23 ديسمبر، 2024 4:36 ص

قراءة في دعم اجراءات التقشف الحكومي في العراق

قراءة في دعم اجراءات التقشف الحكومي في العراق

شركة توزيع المنتجات النفطية انموذجا
تعاني الدولة العراقية ازمة مالية كبيرة تتوزع اسبابها ما بين تكاليف الحرب الضروس ضد تنظيم داعش الارهابي الى الانخفاض الحاد في اسعار النفط الخام مترافقة مع اسباب الفساد الكبيرة و ترهل الكوادر الضخم, حيث تستنزف كلها من موازنة البلاد الشيء الكثير.

لكن المشكلة الاساس التي يعاني منها العراق اصلا تتمثل في الترهل الكبير الذي طرأ على اعداد الموظفين في وزارات و دوائر الدولة, هذا الترهل الذي لم يكن محسوبا ولا مدروسا لطوابير طويلة و ضخمة من الموظفين الذين لا عمل حقيقي لهم سوى بطالة مقنعة بأسم الوظيفة الحكومية او ان دوائرهم تصطنع لهم اعمالا لا داعي لها بغرض الهائهم تجنبا للمشاكل التي يثيرها من يبقون بلا عمل كما يعرف في الامثال العراقية الشعبية الدارجة.

لقد توسعت كوادر الموظفين في الدولة العراقية بطريقة هائلة الى درجة ان بعض المصادر تشير الى ان العراق يضم موظفين قد يصل عديدهم الى اكثر من 4 ملايين موظف (بين عسكري و مدني) في حين ان العدد كان اقل بكثير ابان فترة النظام السابق بسبب قلة المرتبات الحكومية انذاك. و بما ان هذه الزيادة جاءت بلا حسابات انتاجية حقيقية, فأن نسبة هائلة من هذه الملايين لا تمثل سوى عبئ كبير على موازنة البلاد, عبئ يتراوح بين الراتب و التكاليف الادارية الاخرى المرافقة لوجود الموظف مثل توفير النقل و الاثاث و الكهرباء

و الخدمات الاخرى التي يتوجب توفيرها للموظف ما دام في الخدمة.

ان لنا ان نأخذ شركة توزيع المنتجات النفطية التابعة لوزارة النفط انموذجا حيا لهذا الترهل الهائل, غير المحسوب و لا المفيد بالمطلق. ايام النظام السابق, كان لشركة توزيع المنتجات النفطية مكاتب في المحافظات, و ليس فروعا و هيئات كما هو الحال الان. و بالتالي, لم يكن هنالك مدراء هيئات و فروع و اقسام و شعب في المحافظات, مع ملاحظة ما يلحق بهدذه العناوين الكبيرة من حراسات و سواق و اداريين و سكرتاريات و غيرها, مما يشكل ضغطا هائلا على موازنة البلاد التي ليس بوسعها ان تتخلص ممن يمكن ان يكون زائدا عن الحاجة من الموظفين. و من جملة مكاتب شركة توزيع المنتجات النفطية في المحافظات, كان هنالك مكتب في محافظة واسط يضم مجموعة بسيطة من الموظفين لا تتجاوز مدير المكتب و اداريين اثنين و مثلهم من المحاسبين و بعض الحراس و السواق فضلا عن موظفي صيانة لمحطات تعبئة الوقود. و اذا كان ذلك المكتب يضم 20 موظفا في حينها, فأن كامل محافظة واسط كانت تضم 10 محطات تعبئة وقود حكومية, مع ملاحظة ان عمل المكتب بنصب بالدرجة الاساس على ادارة المحطات الحكومية و ليس الاهلية. لاحقا, جاء التغيير و تحول مكتب واسط الى فرع واسط الذي ترهل و تضخم ليضم الان بحدود اقل من 700 موظف!

