19 ديسمبر، 2024 12:54 ص

قراءة في الكمِّيَّاتِ المُتـَّجَهةّ! – قراءة نقدية للنص الشعري: مُنعطف الوقت ، للشاعر مروان ياسين الدليمي

قراءة في الكمِّيَّاتِ المُتـَّجَهةّ! – قراءة نقدية للنص الشعري: مُنعطف الوقت ، للشاعر مروان ياسين الدليمي

ساعةَ امسَكَتْ الخاتمة ُغفوتَنا/عَبَرنا بلاداً/ أستيقظت منازلها/على/ وشم العتاد ./أنَذَاك/ ثقبنا أجراسَ الهواء /مُلطّخاً/ بأحذية خلفها غُربَاء .
الزمان والمكان كميتان متجهتان وكل كمية متجهة هي ذات أبعاد ثلاث تتحدد  بالكم والنوع والسببية وهي في نفس الوقت ذات مسار معين لا يتغير إلا َّ إذا عبر من حيز الى آخر. والإنعطاف “الإنكسار”لا يكون إلا َّ رَدَّة فعل لحدث سابق له، كأنَّ الكمية المتجهة تعبر من حالة الى أخرى أو من حيِّز ٍ ذي كثافة الى حيز ٍ ذي كثافة أخرى، مثلا إنكسار الضوء أو غيره عندما يمر من الهواء الى الماء. الوقت وهو كمية مُتـَّجهة يحتوي على كل تلك الصفات الآنفة الذكر والى جانبها فإنـَّه يتقلـَّدُ الفرح والمأساة، الحزن والسعادة، الألم والطوبى، الحَيْرى والطمأنينة. ومنعطف الوقت سيُؤدِّي حتما ً الى ما كنـّا لا نعرفه وكان مجهولا وربما لم يكن بالحسبان أو على الأقل لم يكن مُتـَوَقـَّعا ً. الوقت دائما له ثلاث حالات ملتصقة ببعضها ولا تفترق أبدا هذه الحالات هي الماضي والحاضر والمستقبل. الماضي والمستقبل هما حالتان متناقضتان، الأولى محددة وكانت قد بدأت وأنتهت فهي حالة مُعَرَّفـَة بـ”الـ” التعريف! وأمّا المستقبل فهو على العكس بالضبط: هو حالة تكمن في المجهول.
         ” وأَعْلـَمُ مَا فِي الْيَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَـهُ   وَلكِنَّنِـي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَـمِ”
المستقبل له ما ليس لنا فهو دائما يسبق ملكيتنا وما نستطيع أن نتملـَّكُهُ ويتعداها، يفوق قوتنا ويقف لنا بالمرصاد، إنـَّه من مُلك “ﭙروميثيوس” “Prometeo”  حسب  عقائد المثولوجيا الأغريقية ـ اللاتينية! أمّا “اليوم” فهو ليس إلا َّ وليد المستقبل وميت الماضي وهو حالة من القلق وعدم الإستقرار! الحاضر هو تفاعل وانفعال، كسب وخسران، حرب وسلام، حب وكراهية، غبن وثقة، صداقة وخيانة، بحث وإكتشاف، نجاح وخيبة، صراع مستمر يطول لحظة واحدة! ولكن هذه اللحظة في أحيان يكون الأحساس بها دهرا بكامله، عمرا بطوله وعرضه، هذه اللحظة التي هي وليدة المستقبل وميِّتـَةُ الماضي هي ذاتها الوجود الحقيقي لكل مخلوق موَّاتٍ:”موجود لغيره” أو “ممكن الوجود”! “منعطف الوقت” كان في لحظة من عمرنا، من عمر الشاعر مروان الدليمي، وهاهي هذه اللحظة دائمة قائمة فيه وفينا ـ ما أقام عسيب ـ! هي ساعة الخاتمة التي  طوَّقتـْنا وأمسكت بنا على حين غفلة، تلك الغفلة كانت مُقـَدَّرة من قبل ولم نكن لِنـُحِسَّها بسبب غفوتنا؟! هل هذا صحيح؟ هل كنـَّا نائمين؟! لا أعتقد ذلك! لقد كنـَّا وسُمُّ الموت في أجسادنا وأرواحنا والشاعر كي يُخـَفـِّفَ الوطـْأَة علينا وثقل الذنب قال: ” ساعةَ امسَكَتْ الخاتمة ُغفوتَنا”! فالشاعر ـ أوَّابٌ مُنيب ـ يخاف أن يجرحنا أكثر ممّا جُرِحْنا، أن يقتلنا أكثر ممّا قـُتِلـْنا. “الخاتمة” يُمكنُ أن تكون بداية فمنعطف الوقت هو بداية للإستمرار في العيش في وقت آخر وهو بذاته ليس إلا َّ شكلا ً أخرَ “للممكن الوجود” هذا الشكل والمضمون لهذا الإنعطاف هو العبودية ـ الخسران ـ الحزن ـ والرؤيا الأخيرة التي ملؤها المأساة والألم: بلادٌ منازلها استيقضت على وشم العتاد!