23 ديسمبر، 2024 10:37 ص

قراءة في ديوان (وشم على جبين نخلة) .. توهّجُ الشعرية في إثراء الأبعاد الدلالية

قراءة في ديوان (وشم على جبين نخلة) .. توهّجُ الشعرية في إثراء الأبعاد الدلالية

عرفت الشاعر حسن البصام قاصاً مبدعاً والآن ألتقيه شاعراً مرهفاً متمكناً من أدواته الشعرية ليجعلني أرحل في أعماق قصائده وأتوغل بين عوالمها الدلالية القصية حسن البصام تنفرد تجربته الشعرية في ديوانه بثنائية وجودية فاعلة وعلاقة جدلية عميقة بين عنصري الوجود البشري الرجل والمرأة وما بين هذه العلاقة من مساحات رؤيوية ومغازٍ متوهجة في فضاءات نصوصه الشعرية يلتقط برؤية الشاعر العرفانية لتفاصيل دقيقة في ثنايا الحياة الإنسانية ليجعلها شواهد معرفية على متغيرات اجتماعية أو يسلط ضوءه المعرفي على مساحات معتمة تكشف مفردات صراع وجودي وتقلبات مجتمعية وينقل لنا من خلال قصائده صراع الأزمنة والأجيال وحالات المواجهة بين الماضي والحاضر لأن الشاعر حسن البصام يمتلك   رصيداً عالياً من الثقافة تجعله قادراً على الإبداع وخلق نماذج شعرية لا تقف عند حدود الوصف الخارجي بل تسبر لنا الأعماق الإنسانية وتضيء جوانب معتمة في أغوار النفس البشرية ليبثه للمتلقي بلغة شعرية تتناغم مع مقتضيات الحالة الوجودية المنبثقة من قصائده وهو شاعر يمتلك حسّاً عالياً باستثمار أدواته الشعرية التي أحدثت تماسكاً في رمزية وجمالية قصائده  بين اللغة العامية اليومية واللغة الشعرية كما في قصيدة انزلاق :
الاباء يخضعون لتوجيه من الابناء
فحين يحاصرهم
ضجر التصرف الطائشــ من وجهة
نظرهم ــ
يصيحون : اسكت ( ولك )ص 17
وفي ختام القصيدة :
وان انتخاب الاباء اكثر حكمة
كوننا نمنع السوط
بيد من نحبه
من باب ( ضرب الحبيب مثل ….) ص 18
لقد حاول البصام أن يخرج القصيدة من إطار  الذاتية لتكون ذات فضاء أوسع من خلال إبراز ثيمة جمعية ألا وهي العلاقة بين الآباء والأبناء التي نستنتج للوهلة الأولى تقريرية الفكرة لكن مع التأمل نجد أن الشاعر يريدنا أن نصل إلى معانٍ قصية أبعد من المعنى المباشر للجملة الشعرية فهو يريد أن ينقل لنا تغير المجتمع والعلاقة بين أفراده من عينة مألوفة والصراع بين جيلين لكلّ منهما منظومته الفكرية ويبين عمق الهوة بين الأب والابن والتي تشمل مساحات أوسع في ثنايا المجتمع بلغة سهلة وبتقنية معرفية تشد القارئ فلقد استخدم حسن البصام تقنية المساحات البيضاء ليجعل المتلقي يندمج وعيه بمجرى النص الشعري ويتفاعل معه ويجعل من القارئ الواعي مشاركاً ليس فقط من خلال الاستنتاج أو البحث عن مغزى الجملة الشعرية بل يترك الكلام للمتلقي ليكمل المثل الشعبي ويملأ الفراغات في النص مما يمنح حميمية تفاعلية  لدى القارئ على الرغم من تميّز قصيدته بالإيجاز والاختزال والتشذيب .
إنّ القصيدة عند الشاعر حسن البصام تتشكّل وفق شكل شعري مختزل ويخضع لبسترة أسلوبية بجمل مكثفة موجزة  فالقصيدة  تمتاز بالتكثيف والتركيز وتخلو من الاسهاب الذي يدفعها للترهل وهذا الأسلوب يتيح للمتلقي الاستمرار في القراءة أي المضي في تكملة قراءة القصيدة دون ملل وتكون جمله الشعرية في بعض قصائده إشارات متوهجة دلالياً مضغوطة الحجم كبيرة الكتلة الدلالية وهو  أسلوب متميز للشاعر المبدع البصام :
فتيل السعادة انت
وكذلك التعاسة
كلما فتحت نافذتي
اراك زهرة مبتسمة
ولكن ليس بوجهي ص 67
