19 ديسمبر، 2024 12:06 ص

قراءة في الخطبة السياسية الأخيرة لشهيد المحراب

قراءة في الخطبة السياسية الأخيرة لشهيد المحراب

يعد السيد محمد باقر الحكيم؛ الشخصية الإسلامية السياسية العالمية, الوحيدة التي انطلقت من مرقد أمير المؤمنين “ع”, نحو المعمورة حاملاً هموم الإسلام, والعراقيين والمسلمين كافة, ليعود لذلك المرقد الشريف بعد أكثر من عقدين من الزمن, قضاها بين محن الهجرة, وسنين الجهاد, ليلتحق بالرفيق الأعلى مجسداً أنبل اللحظات الإيمانية, صائماً في اليوم الأول من أيام شهر رجب, بعدما صلى الجمعة إماماً.

نقدم قراءة في الخطبة الجمعة السياسية للسيد شهيد المحراب؛ الرابعة عشر والأخيرة, يوم استشهاده في الأول من شهر رجب بتاريخ 29 آب 2003, رسم فيها, بعض معالم دولة العراق الجديد, بعد الحمد والثناء على الله تعالى, الذي يصفه بالدائم الذي يصعد أوله ولا ينفذ أخره, ثم صلى على الرسول الأكرم واله الأطهار “ع”, موصياً نفسه الزكية, وعباد الله بالتقوى التي تعد خير زاد, سائلاً العلي العظيم أن يجعل نفسه, والجميع من المتقين والمتبعين لأوامر الله ونواهيه, والمتمسكين بالعروة الوثقى, وهما القرآن الكريم وأهل البيت “ع”.

بعد المقدمة؛ طرح عدت موضوعات, كان أولها الخطر الذي ألحق بالعراق, وقد سماه بــ”العدوان الذي تعرضت له النجف الاشرف”, لاسيما المرجعية الدينية العليا, خلال العهود التي تسلط فيها أعداء الإسلام على المسلمين بالعراق, موضحاً صور من مواقف هذا العدوان بقوله:

“العدوان حينما يكون على إنسان معين, يكون عدوان لغاية محددة تنتهي بنهاية الظرف”, ولكن يؤكد شهيد المحراب؛ إن العدوان على المرجعية الدينية, كان بقصد ضرب الأكثرية في العراق, “التي تقدر بأكثر من أربعمائة مليون شيعي بالعالم”, هذا إذا اقتصرت الحسابات على مذهب معين, بينما تكون القضية أوسع عندما تكون المرجعية الدينية؛ هي المدافع عن حقوق المسلمين كافة أو الأغلبية عامة, هذا يعني أن العدوان عليها يعني العدوان على كل من يحترم هذا مقام المقدس, ويسعى إلى أن يصان امنياً وسياسياً واجتماعياً, بصرف النظر عن الأسماء.

تطرق سماحته؛ لصور العدوان اتجاه مراجع الدين والحوزات العلمية؛ ما قام فيه نظام البعث, عندما استولى على زمام السلطة في بغداد عام 1968, وبدأ بالتضييق على الخط الإسلامي, لاسيما مرجعية الإمام محسن الحكيم, حاول البعث توجيه تهمة التأمر لسماحة السيد مهدي الحكيم, نجل الإمام الحكيم عام 1969, لما له من دور فاعل في التحرك السياسي الإسلامي في العراق وخارجه, أيضا اعتقال سماحة السيد عبد العزيز الحكيم, من أجل إشاعة الضغط النفسي على المرجعية العليا, وإيقاف مواجهتها لسياسات حكام بغداد الجدد.

ما لحق ذلك من اعتقالات وعمليات اغتيال, طالت علماء الدين استشهد على أثرها؛ السيد محمد باقر الصدر عام 1980, والشيخ البروجردي عام 1998, والشيخ الغروي عام 1998, والسيد الصدر عام 1999, والمحاولة الفاشلة لاغتيال السيد علي السيستاني عام 1999, وكذلك الشيخ بشير النجفي, وأشار شهيد المحراب؛ أن استهداف مراجع الدين وضرب المرجعية, تعود بداياته إلى أيام الحكم الملكي الخاضع للانتداب الانكليزي, حيث قام أتباعه بمحاولة نفي وإخراج علماء الدين الشيعة؛ أمثال الشيخ النائيني والسيد الأصفهاني, الرافضين لسياستهم من النجف الاشرف, ليتسنى لهم تسويق توجيهات أسيادهم.

كما أتبع عبد السلام عارف؛ نفس السياسة المقيتة ضد المرجعية الدينية في النجف الاشرف, كأنما شهيد المحراب يريد أن يذكر بموقف, “عبد السلام من تهديده لمقام المرجعية الدينية” حتى لقي حتفه بُعيد ذلك بفترة وجيزة, في رحلته للبصرة عام 1966.