الوشم هو ذاك الذي سببه الرصاص والقنابل والقصف والخراب، إنه وشم معركة وحرب لا تزال قائمة على قدم وساق، حرب مُستعمِر ٍ أتي من من الخارج ومن بعيد، وحرب دائمة من الداخل، داخل الجسد الموشوم والموسوم بانفصال وتناقض أطرافه ومكوناته لما تحويها من سموم الماضي البعيد والقريب، بطائفية الحاضر التي تحوي كل جهل وغباء الماضي ومجهول المستقبل، تلك الطائفية التي تفشت كالسرطان في حاضر الوجود، الوجود كله عقلا وفكرا، جسدا وروحا ولم تـَعُدْ تـُحِسُّ  بآثار أحذية الغرباء الذين داسوا على شرف وكرامة وجود الأنسان بذاته وفي ذاته!
كفَرنَا برائحة التراب /وكأناّ صدّقنا ثانية ً/بأنّا سنشربُ كؤوسَ المشهد ِ /مُعمَّداً بالغَسقْ ،/وأنّ المقاهي ستحل ُّ بعد قليل  لغزَ/عُزلتِنا/ والحكماء سيقطنون عَنابرَمن تورّط  بالحروبِ/ والرهاناتِ  الخاسرةِ  ،/وأننا بعد هذا :/لن  نَتَلفَتَ بِرجولتِنا/ولن نرسم أمطارَنا/ وشهوتَنا للبحر / ورائحةَ النساءِ.
عندما تصل المعاناة حدَّا ً لا يُطاق والألم يزيد على مجرَّد “غمامة صيفٍ عَنْ قرِيبٍ تـَقـْشَعُ” والحزن يُمسي المأكل والمشرب والهندام والمأوى، عندما اليأس يرتدي جلباب الأمل والخيانة تتزوَّقُ وتتجمَّل لابسة ً قناع الثقة وتنقلب الأشياء على عكس ما هي عليه ويسقط الوجود كلـُّهُ في أقصى الحضيض فإنَّ ـ الرجل، الإنسان، الشاعر، الفنان، المفكرـ (يكفر)! كلُّ شيئٍ يكفر بكلِّ شيئ، وإذا “كفرنا برائحة التراب “فنحن في حالة من المستحيل أن تصفها الكلمات أو أن يـُطِيلـَها أي تعبير يُفـْصِحُ عنها. “التعميد” مفهوم يدلُّ على التطهير من الدنس والزيف والإثم، وإذا أصبح المشهد أمامنا معمددأ ً بالغسق ـ الدم فهو سيكون طاهرا وخالصا من كلِّ ما يشوب ذاته وشكله، ظاهره وباطنه. الخدعة هي ها هنا: أن تظهر الأشياء على غير حقيقتها وعلى الشاعر أن يكشف هذه الخدعة! كنـّا فيما مضى قد عَلـَّمونا بإنَّ الشاعر ـ الفنان هو أكذب الخلق! وهو الذي يرسم الواقع ـ الطبيعة بغير ماهي عليه وكلمـَّا كان كذبه أكبر كلما كانت قصيدته تزداد روعة وجمالا ً! أمّا اليوم فالشاعر يبدو أكثر صدقا من الواقع ذاته، بل هو مرآة صادقة في عكسها لصورة الواقع دون أن تستبدل يمنها بشمالها، دون أن تغير أو تزيد من ألوانها وشكلها، دون إضافة أو نقصان لأن الواقع قد ارتدى جلباب الرمز، الرومانسية والسريالية وها هو الشاعر يُعيدُ صورة الواقع الى حقيقته! أن يُصَدِّقَ من يرى كلَّ ما أمامه من زيف سيصبح حتما في حالة من الغثيان والشرود والسحر الذي يشلُّ إرادته ويعطـِّلها بحيث أنـَّه سَيُصَدِّق! بينما الشاعر يستخدم الكلمة، المفردة، وهي من أخوات “إنَّ” اللاتي لم يزلـْنَ على قيد الحياة :(كأنَّ) ! كأنَّ هذه هي للتشبيه لا غير، فالشاعر لم ينخدع بما أمامه من واقع مزيف: المقاهي التي سيكون بإمكانها أن تحلَّ اللغز[ بينما نلعب الطاولة والدمينو والنرد وغيرها ونحتسي الشاي الغامق الحمرة الشبيه بدمائنا بل كان قد اُسْتـُقـْطِرَ من دمائنا]، لغزالعزلة، وتعرف سبب نزول الحكماء وعيشهم في عنابر أولئك الذين تورطوا بالحرب والرهانات الخاسرة! وهذا ما سوف لن يحدث، فهل سيمكننا أن نلتفت برجولتنا ونرسم أمطارنا وشهوتنا للبحر ورائحة النساء؟!
