23 ديسمبر، 2024 9:39 ص

قراءة في تجربة الشاعر زهير بنهام بردى

قراءة في تجربة الشاعر زهير بنهام بردى

( مشاهد البوح بين الإسهابات الحلمية و جنوح الكتابة )
مدخل : أن قدرة الصورة الشعرية في النص الشعري ما هي إلا منظومة من منظومات التكثيفات الإيحائية المتصلة بين تشكيلات الظلال القصدية و الدلالات و الرموز في مقاطعها المتواترة ، مما يجعل من بلاغتها تبدو أكثر ( = حلمية = متشظية ) أي أنها تعتمد على وظائف البنيات التوصيفية المنضوية ، تحت تأثيرات ذلك التلاقي مع موجات الحلمية و أفق التخيلات المفرطة . و من ثم ــ أي النصوص ــ نجدها تتجاوز أحيانا مبنى تشكيلية نطاق الجملة الواصفة شعرا ، دخولا منها إلى مساحات مضافة من التداعيات المتراكبة في تركات الأوصاف المسهبة و المجازيات المغلقة تعبيرا . و نحن نطالع تجربة مجموعة نصوص ( العاشرة نساء ) و مجموعة ( جسد في مقهى شرقي ) للشاعر زهير بنهام بردى ، وجدنا القصيدة النثرية لديه ، تبدو عبارة عن معادلات مشهدية / بوحية مضخمة بحسية الأنا الشاعرة وصولا منها إلى صياغات بنائية ضاجة بالفواصل و أفعال التقاطعات الخطابية المحلقة في سماء الحلمية الشخصانية الآنية . و عند قراءة مخططات تلك النصوص و الإمعان بمشروطياتها الفنية ، وجدناها تندرج و على نحو من الحسية التصويرية المفرطة ، و التي راحت تحتفي بالإمكانيات اللغوية و المجازية المتاحة لديها ، كفاعلية الاتصال الذواتي المسهب في وصفية حالات الأشياء وعلى نحو تبدو أكثر دمجية و عوالم تصويرية الانطباع الحلمي و لغة التفعيل المجازي في حالات حساسية الشاعر .

ـــ العاشرة نساء / الأنا شيفرة النص و تماثلاتها .
أن الصورة الشعرية في القصيدة ، لربما تشكل أول حالات الارتباط الشكلي بين الأجزاء التكوينية المختلفة في النص ، أو لربما بين هذا الكل و أجزاءه تكمن تلقائية تلك العلاقة بين صيغة ذاتية الشاعر و منظورية الناتج الدلالي المتمظهر شكلا عبر عضوية الدليل القصدي لدى الشاعر : ( ما يتوسطني يؤلمني / سأقذف هذا العالم القذر ببولي الشتوي / و أوارب الباب خلفي منتشيا و أنا أدس / صوت المذيعة التي أنهت كذبة الطقس و هي مبللة بطقس فحولتي : العاشرة نساء / نص : شفرة لغة النثر ) . من هنا نعاين مدى تجليات الصوت الآنوي لدى الشاعر ، وهو يهم بدخول علامات حالاته الواصفة ، نحو مجال بؤرة الراصد / المتهكم / العابث ، و على النحو الذي راح يجعل من مواقع الذات الشاعرة ، و كأنها غارقة في هذيانات حلمية مفارقة ، لا تخلو من الإرجائية المتوسلة في شيفرة أعماق و فضاء النشوة الشعرية الحاضرة في موجهات الشاعر الشخصانية .