و بطبيعة الحال, فأن فرع واسط يضم مدير فرع مع حمايته و سائقيه و سكرتاريته و خدماته, الى جانب مدراء اقسام و

مسؤولي شعب, و كل هؤلاء ابتداءا من الاعلى الى الاسفل لهم وكلاء يعاونونهم, و لهؤلاء المدراء و الوكلاء ذيول ادارية مشابهة لذيول مدير الفرع مثل السواق و السكرتاريات و غيرها. لكن الغريب و المفاجئ يتمثل في ان مكتب واسط الذي تحول الى فرع و تضاعف عدد موظفيه من 20 الى 700, اي انه تضاعف 35 مرة من حيث عدد الموظفين, انما لا يزال يدير محطات تعبئة الوقود الحكومية الـ10 نفسها التي كانت موجودة في محافظة واسط في السابق!

لذلك, فأن الفرع تضاعف لـ35 مرة فيما لم تتحقق اي زيادة في طبيعة نشاط الفرع و بقي عدد محطات المحافظة الحكومية ثابتا دون تغيير.

ان الحديث عن ترشيق الدولة العراقية يمكن ان يكون مبنيا على اساس تقليص المناصب الحكومية الزائدة, و بالتالي اختصار الحلقات المحيطة بها و الذيول الادارية المرتبطة بها. لكن تأثير هذا الكلام محدود نسبيا في حال اجرينا معادلة حسابية بسيطة على فرع واسط التابع لشركة توزيع المنتجات النفطية. حيث ان فرع واسط يضم مكتبا لمدير الفرع الذي يضم بدوره بعض الشعب, الى جانب 4 اقسام تضم بدورها بعض الشعب كذلك, اضافة الى شعب أخرى لا ترتبط بالاقسام و انما تخاطب مدير الفرع مباشرة. و بموجب هذا الكلام, فهناك مدير فرع و وكيل له الى جانب 4 مدراء اقسام مع ما يصل الى 25 شعبة في الفرع, و لا حاجة لذكر ان هنالك حلقات و ذيول ادارية مرتبطة بكل هؤلاء. و اذا ما كان منطق التقليص و الترشيق ممكنا, فأن التقليص لن يشمل سوى

اصحاب المناصب في هذا الفرع و عددهم محدود نسبيا, و بالتالي تأثير الفرق سيكون محدودا بدوره.

و بما ان الدولة العراقية لا تستطيع تقليص كادر موظفيها بانهاء خدماتهم و ان كانوا فائضين عن الحاجة لان الموظف الحكومي يبقى موظفا حتى تقاعده او وفاته, فأن الموضوع يتطلب حلولا اخرى.

ان الازمة المالية التي تعاني منها البلاد تتعمق يوما بعد يوم, لذلك فأن تقلص الرواتب و تقليص الامتيازات و المنافع الحكومية يبدو امرا لا مناص منه و مسالة وقت و حسب.

اذن كيف يمكن ان نقنع الموظف العراقي بأن تقليص او تدهور مقدار راتبه او عدم انتظامه لا يكون ظلما عليه يا ترى, لاسيما انه يتعامل مع هذا الموضوع كحق قطعي مكتسب لا يمكن المساس به, و حيث ان ثقافة العمل الحكومي (و هو صورة من صور البطالة المقنعة في العراق) تمثل ثقافة سائدة و لا يمكن تغييرها.

يمكن القول ان هنالك اثنان من الحلول العملية التي تدفع الموظف الى قبول ذلك بطريقة هادئة نوعا ما.

فلنواجه الحقائق كما هي: هنالك ترهل هائل في عديد الموظفين الحكوميين يقابله توزيع غير عادل في المهام الى حد كبير, اضافة الى ان الذيول المرتبطة بوجود الموظفين تصبح كبيرة جدا الى جانب نفقات وجودها و استمرارها بالعمل, فضلا عن ان اعباء مرتبات و نفقات و مصاريف هؤلاء ترهق موازنة البلاد الى حد خطير.