رحيلنا ،/على تلك النوافذ … حِدادْ/مُشتهانا بلادْ./ فوق كنيسةِ الساعة -1-/ كم أيقظَ نعاس الشمس/ رنين الناقوس./ كم أقتربنا من/رجولتنا/ وابتعدنا كثيراًعن طفولتِنا فأنكسرنا/ وانكسرنا/ وانكسرنا./ حفاةً نمضي/ يُظَلِلُنا الغبار.
الحداد أكثر ألما من الجرح ـ الموت، الحداد عندما يكون نافذة ستصبح كل الدنيا عبارة عن مأتم، كل ما نراه، نـُحِسُّهُ، نفكر به سيصبح مأتم؛ الوجود كله مأتم! وكل ما سنشتهيه هو بيت ـ بلاد  تستر عورتنا وضعفنا وقلة حيلتنا! هناك حيث “كنيسة الساعة” حيث ربى الشاعر وربيت أنا أيضا، الكنيسة ونواقيسها التي كانت توقض نعاسنا ونعاس الشمس عندما كنـَّا نستغرق في نومنا على سطوح المنازل في ليلة تحفها النجوم والصيف يُهدهدُ هواءها العليل! تلك الكنيسة وتلك ” نينوى”! نحن كلما رحلنا واقتربنا وأصبحنا تمائم في أحشاء رجولتنا كلما ابتعدنا عن طفولتنا وانكسرنا، تفتتنا، تبعثرنا وفقدنا قوة سفرنا وترحالنا إذ أصبحنا حفاة! يقول أحد أمثال شعب روما: “يكفينا حذاء جديد والقليل من الصحة كي ندور حول العالم كله”! ولكننا حفاة يظللنا الغبار ونحن نمضي عابرون الى القرارة!
عندما يُلـْبـِسُ الشاعر الواقعَ جلباب الرومانسية والرمزية والمثالية والسوريالية سنقول عنه كاذبا متغطرسا يتلاعب بالحقيقة والواقع! ولكن عندما ينزع الشاعر كل هؤلاء عن الحقيقة والواقع ويُرينا إياهم عاريين كما خلقهم الله فماذا سنسمي الشاعر الفنان حينها؟!
بكامل ِوعيِنا /شطَبنا الياسمينَ/ مِن وجوهِنا/ تعقَّبْنا أناقة/النُّعاس في رطوبةِ أزقَّتِنا/ علّقنا رائحة َالاوتارِعلى/ حيطان ِتوبتِنا، /كأنَّ رحيلنا
مُذ خَرَجنا من رعشة ِأُمهاتِنا/ يلفّقُ المنافي لنا/ أينما أتجهنا  .