1ــ الصوغ الحلمي و اللحظة المنفلتة :
إن ما يحدث لحظة التغلب على تكريس لحظة منفلتة عن أفق الوعي القصدي لدى الشاعر ، مصدرها هو ذلك الكشف الجديد اللاشعوري الواقع ضمن حدود لوحة العالم و لغة الأشياء ، كوحدة تحتوي على توالدات نسبية من الدليل القصدي الكامن في حياة الشاعر ، وهو ذلك المجال من تلك اللحظة المنفلتة من موجهات تصويرية النص في علاقاته و ارتباطاته إزاء محددات وعي الذات الواصفة ، كحال هذا النموذج من قول الشاعر : ( لا جديد في فنجان القهوة هذا الصباح / يبدو إن الخرافات / لم تكنسها العرافات من سرير الرغبات / و إن جهة أخرى غير مخولة / تصفف ذلك بطريقة سيئة جدا / و الكلمات دخلت صالون حلاقة / قرب معبد مكسور السلالم / تتدلى من نوافذه قناني النبيذ الفارغة : العاشرة نساء / نص : تلك الزاوية لي و أنت لك أنا ) . يبدو أن المتابع لتجربة نصوص و عنوانات و دلالات الشاعر في مجموعته ( العاشرة نساء ) قد يلحظ مدى ما تعانيه الذات الشاعرة في تحقيق مراسم توظيفاتها النثرية و بشكل يجعل من مساحة اللغة و التواصيف تبدو أكثر تأثيرا و وصولا في موجهات الفكرة الشعرية . فالشاعر و ضمن نصه راح يجعل من خاصية القول الدلالي في النص ، كما لو أنه غدا يرسم حالات عبثية ترتبط بسلسلة غير شعورية تماما من مساحة توظيف لغة الأشياء في النص . مما جعل القارىء لها يسقط الأفتراض جدلا ، بأن هذه النصوص تسعى في ذاتها الى تصوير أوراق ذواتية خاصة من حالات و مخطوطة طقوس الشاعر مع تفاصيل حياته الحلمية .
2ــ التكيف و التمثل :
يقال أن كل عملية نفسانية تشتمل على مرحلتين أو وجهين ، هما ما سماهما بياجيه بـ ( التكيف ) و ( التمثل) . فالحالة النفسية للأنسان تحتفظ على الدوام ببعض المخططات الحلمية الخاصة بها ، و عندما تجد هذه الحياة الحلمية نفسها في مواجهة توصيفات مجهولة بالنسبة إليها ، فأنها تتحرك و تستجيب لها ، بتكييف تلك المخططات الباطنية اللاشعورية مع حادثة و أحوال تلك الأنساق الحياتية الجديدة . لذا فأننا أمام نصوص مجموعة ( العاشرة نساء ) نكتشف بأن أستعادات و استثمارات الشاعر الدلالية و عبر موجهاتها النصية ، قد حلت بروح المعطيات الباطنية اللاشعورية ، و المخزونة في أعماق حالات الذات اليومية حلما ، فيما أراد لها الشاعر أن تتصدر واجهة ذلك الظهور على هيئة خطاطات دلالية محملة بالفواصل و المداخل و الرؤى و الاشارات الكامنة في محمول تلك المستويات من اللعب المجازي و التوصيفي في معطى تحققات الشد الإيحائي و التشكيلي في بنية النصوص النثرية . مما جعل تلك النصوص سابحة في فضاءات لم توفر لها أية حالة قولية متماسكة عبر شعرية اللحظة في النص . أما الحال في مجموعة الشاعر الثانية ( جسد في مقهى شرقي ) فيتبين لنا بأنها أتخذت ذات المواصفات من حسية و دافعية التوظيف في مجموعة نصوص ( العاشرة نساء ) حيث نلمس من خلالها هذه المساحة من قيود التشكيل الحلمي في قول الشاعر في هذه المقاطع : ( الميت قطيع غروب مستلقي فوق المشرحة .. المياه تشمئز و تمرر فراشاتها النائمة إلى شيخوخة الهواء .. تطلع من أصابع الميت لا وردة سوف تأتي اليوم ملوحة برائحة العصافير .. لا ثلج على الرمل في الساحل الأيسر من الروح .. لا وقت لدى العائلات كي تبكي طويلا .. الكرسي الأبيض أمام نافذة صالحة للضجيج يصب كآبته في سواد الليل و قربه زجاجة نبيذ .. يهتز كورقة تسقط من فراغ هائل و يمشي شاهقا إلى المشرحة / جسد في مقهى شرقي / نص : أبحث عن الألم كي أستطيع أن أبكي .) هكذا وجدنا حال النصوص في تجربة مجموعة ( العاشرة نساء ) و مجموعة ( جسد في مقهى شرقي ) و كأنها لوحات دادائية بلا مؤهلات أجناسية في قواعد فن التشكيل الفني . أن حجم المشكلة التي واجهتنا في مجموعة ( العاشرة نساء ) و مجموعة ( جسد في مقهى شرقي ) لربما ليست بالإشكالية الأولى التي تتعلق في مجال لغة أو في مستوى تراتيل لغة الأشياء . أنما المشكلة تكمن في حجم ذلك الاشتباك الحلمي الذي يقترب في تواصيفه من زمن موجهات اللامعنى في مواقع بوح النصوص . فالبرقيات الدلالية في النصوص أخذت تضج بمشاهد ، جاءتنا محتشدة بروح من الدمجية التشكيلية الخارجية و الخاضعة في شكلها إلى مستويات غريبة من اللغة الملتوية في وصف تراتبية حالات الأشياء .

( تعليق القراءة )
يمكننا القول بعد زمن قراءتنا السريعة لتجربة مجموعة (العاشرة نساء ) و مجموعة ( جسد في مقهى شرقي ) : أن هذا الشكل الذي قام من خلاله الشاعر المبدع زهير بنهام بردى في تدوين أفكاره و تصوراته الشعرية ، ما هو إلا فعاليات حلمية تقترب من حدود مناطق النصوص الحكواتية القصصية ، فيما تبتعد في الوقت نفسه عن أفق مهيمنات القصدية الشعرية المتينة في وظائفها و لغتها و محمولاتها . و بذلك يمكننا عد هذه التجارب التي كان قد خصها بردى بمسمى و دلالة الشعر ، من أنها مجرد مشاهد من البوح تدفعها حافزية الاسهابات الحلمية و تعرجات جنوح الكتابة الخارجة عن حدود فضاءات و مسارات و تضاريس التجربة الشعرية السائدة .