يضيف شهيد المحراب؛ أن ما أتبعه حكام البعث من سياسة كان الأسوأ, حيث بدءوا يندسون بين الجماعات وبعناوين شتى, حتى يتمكنوا من تطبيق اعتداءاتهم, “كما في ظاهرة ولوج أعداد كبيرة منهم تحت غطاء طلبة الحوزة, من أجل الإساءة لدور الحوزة الحقيقي, خاصة بعد تغيير النظام عام 2003, باتوا يعملون ضد الإسلام والعراق بعدة وجوه, أبرزها تشكيل أحزاب وحوزات بغطاء إسلامي”.

كما أدان شهيد المحراب؛ التصرفات غير المسؤولة من قبل قوات الاحتلال, ومتعددة الجنسيات اتجاه محاولات الاغتيال الفاشلة, التي استهدفت مراجع الدين, “وكان يقصد عملية استهداف براني, المرجع الكبير أية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم؛ أحد ابرز مراجع أربعة في العراق, محملاً تلك القوات المسؤولية, مشيرا إلى أن حماية مراجع الدين, والعتبات المقدسة والحوزات العلمية هي مسؤولية العراقيين أنفسهم, معللاً ذلك بأن الحالة الاجتماعية والأخلاقية, التي لا يقبلها الإسلام, هي أن تكون هذه المقامات المقدسة, محمية من قبل غير المسلمين.

لذا كانت مطالب سماحته, قبل دخوله أرض الوطن وبعد ذلك, عبر وسائل الإعلام كافة, بأن تترك فرصة الحماية لأنصارهم, وعدم نزع لأسلحة القوات العراقية, لتوفر الحماية المرجعية الدينية والأماكن المقدسة, حتى انه حمل قوات الاحتلال عدم استطاعتها حماية المؤسسات الدولية في العراق, وكان يشجع على تكوين قوات خاصة لحماية المدينة المقدسة في النجف الاشرف وكربلاء.

بصدد انعدام الأمن, كان يرجح شهيد المحراب, عدة أمور هي الطرق المثلى لمعالجة ذلك, الأمر الأول: أعطاء السيادة الكاملة للعراقيين في تشكيل حكومة عراقية منتخبة ذات استقلالية تامة, على أن يحدد الدستور العراقي شكل نظام الحكم في العراق, واختيار النظام الأنسب, لعراق متعدد الطوائف والقوميات, هذا الآمر يعد من أهم الأمور التي ركز عليها منذ وطئت قدماه أرض الوطن, وأكد عليها مراراً وتكراراً, “بأن العراق لا يستقر حتى تكون هناك حكومة مستقلة ذات سيادة كاملة, يحكم فيها العراقيون أنفسهم بأنفسهم.

هذا ما تحقق فعلاً, وبدأت مراحل تسليم السلطة تتوالى من مرحلة مجلس الحكم عام 2003, إلى تشكيل الوزارة الانتقالية في تموز 2004, وإجراء أول انتخابات في 15 كانون الثاني 2005, انتخبت فيها أول جمعية وطنية, وشكلت أول حكومة انتقالية, وأنجزت كتابة مسودة الدستور العراقي, الذي صوت عليه العراقيون بنسبة 76% في تشرين الأول 2005, بعدها إجراء انتخابات مجلس النواب في كانون الثاني 2006, الذي جاء بأول حكومة منتخبة وفق الدستور.

إما الأمر الثاني: الاستقلال والسيادة الكاملة, تحقق بعد عقد الاتفاقية انسحاب القوات الأمريكية من العراق في 17/11/2008, هذه المطالب أهم الملامح التي وضعها شهيد المحراب للعراق, خلال الأربعة أشهر فقط داخل الوطن, في خطاباته التي سبقت شهادته من قبل أعداء العراق, الذين أغاظهم تأثيره, الذي يمثل الأمل بطرح الحل الأسلم والطريق الأوحد, لمعالجة الأمور الأمنية والسياسية والاجتماعية كافة في العراق.

أما الموضوع الثاني هو تشكيل الوزارة؛ أي المطالبة أن لا تكون تلك الوزارات غنائم أو مواريث أو حصص, توزع على الأطراف التي يستوزر الوزير منها, أو يمنع مراقبة شؤون تلك الوزارة من الأطراف غير الجهة المستوزر منها, وضحا أن هناك ثلاثة أسس رئيسية وأساسية, دعا أليها في عدة محافل ولقاءات, طالب أبناء الشعب العراقي, بأن يكونوا على درجة عالية من الوعي, والمتابعة والمراقبة لهذا الخصوصية.