الوعي هو كل ما يملكه المخلوق من وجوده الحقيقي وإذا فقده فإن كل ما يمكن أن يكون من بعد ذلك فهو هرطقة لا وجود لها، أو أنها محض حالة، غيمة عن قريب تقشع! الصورة الشعرية هنا تفوق عمل صانع الفخار الذي يحاول أن يكسر ويحطم كل ما صنعه من قحوف وجرار وآنية كي يبيعها ويعيش بذلك الثمن الزهيد بقية حياته، ولكن ها هو يحطمها، يحطمها ويكسرها فقط لأنه قد جُنَّ بالعشق، إنه قد محى الياسمين من وجهه فهو لا يهمه أن يتزوَّق أو أن يتحلـَّى بالياسمين ورائحته العبقة، بل سيبقى ملطخا بالطين وعالقا به من رأسه وحتى قدميه، فرائحة الطين هي وجوده الحقيقي والذي سيودي به الى الفوز! ذلك كي يتعقب آثار عشيقته: أناقة النعاس في رطوبة الأزقة القديمة [ أزقة  أحياء باب لكش، باب البيض، باب الطوب، الدواسة، النبي شيت، الساعة، السرجخانة وغيرها وغيرها…]، إنـَّه سيفوز مُعلـِّقا رائحة الأوتار، رائحة العزف على حيطان التوبة؛ كل هذا هو الظاهر من الأمر، أمّا الشاعر، وبالرغم من استعماله كلمة “كأنَّ”، فإنـَّهُ مُوقِنٌ بأنَّ ذلك ليس حقيقة، إنـَّه يعرف مسبقا ً بأنـَّه ومنذ لحظة خروجه من “رعشة إمه”: لحظة الطـَّلـْقِ وآلامه، سوف يرافقه الرحيل وهذا الأخير بدوره سوف “يُلـَفـِّقُ” المنافي له، بل يجعله يعيشُها متوحِّدَةً بوجوده الغائص في رطوبة أزقته وأناقة نعاسها! إنه كغيره من مُشتهي بلاد ” كنيسة الساعة” و”نينوى” سوف يكون منفيا ً أينما اتـَّجَه!
أودّ الانَ/ أن لاأستدلَّ على وجهي/ أن اشطُب سَمعي/ أن أطفىءَ بَصري ./ أنحدِرُ بالوصايا/ الى مُنعطفاتِ المراثي / أطيلُ انتظاري بعيدا ًعنها/ إلى أن  يأتي نشيدُ العَدم  .
بعد كل الذي حدث، بعد المجازر والدماء التي كان الغـَسَقُ قدِ اسْتدان منها اللون والطعم والرائحة، بعد القتل والتشريد والتعذيب والتهديد والأغتصاب والقهر، بعد الإحتلال والإنشقاق والذل والموت وبعد “كان ياما كان” يصل الرجل الى حالة قصوى لا يستطيع بها حتى الوجود كله بما فيه من قوة وعظمة أن يحتملها، هذه الحالة تفقده قوة الفعل  والرد على على تلك  بما يستطيع به الخلاص منها، فيصبح وجودا ضعيفا يحاول الهروب والتملص من مما يعتريه من خسران، هذه المحاولة هي ليست إلا َّ استمرار للحالة نفسها! الإستمرار بالتقهقر والإنحدار الى هاوية العدم. الرجل هو رجل كل زمان ومكان ولكنه هو ذاك، لا يستطيع أن يتخلض من سببيَّتِهِ. لا يستطيع أن يتعرى وينزع عنه هندامه القديم وإن كان قد تمزق وأصبح أوصالا لا تقيه من شيئ ولا تدل عن هويته أو أيِّ معنىً لوجوده؛ الشاعر يستمر في الإتجاه نفسه، المنحنى الذي تسير به حالته ليكملها وينهيها عن بكرة أبيها: هو لا يريد التعرف على وجهه حينما استدعته السلطات للتعرف على “ضحية العصر الكبرى”، أللا َّ يسمع، أللا َّ يرى، أن يرمي بالألوح ويكسِّرُها، يُفـَتـِّتـُها مُلـْقِيا ً بها على “منعطفات المراثي” وأن يقيم بعيدا عنها مطيلا إنتظاره حتى يأتي “نشيد” الموت.
هل أنا هُناك ؟/ أستيقظ ُخارج عُزلتي/ أُرَوِّضُ أعترافات أصابعي
أمدُّها من نافذتي/ لعلها في لحظة ٍ/ قَدْ  تُمسِكُ غيمة ً هاربة ً/
من نينوى – 2 – .
