوالم بدر الروائية ، ما هي إلا مشاهد حيوات قادمة من سيرة و ألبوم الشخصية الانطباعية للمؤلف نفسه . فالشخصية المحورية ( عيسى ) ما هي إلا رؤى واقعية منزلقة من محيط و بيئة و خطاطة عوالم المؤلف الذاتية تحديدا . و عند التعامل مع رؤية عيسى و عبر مشروعه الإشكالي النفساني المتصل بحصاد خيبة واقعه الشخصي المتعفن في مسار أيقونة الرواية . إذ نراه حينا هو ذلك المتفتح سلبا عبر بيئته المأزومة و التي حفزته في التعامل مع واقع طموحاته بمنظار فنتازيا موهومة ، أكلها الوهن في زوايا خربة من زوايا مدينته العسكرتارية قسرا . فالبحث منا حول توصيف سيرة عيسى لا تتعدى منا أيضا ذات ذلك التوصيف نحو شخوص روايات علي بدر إجمالا . فهو لا يتقاطع مع غثيانات شخوص رواية ( بابا سارتر ) و لا أخيرا مع رواية ( الكافرة ) و رواية ( صخب و نساء و كاتب مغمور ) بل هو شخصية إشكالية أخذت تتفاعل ضمن أفعال واقعها اليومي في مدينته الخاوية ، مما جعلته يبدو عبارة عن روح حالمة إلى العيش في البلاد الأوربية ، حيث نراه لا ينفك عن المناداة بكونه هو الشاعر الذي غدا يضارع وهما بطوله و عرضه رجالات التراث العالمي الأدبي و الشعري ، و أخيرا نعثر عليه ملتفا حول رواية الجريمة و العقاب ، لتكون آخر مراحل إشكالياته الطامحة وهما في مفاصل عوالمه المتأزمة تحت سقوف غرف البتاوين و شارع الرشيد .. فعيسى ذلك هو الشاعر المطارد الذي بات يتحايل على ذاته بألوان مختلفة من المخاليط و المقادير النفسية العجيبة .. فهو ذلك الذي يجد لذته في مراقبة الناس دون نظر الناس إليه فيما يعدها لنفسه لذة حلمية و مثالية نادرة .. وهو ذلك الطفل الذي كان يجلس على حافة درجات السلم ليسترق النظر إلى بانو زوجة خورشيد و هي نائمة .. وهو ذلك المراهق الذي راحت تزاحم جنوحات نشوته قبح دمامة حجم أنفه الكبير .. مما جعله يلج فصولا طويلة في غيابات متلصلصة حاضرة تتركز في حجم مراقباته السرية .. وهو ذلك الحبيب للفتاة نازك حيث كان يراقبها وهي تدخل الحمام .. يتابع تقلب ملامحها وهي تطلق صوت شخير تبولها .. لقد كانت منظورات عيسى الحياتية ذات اختلافية عظيمة خصوصا و أنها ، كانت تتجه نحو مواطن مرضية سقيمة تماما ، فهو كان يصف ذاته الشعرية بأنها أسمى من أن يراها الناس وهي على مقعد التبول و التغوط في حجرة المراحيض . فقد كان من الصعب عليه التصور بأن جسده الغارق بأحلام العالمية و المثالية و الجوائز الأدبية أن يتدنى نزولا ، إلى مستوى امرأة جميلة جدا ، ولكنها عندما تدخل المرحاض فأنها حتما سوف تتغير ملامح وجهها و روائح جسدها و مفاتن أنوثتها .

2ــ الشخصية نازك و ملذاتها الإيروسية :
تخبرنا الرواية حول تفاصيل حياة الشخصية نازك ، و التي عاشت مع أمها في دار خالها الضابط : ( كانت تستيقظ أحيانا مبكرة من نومها على السرير الحديدي الذي تنام عليه أمها .. في الحجرة الفوقانية و تجري إلى باب حجرة خالها و زوجته / حجرة خالها أكثر ما يشغل نازك في طفولتها / إلا أنها واسعة في ذاكرتها / تشعر إلى الآن برائحة الجنس في السرير . / الرواية ) الشخصية نازك كانت و منذ نعومة أظافرها قد تعلمت عن طريق صديقاتها مطالعة القصص الإيروسية و مجلات الصور الإباحية ، حيث كانت بمفردها تلتهم صفحات و أسطر تلك الحكايات الإيروسية ليلا : (كانت تسير مع أحسان بعد الظهر في شارع السوق المظلل بالشجر الكثيف .. يحكي لها عن الشيوعية .. عن لذاته السرية . / الرواية ) .

ــ تعليق القراءة ــ
لعل سيرة الأحداث في رواية ( أساتذة الوهم ) و ما يشف عنها عن امتزاجية صوت السارد الشخصية إلى جانب أصوات الشخوص في ملحقات و خلفيات و فضاءات الرواية . المؤلف الروائي لربما هو ذاته ذلك الجندي الذي أمضى الحربين قهرا ، بيد أنه هو المؤلف الذي راهن الوثاق على ذاته بأن تكتب كل صور حياته الشخصية أعمالا روائية ، تتلمس طريقها شخوصا لرواياته المسحوقة ظلما .. أنه المؤلف الذي أختار الكتابة عن الوطن و مثقفيه عبثا و تهكما ..علي بدر من الروائيين الذين باشروا برسم مدن و شخوص رواياتهم بتواصيف من المأزومية و فراغ الأمكنة و خواء الوقائع القيمية التي تتمثلها تلك الشخوص في نماذج رواياته . فهو بات يصور لنا نموذج الأديب و الشاعر و الكاتب و المثقف في مطاوي بلاده ، على أنه مجرد هيكل بلا روح ، فيما تبقى القيمة العليا لديه عادة و كما الحال في كل رواياته لذلك العملاق الشاعر و الروائي الذي عاش في مدن أوربا تحديدا . و بوصفه ذلك الملاك الحر الذي يضاجع أجمل و أشهى النساء على سريره الأوربي . من هنا نحاول قليلا التوصل إلى عوالم فصول رواية ( أساتذة الوهم ) حيث تشتمل هذه الرواية على مجموعة فصول ، راحت تختص كل منها بالعنوانات التي تقارب وحدات الموضوعة الروائية ، و الدلالة العلائقية الناتجة عن عضوية مكونات واقعية استيهامية غرائبية . فالرواية ( أساتذة الوهم ) تبدو عبارة سيرة ذاتية للروائي و أصحابه بالمعنى المقارب . إلا أنها من جهة ما تبدو فضاءات مسلية من حكاية منطقة أوهام الشخوص وهي تجدف في مأزومية و تراجيديا المدينة الخاسرة . هكذا كانت نهاية شخصيات رواية ( أساتذة الوهم) نهاية مأساوية محفوفة بروح الموت و الحروب و القتل للهاربين من الحرب .. فيما تحدثنا خاتمتها التراجيدية حول مراسم الحداد التي كانت تتمثلها الأختية المنكوبة بموت شقيقها منير .. وذلك أرتباطا مع الأختية التي حدثنا بها السارد في فضاءات تراتيل عملية نبش قبر عيسى و إخراج جثته منه على يد شقيقته الأختية و دفنه في الحديقة .. هكذا هي باتت نهايات الرواية أراد لها الروائي مزيدا من حافزية القبح و الظلامية على تلك الحروب التي جعلتنا و شخوص الرواية جميعا نحيا داخل سطور جغرافيا وطن و بقايا أنسان يقبع في أقصى درجات قاع سراديب بلادنا الواقعة بين الطين و الخراب .