الأساس الأول: الذي أكد عليه هو تمتع الوزراء بكفاءة عالية, والقدرة على القيام بكامل المسؤولية الوزارية, وأن لا يسيطر على الوزارة من قبل بعض الأشخاص على أساس المحسوبية أو الفئوية أو الحزبية, وهذا أخطر ما يكون, إما الأساس الثاني: الإخلاص الواجب تمتع فيه الوزراء للعراق أولاً, وللشعب العراقي ثانياً, ومصالح العراق ثالثاً, بل ويتمتعوا بالجدية في إخلاصهم لحل المشاكل الناس.

لان سماحته يرى وحسب قوله؛ “نحن نريد بناء عراق جديد, وفتح صفحة جديدة تغيرية في أوضاع العراق السياسية والأمنية”, مؤكداً؛ لا للمصالح الشخصية والفئوية والحزبية, ولا للتبعية وتنفيذ مصالح الدول الأجنبية, وهذه المسالة من أهم المتبنيات تيار شهيد المحراب دائماً.

في الأساس الثالث: طالب بوجوب, أن تكون التشكيلة الوزارية معبرة عن إرادة العراقيين, بكافة أطيافهم ومذاهبهم وقومياتهم, وانتسابهم الديني والعرقي, هذا هو المطلب الحقيقي لسماحته معللاً, “بأن تكون المشاركة حقيقية لكافة أبناء الشعب العراقي, فإذا كان مجلس الحكم تشوبه ثمة ثغرات لعدم تمثله كافة الطيف العراقي, فعلى الوزارة المقبلة أن تجمع كل الأطياف, وتردم الثغرة التي حدثت في تشكيل مجلس الحكم, بعدم التمثيل الشامل للعراقيين”.

الموضوع الأخر الذي تناوله السيد شهيد المحراب؛ استرداد الحقوق المشروعة للأكثرية العراقية, وإن لا يتهم شيعة أهل البيت “ع” بالطائفية لمجرد حصولهم على أكثر من نصف مقاعد مجلس الحكم, “حصل الشيعة على 13مقعد من أصل 25 عدد مقاعد مجلس الحكم”, إلا أن الحقيقة التي وضحها سماحته “أن الشيعة من ناحية النسبة العددية, هم أكثر من 65 % من سكان العراق, وقد عانوا من الظلم والحرمان, وإنهم لا يحاولون ظلم الآخرين”.

ذلك من خلال دعوته إلى الوحدة الإسلامية, وما زالت هذه الدعوة قائمة, وأيضا الدعوة إلى وحدة العراق حكومة وشعباً وأرضاً, ولا قبول لأي تزعزع في هذه الوحدة, كما سعى لزعزعت ذلك النظام العنصري الطائفي, والأساليب التي استخدمها الطاغية صدام آنذاك.

إن تنازل شيعة أهل البيت “ع” عن حقهم من ثلثي سكان العراق إلى النصف, دليل على اقتدائهم بسيرة الإمام علي “ع”, كما أن شهيد المحراب كان يؤمن بنظام التمثيل لكل طوائف الشعب العراقي, وعندما تكون هناك انتخابات حرة ونزيهة, ففيها يتم بيان النسب الحقيقية لتمثيل كل طائفة, وقتها يعرف الشيعة حجمهم الطبيعي, والآخرين يعرفون إحجامهم أيضا, وفق نتائج الانتخابات, بعيداً عن الظلم والاضطهاد والإقصاء, محذراً أبناء الشعب العراقي, من اغتيال التغيير والقضية من جديد, من قبل أعدائهم الذين يخططون لذلك.

في كلمة أخيرة كانت له, إذ أكد “بأن ليس من الأخلاق والإنسانية أن توضع الحواجز غير المبررة أمام الزوار والسائرين في الطرق العامة, وإن هذا أمر مستهجن, لاسيما في الأماكن المقدسة” مطالباً بأن تفتح المعابر ولا تبقى مسدودة, وأن تكون هناك أماكن مخصصة لوسائل النقل والأسواق, تمكن أبناء الطبقات المستضعفة والفقيرة تحقيق سبل العيش الكريم.

بهذا الحديث أختتم الخطبة متوجهاً بالدعاء لله تعالى؛ أن يحفظ العراقيين ويرعاهم ويتقبل أعمالهم, هذه الكلمات كانت أخر لحظات مسيرة الحياة الجهادية والسياسية للسيد محمد باقر الحكيم؛ التي قضاها بعيداَ عن الوطن والأحبة, ليتم اغتياله في لحظة مأساوية بعيدة عن حالة الإنسانية, فسلام عليك أبا صادق يوم ولدت, ويوم عشت مجاهداً من أجل الدين والوطن, ويوم استشهدت في حرم جدك أمير المؤمنين “ع”, ويوم تبعث حياً مع أجدادك الأطهار “ع”.