 نجد أن المرأة في قصائد البصام ليست نموذجاً سطحياً يتأثر بفعل الرجل المهيمن أو تكون حدودها في إطار الوصف المظهري المنبثق من رؤية ذكورية    إنّما هي صورة تنبعث من الذاكرة صوره ملونه من السعادة لكن سرعان ما تختفي السعادة لتكون لحظات الحزن موجعة ثقيله تكوي القلوب فالمرأة في بعض القصائد تكون بؤرة مركزية مولدة للكثير من الدلالات الكامنة ورمز مشع بمعانٍ متعددة متعاقبة وفيها اختزال وجودي لوجودنا البشري يدخلنا من خلاله البصام إلى جدلية كينونتنا فالمرأة لديه مصدر حياة وهي ترتبط ارتباطاً تفاعلي مع كل مظهر من مظاهر النشوء وكل مرحلة من مراحل الارتقاء الذي مرت به البشرية في مسيرتها الوجودية وينقل لنا بشعرية عالية كل إشكاليات علاقة الرجل بالمرأة من خلال المعاني الكامنة وراء ومضة شعره التي يضيء من خلالها خبايا هذه العلاقة ويجعل القارئ يكوّن أبعاداً أخرى تأملية يستنتجها من إشارات الشاعر المكثفة  :
اول قطرة من السماء امرأة
يتعفر وجهنا بغبار غوايتها
نتقاتل لرشفها
واخر قطرة تنهمر من جبيننا
على عشب تمنعها
ثم تنسى اسماءنا
وتودعنا ( باي ) ص 59
 حسن البصام في تجربته الشعرية يجعل من القصيدة وحدة تعبيرية متماسكة البناء من خلال بؤرة مركزية يرتبط بها النسيج الشعري مما يمنحه التماسك وعدم التشظي سواءٌ كانت هذه البؤرة الحاثة والجاذبة لكتل النص في مدارها الدلالي ظاهرة أو كامنة فهو يدرك صعوبة بناء قصيدة النثر من حيث التأثير على المتلقي من دون جمل متوهجة توصل القارئ للدهشة وكسر التوقع وتفاجئه بومضة معرفية تشد القارئ لمجريات فعل النص لذلك كان حسن البصام  بارعاً في جمع القصيدة النثرية وما يسمى بالومضة او قصيدة النثر القصيرة ويتعامل مع رمز المرأة تعاملاً نوعياً بأسلوبية رائعة بعيدة عن تقاليد الشعراء التي كانوا من خلالها ينظرون  إلى المرأة بتقريرية ظاهرية ولا يذهبون بعيداً في سبر خبايا هذا الكائن  من حيث تفاعليته الوجودية مع العنصر الذكري الذي يبقى مهيمناً في ذهنية الكثير   :
لا يستطيع احد
ان يجعلني ابتسم
قبيل موتي
إلا هي
حين تعترف انها قتلتني
بدافع الحب والغيرة
لأن اصابعها الوحيدة التي أحبها
حين تقطف ثماري
قبل اوانها . ص 65
لقد جعل البصام المرأة  في قصائده رمزاً متحركاً ذا وظيفية فاعلة وكان هذا الرمز المتوهج بتعاقبات نوعية لمعان كامنة في الذهن الجمعي وبإشارات مرجعية تاريخية كانت أم اجتماعية وفي مجمل قصائد الشاعر كان هذا الرمز محفزاً وحاثاً لدفق المعاني لتخرج المرأة من شرنقة المعنى التقريري المحدد بقيود لتصبح رمزاً كونياً ومحركاً وجودي يتجسّد مغزاه العميق في كل ثنايا الحياة وفي جميع تفاصيل الكون فالمرأة اِكتسبت في قصائد البصام بعداً فلسفياً فكانت في منظومة العلل الفلسفية (علة فاعلة ) و(علة غائية ) بذات الوقت لأن الشاعر يتبصر فيض هذا المخلوق في نبضات الحياة ويتلمس وهج وجودها في خبايا كل مفردات وجودنا :
النهر امرأة
لذلك فنحن دائما
نحب أن نلتقي
بأنفسنا عراة
في احضانه ص 60 

إن قصائد البصام كانت تعكس تجربة عميقة برؤية متبصرة سابرة لمعانٍ قصية وليس وصفاً تقريرياً لإرهاصات ذاتية فحملت القصائد إشارات تترجم رؤية الشاعر لعلة وجوده وكوامن الذات البشرية وتفاعلاتها الشعورية وهي بذات الوقت كانت نصوصاً من المشاعر الرومانسية على شكل أوتار غنائية تبث ترانيمها الهامسة ، وتخاطب الحواس التي بدورها ترمم الأجساد المتعبة ، فينبع شعورٌ في العمق الإنساني ليرسم ألواناً من الكلمات تدغدغ القلب فالشاعر نجح في توليف عذوبة الشعر الذي يخاطب الوجدان ومهمة الشاعر الفكرية في نقل أفكار هائلة تخاطب العقل وتحدد موقفه من ذاته والكون  .
ديوان الشاعر حسن البصام (وشم على جبين نخلة ) 122  صفحة بالحجم المتوسط ، يحتوي على 21 قصيدة نثر ، العنوان هو أحد قصائد المجموعة .. صدر عن دار تموز للطباعة والنشر.