23 ديسمبر، 2024 12:29 م

قراءة في “بريد بغداد” للناقد العراقي المغترب حاتم الصكر

قراءة في “بريد بغداد” للناقد العراقي المغترب حاتم الصكر

كانت صدفة جميلة تلك التي جمعتني مرة أخرى مع الناقد الكبير حاتم الصكر في زيارتي الأخيرة إلى دولة الإمارات العربية، وبقدر سعادتي بهذه الصدفة فقد كانت سعيدة أيضا لصديقي الناقد حاتم الصكر حتى أنه وصفها قائلا “صدفة أكثر شجنا وعذوبة من موعد” حين كتبها على الصفحة الأولى من كتابه”بريد بغداد”حينما أهداه إليّ سوية مع كتابه الآخر”قصائد في الذاكرة” .
  في مقدمته للكتاب تحت عنوان”ألم عابر للقارات”، يقول حاتم الصكر:- مرت سنوات عجاف وبريد بغداد لا يحمل إلا الموت وأخباره المصبوغة بلون الدم القاني، والسواد الذي تعرضه جدران بيوتها ولافتات الغياب التي تشكل فضاء شوارعها.
       وإذا كان بريد بغداد الذي تتناقله وكالات الأنباء وتعرضه صورة وصوتا يمثل جانبا مرعبا يبشر بالموت ويخنق الصدور بدمويته إلا أن هنالك بريدا ينقل ما يجري في بغداد بصورة مغايرة ومختلفة، بريد ينقل الحياة  ونبضها في شوارع بغداد خاصة والعراق عامة حيث يصفه حاتم الصكر قائلا:- ثمة بريد آخر كان يناور ذاكرتي ويقتحم غربتي ويجعلني ألمس نبض بغداد حيا عبر رسائله، كلما مددت يدي مجتازة غبار الصندوق وصمته أحيانا..بريد يحمل كتب الأصدقاء المقيمين في الوطن وأخبارهم ونتاجاتهم، ويؤجج ذلك الحنين الذي يتكاثر كنبت وحشيّ على سهول القلب فيؤلمه ويطعمه للمرض والأزمات.
     فضلا عن البريدين السابقين هنالك بريد ثالث ينطوي على ما ضمته روح بغداد في المنافي،  وهذا البريد تنبع أهميته من كونه يجمع بغداد روحا وجسدا وينسف وهما مفتعلا يعمل ضمن مقولة متهافتة وهي مقولة الداخل والخارج، لذا فالناقد وإيمانا منه من حقيقة ألا فرق بين مثقفي العراق وكتابه ممن يعيشون في الداخل والخارج، فقد ضم كتابه بالإضافة إلى ما كتبه عن العراقيين الساكنين في الداخل ما كان قد كتبه عن قصائد أخوتهم الساكنين في الخارج حيث يقول :- وهذا الكتاب يجمع بعض ما وصلني من بريد بغداد شعرا، وما ضمت روحها في بعض المنافي، ويعكس صورتها ممثلة بالقصيدة في فضاءات المدن التي لم تجعل بغداديات العراقيين إلا صورة أخرى تزيل وهم الداخل والخارج وامتياز كل منهما أو تميزه، فالروح التي احتوتها الشعرية العراقية وعبر أجيال الكتابة المتنوعة شعرا وسردا ونقدا لا تقيم فاصلا بين داخل وخارج، ومنفى ووطن.
   ولو رجعنا لمحتويات الكتاب نجد أن الناقد الصكر قد قام بإلقاء ضوء نقدي على جزء من الشعرية العراقية من خلال ملف شعري نشرته جريدة الأديب تحت عنوان “شعر ما بعد الستينات”،  ولا شك أنها مغامرة شخصية وموضوعية بالنسبة للناقد الصكر حيث يقول(ص 9):- كيف أفلح في أن أفك ذاتي عن موضوع مراجعتي لقصائد تنعى ما راح وتندب ما بقي؟، بل كيف أبصر المشهد وأنا مفردة موجعة فيه؟ ألم شظاياي وأركب خطابا بدم بارد وحياد مهني لأعاين الفني والموضوعي في لوحة مستعرضة أو شريحة مقتطعة من جسد الشعرية العراقية الكثيفة، ولكن المثخنة بالألم الذي يفيض فيجرف كالسيل ما يعترضه من لغة وتراكيب وايقاعات وهيئات خطية ممكنة؟.
 ضم الملف (22) شاعرا وهو عدد لا يمثل سوى جزء بسيط في مشهد الشعرية العراقية يكاد لا يعني شيئا في الواقع الحقيقي الشاسع وهو ما جعل الناقد الصكر يتساءل متهكما(ص 11):- ألا تبدو خطة المحرررين في (الأديب) طموحة للغاية، وهم يتوخون عبر تقديم 22 شاعرا أن يلموا بأجزاء صورة شاسعة يصطف فيها الشعراء كحراس الليل الذين رتبهم فان كوخ في لوحته الشهيرة جلوسا ووقفا لكي لا يحرم أحدا من الظهور؟ ثم هل يمكن لعدد خاص أن يلم بصورة ما بعد الستينات كما عنونت (الأديب) على غلاف العدد.