إنـَّهُ مأزقٌ لا محالة منه، مأزق الوجود المفعم بالغربة والحزن والألم المُعَرَّف بـ “ألِفِ” التعريف الكبيرة وبالرغم من هذا فهو ألم مبهم! ألم العزلة والفراق المبللل بدمع لم تره العين من قبل، لم يسبق وأن ذاق اللسان ملوحته ومرارته، إنها دموع خفية تودي الى اعترافات الأصابع الممتدَّة الى نافذة، هي بذاتها متواجدة بين
“… تلك النوافذ . . حِدادْ”، إعترافات هذه الأصابع هي الرغبة والشوق الى غيمة، سحابة تمر، ربما، هاربة هي الأخرى من “نينوى” حاملة بعض، بعض، بعض ما تشتاق إليه الروح ويتوق إليه القلب.
خلفَ أسيجة ٍتتعقبني/ أجتازُ إنتظاري ،/ أنا الغريبُ هناك/ كما هُنا .
الغربة في رحم الأم، الغربة خارج رحم الأم “كأنَّ رحيلنا مُذ خَرَجنا من رعشة ِأُمهاتِنا”، الغربة في أصقاع بعيدة، في كلِّ مكان وزمان الغربة قدر كل أولئك الذين كانت قد زُرِعَتْ فيهم نخلة من نخيل العراق وياسمينة من يَسَامِين ِ “نينوى”! سبب هذه الغربة ليس المكان ولا الزمان، سَبَبـِيَّتـَهَا تكمن في قلب ذلك الحدث : الخروج من رعشة الأم! أن تكون غريبا هذا ليس معناه أن تتحرر من قيودك وتتخلص من جذورك، بل على العكس، إنك تزيد منها وتجعلها أثقل وأكثر قوة وصلابة، فالغربة تتضاعف وتصبح غربتان وثلاث وأربع و…الى ما لانهاية، ما لانهاية الغربة هي تلك “الأسيجة ” التي لاتفتأ تتعقب وتفتش وتطوق “المغلوب على أمره” بالرغم من إمكانه أن يجتاز أنتظاره فهو سيبقى :” أنا الغريبُ هناك/ كما هُنا .”!
السكونُ/ الرجلُ الطاعنُ في السِّنِ/ وسائقُ التاكسي/والعابرون من المنافي تحت قلعة ِأربيل -3 -/ كُلهم/ يفتحُ خزائنَ الرّيبة ِ/ ليستجوب سحنتي.
إذا كنتَ غريبا ً حتى وإن كنت في رحم أمِّكَ، فستبقى كذلك أينما كنت وحللت وفي أيِّ زمان! أنت موسوم بهذه الغربة وموشوم بنارها حتى النخاع وكل من سيراك سـ “يفتحُ خزائنَ الرّيبة ِ” والشَّكِّ، سَيُقـَلـِّبُ كلَّ مايجده ويبحث في تلك الصناديق المغلـَّفة بالغبار والتي كان الدهر قد أكل عليها وشرب! وسيحاور ذاته وأدواته في خزائنه عَلـَّه سيجد “خاتم نبينا سليمان”! ويتعلم كل لغات مخاليق الله، سيتعلم لغتك، لغة “السكون” ولغة ” الرجلُ الطاعنُ في السِّنِ” ولغة ” سائقُ التاكسي” وسيدعو كل ” العابرين من المنافي تحت قلعة ِأربيل” كي يجد الطريق إليك وسيستجوب سحنتك، سيبحث في خزائنه مرَّةً أخرى وأخرى وأخرى…حتى يلهث ويفهق ويتصبب العرق من جبينه وتجف شفاهه ! سيبحث عن أيِّ شيئ يستطيع به أن يَحُلَّ “عُقـْدَةً في لِسَانِك” ويجعلك تنطق، تحكي، حتى إذا لم تكن تفهم لغته ، سيطلب منك  أن تكلـِّمَهُ “رمزا” وإن كانت آيتك “أللا َّ تـُكلـِّمَ النـَّاسَ ثـَلاثَ … ـ قرون ٍـ  سَوِيـَّا”! ويسأل: مَنْ…؟!  وسيتكرر السؤال ألف ألف مرة وستكون الإجابة نفسها ألف ألف مرة؛ وبعد الإعياء والتعب، بعد خيبة الأمل والتراجع والأسى والأسف والحزن هل ياترى ستكون الإجابة كالتالي:
             أجاَرَتـُنـَا إنَّ المَزَارَ قـَريـــــــــبُ       وإنـِّي مُقِيمٌ ما أقـَامَ عَسِيــــــــــبُ
             أجَارتـُنـَا إنَّ الخـُطـُوبَ تـَنـُـــوبُ       وَإنـَّي مُقِيمٌ مَا أقـَامَ عَسِيـــــــــــبُ
             أجَارَتـُنـَا إنـَّـا غـَرِيبَانِ هَاهُنـَــــــا       وَكُلُّ غـَرِيبٍ لِلـْغـَرِيبِ نـَسِيـــــــبُ
             فـَإنْ تـَصِلِينـَا فـَالقـَرَابَةُ بـَيْنـَنـَــــا       وَإنْ تـَصْرِمِينـَا فـَالغـَرِيُب غـَرِيـبُ
             أجَارَتـُنـَا مَافـَاتَ لـَيْسَ يَـــــؤُوبُ       وَمَاهُوَ آتٍ فِي الزَّمَانِ قـَرِيــــــــبُ
             وَلـَيْسَ غـَريبا ً مَنْ تـَنـَاءَتْ دِيَارُهُ      وَلكِنْ مَنْ وَارَى التـُّرَابُ،غـَرِيـــبُ  ؟؟؟!!!