و لكي نواجه هذا الكلام عمليا, فأن من المفيد احداث تغيير في بنية نظام العمل الحكومي نفسه, تغييرا يسمح بتقبل الموظف

لظروف مجهولة مثل عدم مقدرة الدولة على دفع مرتبه او تقلص هذا المرتب مثلا.

يكمن هذا الكلام اولا في تسهيل منح الاجازات الطويلة بدون راتب للموظفين الراغبين في ذلك دون الزامهم تقديم اسباب و مبررات طلباتهم, حيث تتعدد اسباب طلب الموظفين لها مثل الرغبة في السفر او الرغبة في الدراسة بسبب عدم تمكن بعض هؤلاء من الحصول على موافقات دراسية داخل او خارج العراق, فضلا عن ان بعضا غير قليل من الموظفين ليس بحاجة لمرتب الوظيفة بقدر ما انه بحاجة لكونها تمثل ضمانا لحياته و حياة افراد عائلته, او انه يستطيع من خلال ابواب الفساد الاداري و الرشوة التملص من اوقات الدوام الرسمية كي يمارس عملا آخر يدر عليه ربحا و دخلا اضافيا قد يكون افضل من مرتبه الحكومي اصلا غير ان ذلك الدخل الاضافي ليس مستقرا و لا مضموما بقدر ضمان مرتب الوظيفة. و بالتالي, فأن تسهيل منح هؤلاء اجازات طويلة بدون راتب سوف يرفع عن موازنة البلاد اعباء كثيرة, لاسيما اذا ما تسهلت اجراءات منح الاجازات و تجديدها, علما ان منح الاجازات لن يؤثر بطبيعة الحال على عمل الدولة كونها مترهلة اصلا و متخمة جدا بفائض هائل من الموظفين.

اما ثانيا, فأن تقليص ساعات الدوام مع تقليص ايام الدوام بطريقة غير مركزية, كأن يمنح الموظف يوم عطلة اضافي ضمن الاسبوع حسب اخياره و ظروف عمله, انما سيدفع الموظف الى تقبل اختلالات و تأثيرات الظروف المالية الراهنة على مرتبه اذا ما اقتضت ذلك. و لنا ان نشير الى ان احتمالات تقليص مرتبات الموظفين مع احتمالات عدم انتظامها انما

باتت تلوح في الافق ما دام الوضع الحالي للبلاد على ما هو عليه. كما ان من غير المنطقي ان تطلب الدولة من الموظف تحمل تراجع دخله الحكومي مع اشتراطها عليه ان يقدم ساعات العمل و المجهود ذاتها, الامر الذي يعني ان تقليص ساعات و ايام الدوام يمكن ان يكون سببا في دفع الموظفين للبحث عن اعمال ثانوية اخرى تساعد على تحسين دخلهم, و لا شك ان الوقت ثمين و يمكن حسابه بقيمة مادية تستوجب ادارة خطوات كهذه بطريقة حكيمة في ظل الظرف الذي تمر به البلاد الان.

فضلا عن ذلك, فأن حالة الترهل الخطيرة التي تعانيها الدولة العراقية تتطلب مراجعة شاملة و عميقة لموضوع سن التقاعد المبكر الذي يتوجب على الدولة ان تشرع به بغية تخفيف حجم البطالة المقنعة التي تغرق بها مؤسساتها, و ذلك عبر تشريع قانون للتقاعد المبكر بسن معقول كأن يكن 15 عاما مع تسهيل ذلك التقاعد و اجراءاته. و لنا ان نشير الى ان موظفا يتقاعد مبكرا براتب تقاعدي قليل سيكون حملا اخف بكثير على موازنة الدولة منه لو بقي في الخدمة و تدرج و ارتفع راتبه لحين وصوله الى سن التقاعد ليتقاضى مرتبا تقاعديا اعلى.

ان هذه الاجراءات تستحق التوقف عندها و بغية الاستفادة منها بما يدعم موازنة البلاد و عبور المرحلة الحالية الصعبة في ضل الحرب ضد الارهاب و انخفاض اسعار النفط العالمية.