   يوجز الناقد الصكر أن الخارطة الشعرية العراقية تنطوي على طغيان قصيدة النثر في خطابها ثم قصيدة التفعيلة بدرجة أقل فاعلية وكذلك تأتي قصيدة النص بوصفها نوعا ثالثا خلفهما يتميز بكونها نسقا له مركز وليس له نهاية، ولكنه يتحفظ على كون الشعر الستيني حدا فاصلا بين نوعين من الموجات الشعرية العراقية، بالرغم من انطوائه على عقدة كولومبوس أي عقدة الاكتشاف الذاتي وإلغاء الآخر، ولكنه أي الشعر الستيني وحسب الصكر يمثل مناخا عاما ونقطة تحول صار فيها للتجارب الشكلية مدى أوسع واتسمت بالانفتاح على قصيدة النثر كمقترح لتطوير أفق التجديد  الذي جاءت به قصيدة الرواد الحرة في الأربعينات، ورغم تأكيد الصكر على صعوبة مهمته في إنجاز خطابه النقدي حول ملف يحتوي على حساسيات مختلفة في الشعرية العراقية لكنه يخرج بملاحظات في نهاية ورقته يصرح بكونها غير عامة بسبب الانتقائية في عملية الاختيار ومحدودية الأسماء وظروف النشر، حيث يجد حساسية واضحة وعناية بالجماليات النصية ينعكس فيها مزاج ثقافي يميز القصيدة العراقية، ولا حظ الصكر في النصوص المنتقاة ميلا للتكثيف والاقتصاد مما أدى إلى تشظيها، ومن ناحية المضمون وجد الصكر أن الشعراء في هذا الملف مهمومون بوطن (جارح- جريح) محاصر بالمحتلين والدمويين، ماسكا روحه بكفين واهنتين لعله يرى سلامه القادم وحريته وأمنه، وأبناءه الغائبين والمغيبين قبل أن تبيض عيناه وأعين محبيه حزنا ودمعا ومراثي.
   وتحت عنوان (قصائد في أفق الحداثة) يتناول الشاعر مجموعة قصائد لتسعة شعراء آخرين، وفي معرض تقديمه للنصوص يقول حاتم الصكر(ص45):- إذن فهذا فجر يوم تصبغ أفقه قصائد العراقيين سحرة الكلمات منذ ذلك الذي رأى كل شيء، وحلم أن تتغنى به بلاده قبل أن تعبث بأور العاديات والرصاص).
  في الواقع أجد الناقد الصكر يكتب مقدمة نثرية مؤثرة يختلط بها أسى الناقد بوصفه إنسانا بمحنة الوطن وشجن كتبة النصوص موضوعة النقد حيث نقرأ في الصفحة ذاتها(إذن هي أوجاعي الراقدة تحت صبر قليل نفد حتى انعدم، وأمل أقل تلاشى في فضاء غربتي الغريبة-بتلخيص التوحيدي- وحلم صار وهما كتلك الأوهام التي صيّرتها أحلاماً، في زمن مرَّ كسحاب أو سراب وزنت سنواته بالقصائد وقصائده بالسنوات، فضاعا معاك العمر والقصائد وبينهما مفردات الطفولة والصبا، والبيت والوطن). إن قصائد الشعراء العراقيين في فترة ما بعد الاحتلال أثارت أسى الناقد المكلوم بولده الذي اختطفه البرابرة لمجرد أن جنسيته تقرأ أنه ولد في  محافظة لم ترق لهم، لا شك أننا حتى في أكثر خيالاتنا اضطرابا وفي أشدها خللا سوف لن نحلم أن نجد في العراق من سيقتلنا لأننا ولدنا في مدينة من مدن العراق فيها أكثرية مذهبية معينة، إننا في واقع الحال نبكي مع الشاعر الذي اختطف ولده لأنه ولد في واسط ونبكي على العراق لأنه انحدر إلى هذا المنحدر الوعر والمخيف عندما نقرأ قوله حين يخاطب الشعراء العراقيين:- ألا يكفي لوجعي- أيها العراقيون الشعراء والشاعرات- هذا الخريف الثالث الذي سيمر على غياب ابني في صندوق سيارة أحد(الوحوش بدشاديش قصيرة) ممن تتحدث عنهم قصيدة هنادي خليل لأنه مدون الولادة في مدينة لها ذاكرة تاريخ لا يعرفون له اسما.)
ومن الشعراء الذين قرأهم الناقد في هذه الدراسة  أحمد عبد السادة وحسام السراي وزاهر موسى وغيرهم.
وفي دراسة أخرى تحت عنوان( احتراقات المنفى وخسارات الماضي) يتناول الأستاذ الصكر مجموعة أخرى من الشعراء العراقيين منهم محمد الأمين وناجي رحيم وشعلان شريف وموفق السواد وغيرهم ممن عاشوا في المنفى حيث يجد الناقد أن ما يجمع نصوصهم  الخسارات والأحزان المتجذرة.
    كذلك ألقى الناقد بعض الضوء على الشعر الكردي من خلال أنطولوجيا الشعر الكردي المعاصر التي صدرت مؤخرا تحت عنوان أرواح في العراء، وقام بإصدارها الشاعر الكردي عبدالله البرزنجي وضمت عدة أجيال من الشعراء الكورد من أشهرهم عبدالله كوران ونوري صالح وكامران موكري، وكذلك جيل الستينيين من مثل الشاعر شيركوبيكس ولطيف هلمت وغيرهم.
  وقد قرأ الشاعر عدة دواوين لشعراء عراقيين منهم الشاعر علي جعفر العلاق والشاعرة سهام جبار والشاعر عبد الرزاق الربيعي وعباس السلامي وجواد الحطاب وطالب عبد العزيز وباسم فرات وعبد الهادي سعدون وذياب شاهين وغيرهم من الشعراء.