ولكن ما سبب الغربة وما علتها؟ ماهو ذلك الحدث الجسيم الذي بوقوعه تكون الغربة نتيجة له؟ لماذا يتخلـَّى المرء عن ذاته، عن “الأنا” التي هي مصدر وجوده الأول وهويته في حياته على هذا الكوكب المسكين؟! هل هذا السبب كما يقول الطغرائي: “
إنَّ العُـــــــــلا حَــــــدَّثـَتـْنِي وَهْيَ صـَـــــــــادِقـَةٌ        فِيمَا تُحـَــــــــــــــــــــــــدِّثُ أنَّ العِزَّ فِي النـُّقـَلِ ،
 أم أنَّ القضية تتعلق بما كان يقوله المثاليون الألمان مثل هيجل”Hegel  ”  وغيره: ـ الأنا تغترب عن ذاتها، فتتحول من “أنا” منتهية ومحدودة الى “أنا” غير منتهية وغير محدودة، أي لا نهائية ومطلقة! فهي “أنا” الإغتراب عن الذات و”أنا” المعرفة!  وهل المعرفة هي سبب الإغتراب؟إنَّ كل ما يجعل الإنسان لا يشابه عصره وزمانه ومكان عيشيه سيجعله حتما غريبا عنهم بصيغة أو بأخرى :” الأعور في عالم العميان إما أن يكون دخيلا غريبا أو أن يكون ملكا”؟! هذا الإختلاف أهو الغربة؟ وإذا كان كذلك أهو مصدر المعاناة والحزن والألم والمأساة؟
مضى العُمر/ وانا لاأتقنُ إلا ّ لغَتي/ في شوارعَ/ تهدّمت أُنوثةُ النهار فيها/ وتعثّر الكلام  بتجاعيدها .
“هذا العمر قضى” هذا ما قاله ويقوله الكثيرون! أمّا أن المرء وبعد أن مضى أكثر عمره وهو لا يجيد ولا يتقن ،بعد كل هذا وذاك، إلا َّ لغته فإنَّ هذا هو الفوز العظيم! هذا هو الصدق بكل أشكاله وجوهره، ما من شك بأن لغة الشاعر في هذه القصيدة هي لغة سَلِسَة ٌ واضحة لا شائبة فيها ولا أخطاءً لغوية أو نحوية أو إملائية كما في الكثير من القصائد والمجموعات الشعرية التي تصلني بطريقة أو أخرى للكثير من الشعراء الكبار منهم والصغار! لا شك من أن مروان الديليمي يجيد لغته ولسانه هو “لسان العرب”! وها هو يعترف بذلك وكأن معرفة اللغة هي ذنب قد اقترفه في زمان من يجهلون لغتهم وأصلهم وشرفهم من العرب الباقية التي لا حق لها في الوجود وقد كان من الأوْلـَى بها أن تلحق بـ “العرب البائدة”! هذا العمر قد مضى، أين؟ في ” في شوارعَ/ تهدّمت أُنوثةُ النهار فيها/ وتعثّر الكلام  بتجاعيدها .”هل أنوثة النهار تعني أن في تلك الشوارع، شوارع العمر لا تسير فيها إلا َّ المحجبات والاتي لا يُرى منهنَّ إلا َّ  “حجما” داكن اللون أسودَ، دائريا ً أو مربعا ًأو مستطيلا ً لا يُدرَكُ منه الوجه من العقب ولا الرأس من القدمين؟ أم أن أنوثة النهار هي ذلك الحب الكامن في القلب والحشا لتلك الشوارع التي تؤدِّي الى “كنيسة الساعة” وتلك الشوارع التي تـُزَوِّقُ وجه وجسد “نينوى”؟ الشوارع المهدَّمة، التي انهار وتكسر وانهدم العمر فيها ولم تعُدْ إلا َّ أطلالا ً هاوية وعروشا خاوية! لغة الشاعر وإنْ كانت لغة جميلة ورائعة ورصينة ها هي تتعثر كما الكلام يتعثر في في تجاعيد ذلك الوجه ـ الشوارع!
اليومَ  ، رزمتُ أختلافي مع المُتمترسينَ عند ظلال الخوف ،/ وهم  ينصتون بشغف ٍلمشقَّة البلاد . 
رَزَمَ: فعل ماض مبني على الفتح والـ “ت”: فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره!!! ـ هكذا علـَّمونا في المدارس! رزم بمعنى حزم ونقول في ما نقول من تعابيرنا في لغتنا الجميلة: حزم الرجل متاعه للرحيل، ورزم التلميذ دفاتره للذهاب الى المدرسة! ورزم رجل الجبل ” في العراق وفي الشمال منه عادة هو رجل كردي عراقي”صفائح التبغ اليابسة ليأخذها الى السوق ويبيعها لمدمني التبغ مثلي! وإنْ كان معنى رزم هو حزم ولكن يبقى الإختلاف بينهما كبيرا والشاعر استخدم في تعبيره الفعل “رَزَمَ” وليس “حَزَمَ”! هذا لأنَّ الشاعر لا
“لايُتقنُ إلا ّ لغَته” فهو قد رزم في آخر الأمر اختلافه مع المتمرسين عند ظلال الخوف منهم وعليهم بينما هم شاردون يتنصتون بشغف الى الأخبار وما يحدث من معاناة ومشقة في البلاد؛ الشاعر رزم دفاتره كأي تلميذ مجتهد وجبان في نفس الوقت وذهب في طريقه ليجلس على “باب الله” وهو يقول: من منكم أفقر مني فأنا لا أملك إلا َّ لغتي هذه، فيرد أحد المارة عليه قائلا ً: أنت أغنى ناس عصرك!
نينوى رتَّبَت شكلَ التراب على وجهي/ مَشَت بي الى سماء ٍمُرتبِكة  
فهل من بلادٍ  مثلها؟/ الشمسُ فيها باتت منازل للطارئين/ الساعةُ الانَ لهم/ ونحن على طاولة ٍللتجاذب/ نحدِّقُ في ساعة ِموتِنا.
في “مدينة السينما” “Cinecitta “في روما، في إحدى الأيام الخوالي كنت أتجول هناك ودخلت بناية وفي إحدى ردهاتها وجدتني أما باب غرفة، دخلت، وجدت الكثير من الممثلين والعاملين وهم في شغل شاغل من أمرهم: المُزوِّقون والمُهّنْدِمُون يعملون بكل اجتهاد لتحضير أزياء الممثلين من ملبس وتزويق، كنت أرى أحد الممثلين وهو جالس على كرسي أما مِرآة  وعلى منضدة أمامه الكثير من القناني والأصباغ وأدوات التجميل وكان أثنان من المُزَوِّقين يعملون بكل تركيز على تهيئة ذلك الممثل للمشهد الآتي الذي سيبدأ تصويره بعد قليل! وها هو شاعرنا “الممثل الأول” في “مسرح العبث” أو في السينما “الواقعية الجديدة الإيطالية”! ها هي “نينوى” تـُزَوِّقُ وجهه وتـُعِدُّ شكله وهندامه للوقوف أمام عدسة آلة التصوير، أمام المخرج “مروان ياسين الدليمي”!  نينوى رتَّبَتْ شكل التراب على وجه الشاعر وأخذته نحو سماء مرتبكة! (الحقيقة هي أن الإرتباك كان ارتباك الممثل وليس ارتباك المخرج ـ السماء). فهل من بلادٍ ـ عشيقة مثلها؟، كان مروان الشاعر يتمتم ويوهوس ويوشوش في إذن نفسه قائلا ً: هل من بلادٍ ـ عشيقة مثلها؟! يا حسرتي! الشمسُ فيها باتت منازل للطارئين/ الساعةُ الانَ لهم/ ونحن على طاولة ٍللتجاذب/ نحدِّقُ في ساعة ِموتِنا.كانت هذه الكلمات الأخيرة التي سمعتها من ذلك الممثل قبل وقوفه أمام عدسة آلة التصوير!
مُنعطفُ الوقتِ/ لا أبتداء/ ولا انتهاء له./هل أطعنُ ما أقولْ/ أم لا أطعنُ ولا أٌقولْ؟
المنعطفات هي ذاتها في كل زمان ومكان، المهم ليس هذا وإنما سبب تلك المنعطفات وعن هذه الأسباب كلها يجيبنا صديقنا العزيز الذي كان قد عاش من قبلنا وانعطف في إحدى منعطفات “نسبيَتِهِ” ولم يعُدْ أبدا، كان إسمه على ما أذكر “ألبيرت أينشتاين”! لك الخيار أيها الشاعر المأخوذ لبا وروحا وجسدا بحب عشيقتك وعشيقتي “نينوى”، لك أن تختار في أن تطعن ما تقول ، أو لا تطعن ولا تقول وتنعطف، ففي الحالتين ستكون معطوفا على ما قبلك وأنت بدورك سيكون هناك من هو معطوف عليك، فـ ” مُنعطفُ الوقتِ/ لا أبتداء/ ولا انتهاء له.”.
ماعدتُّ  أٌبصرُ أيَّ طريق ٍ يقودني(إلى الظلمة) للظلمة/ كأناّ تقوَّسْناعلى الأسى/ وأفرَغْنَا بريدَ نا على وجه ِالعَتَبات.
الطرق الظلماء كثيرة ولا تكلفنا شيئا ً ويمكننا المشي بها كيفما أردنا ولكن طريق النور واحدة! ( هذا ما قاله جدي عنما كان يأكل الكبَّة الموصلية ويشرب من ماء دجلة!) ومن ثم هو أيضا وكأنـَّهُ تقوس على الأسى وأفرغ بريده على وجه العتبات!
هَرَبْنا/ ثم أحرَقْنا، أسماءَنا خَلفَنا/ ومَحَونا الطريقَ / فهل أخطأنا لمّا شَطَبْنا أخطاءَنا؟/ وإن كنّا لمْ  نَزَلْ/ نَقطنُ ما شَطبْنا .
ها هو الشاعر يعترف ولا نعلم هل أن اعترافه هذا: صادقٌ أم لا! ولكن نحن نعرف مثله أيضا من أنه بعد الهروب سيكون الحرق وأن الأسماء وإن بقيت فلا معنىً لها ولا قيمة مادية أم أخلاقية كانت، ومعالجة الخطأ بالخطأ ليس فضيلة وإفراغ كيس بريدنا على العتبات سوف لن يخلصنا من قدر محتوم من قبل كان قد صدر قانون العمل به إجباريا ً!
13/ 3/2013
الهوامش
1- من أقدم الكنائس في الموصل.
2- التسميه التأريخيه (الاشورية) لمدينة الموصل.
3- قلعة تاريخية في وسط مدينة اربيل ( اربأيلو) لازالت شاخصة حتى الان. يعود تاريخها الى عصر الآشوريين والى حوالي الألف الأول قبل الميلاد.
هذه القصيدة لا تزيد عن اعتراف كامل، هذا الإعتراف مظلل ومخطوط بواقعية سوداء وملساء مثل الحجر الأسود! والحجر وإن حكى ويحكي بلغة صافية وشفافة تبقى لغته التي يفهمها فقط من كان على علم بالكيمياء والسيمياء وعلوم الباطنية، لغة الرجل المسن وسائق التكسي والعابرين…، لم تعد السوريالية ولا الرمزية المثالية لتطيق هذه النصوص فهي أبعد منهما بكثير، إنها الواقع البائس المؤلم بحدوده الضيقة وأجوائه المتخمة بالغازات السامة المميتة ولكننا، نحن لسنا إلا َّ حشرات نتحول ونتبدل ونكتسب دائما خاصيات أخرى وقوى هائلة تجعلنا نواكب العيش في هذا الواقع المأساوي لنتخذ من سمومه ومأساته طعاما وشرابا يومي وبذلك نحمد ونستغفر ونسأل إدامة هذه النعمة!