اختار الرئيس التونسي قيس سعيد يوم الأحد 25 تموز( يوليو) يوم إعلان الجمهورية، ليعلن حالة الخطر الداهم، وفي خطاب بُث عبر وسائل الإعلام، واتخاذه لعدد من التدابير والتي من أهمها تجميد عمل مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه وإعفاء رئيس الحكومة وتوليه مهام السلطة التنفيذية وتحريك النيابة العامة باتجاه ملفات فساد تطال عدد من أعضاء مجلس النواب، وقد تركت هذه الإجراءات، ردود أفعال متضاربة، فهناك من خرج إلى الشوارع ابتهاجا بها وهناك من اعتبرها انقلابا على الدستور وحث أنصاره للخروج بالضد منها، وهناك أيضا بعض المواقف التي تدعو إلى الحفاظ على مكاسب الجمهورية وتحذر من عدم التمديد في تعطيل مؤسسات الدولة وتجميع كل السلطات بيد رئيس الجمهورية إلى أجل غير محدود، وأن تصحيح المسار لا يكون بالانقلابات و الحكم الفردي المطلق.
لقد شكلت الثورة التونسية باكورة الربيع العربي الذي أضعفت النظم الشمولية و أزاحت النظم التسلطية من قمة الهرم السياسي وأتاحت حرية العمل السياسي لعدد من الأحزاب التي كان محرما عليها العمل العلني، وإجراء انتخابات دورية وفي ظل أجواء من الديمقراطية وإمكانية التداول السلمي للسلطة، لم تعهدها شعوب المنطقة لما يقارب أكثر من نصف قرن، بعد حقبة طويلة من نظام الحزب الواحد مع وجود إطار شكلي من التعددية السياسية والحزبية.
وقد اتفق معظم المعنيين في التحول الديمقراطي أن التجربة التونسية هي الأكثر وضوحا ونضجا عن بقية التجارب العربية، بفعل المكانة الكبيرة التي تحتلها الطبقة الوسطى في المجتمع، والقدرات التنظيمية للمنظمات غير الحكومية، ففي ظلها أُنتخبت جمعية تأسيسية صاغت دستور تونس لسنة 2014 وانتخاب ثلاث رؤساء للجمهورية وكذلك ثلاث دورات انتخابية للبرلمان، وهذه الممارسات الديمقراطية لا يمكن تصور تحقيقها لولا قيام ثورة الياسمين.
مدخل في القانون الدستوري
لقد تأثر التونسيين، بالمادة 16 من الدستور الفرنسي لسنة 1958 والتي تمنح لرئيس الدولة سلطات استثنائية أو ما يسمى حالة الظروف الاستثنائية،( إذا كانت مؤسسات الجمهورية أو استقلال الوطن أو وحدة أراضيه أو تنفيذ التزاماته الدولية معرضة لخطر جسيم وحال وتوقفت السلطات الدستورية عن سيرها المنتظم…). ومن الجدير بالذكر أن أغلب النظم التسلطية في دول العالم الثالث، قد اقتبست هذه المادة في دساتيرها لإدامة هيمنة رئيس الدولة الذي في العادة ليس له سقف محدد لعدد دورات بقائه، على بقية السلطات العامة في ظل مجتمعات هي في الأصل تحبو نحو الديمقراطية، مما حول تلك الدول فيما بعد إلى جمهوريات وراثية، مع العلم أن الأخذ بحالة الظروف الاستثنائية، تُعتبر خارج سياق النظام البرلماني التقليدي، وقد جاء بها الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول وتضمينها للدستور الفرنسي لسنة 1958 النافذ، على اثر الأزمة السياسية التي عصفت فرنسا في عام 1958 أو ما يسمى بانقلاب الثالث عشر من مايو والتي على أثرها أوكلت له مهام رئاسة الوزراء بضغط من ضباط الجيش ليهيمن فيما بعد على السلطات العامة والتي كانت في وقتها محل نظر فقهي بين رجال القانون الدستوري.
ومن الجدير بالذكر أنه تم اقتباس المادة 16 الأنفة الذكر للمادة 148 للدستور المصري لسنة 1971، وقد أُعيد صياغة هذه المادة بعد قيام ثورة يناير المصرية ووضع بعض الضوابط والاشتراطات عند الأخذ بها حسب ما جاء في المادة 154 من الدستور المصري لسنة 2014.
الفصل 80 من الدستور التونسي
وعلى نفس الأسس تم اعتماد الفصل (المادة) 80 من الدستور التونسي لسنة 2014 والتي تتيح لرئيس الجمهورية إعلان حالة الظرف الاستثنائي، مع وضع عدد من الضوابط والاشتراطات عند العمل بموجبها وقد نصت على : ( لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلنُ عن التدابير في بيان إلى الشعب.
ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
وبعد مرور ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتٌ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه، وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما، وينهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها، ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب).
ومن هذا النص الطويل نسبيا، وضع المشرع الدستوري عدد من الضوابط والاشتراطات عند إعلان حالة الظروف الاستثنائية والتي يمكن تحديدها وفق الآتي:
1- تعرض الدولة إلى حالة خطر داهم مهدد لكيانها وأمنها واستقلالها.
2- أن يكون هناك توقف السير المنتظم لمؤسسات الدولة الدستورية.
3- المشاورة مع رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، والمشاورة هنا، من قبل رئيس الجمهورية لا تعني وجوب الأخذ بموقف رئيسي الحكومة أو مجلس النواب أو كليهما، لكن المهم أن يعرض لهما الظرف الاستثنائي للدولة والتدابير التي سيلجأ إليها.
4- إعلام رئيس المحكمة الدستورية.
5- بقاء مجلس النواب في حالة انعقاد، وتعني هذه العبارة أن يمارس مجلس النواب مهامه المنصوص عليها في الدستور، مع مراعاة حالة الظرف الاستثنائي للدولة والتعاون في تنفيذ التدابير المعلنة، مع تأكيد النص الدستوري على عدم صلاحية رئيس الجمهورية بحل مجلس النواب.
6- بقاء الحكومة، ولا يجوز تقديم طلب سحب الثقة عنها. أي لا يجوز:
– تقديم طلب بإقالة الحكومة.
– إقالة الحكومة.
– تشكيل حكومة بدلها.
– الإحلال بدلها من إي طرف كان بما في ذلك رئيس الجمهورية.
7- إن التدابير التي يتخذها رئيس الجمهورية، تهدف للعودة السريعة، لانتظام عمل مرافق الدولة ومؤسساتها.
8- إن السقف الزمني لاستمرار التدابير التي أعلن عنها رئيس الجمهورية يستمر حتى زوال الأسباب التي أدت إلى إعلان حالة الظرف الاستثنائي( الطوارئ).
9- للمحكمة الدستورية البت في استمرار حالة الظرف الاستثنائي من عدمها، بعد طلب رئيس مجلس النواب أو ثلاثين عضوا من أعضائه. عند انتهاء الفترة الزمنية لحالة التدابير الاستثنائية والتي هي ثلاثين يوما.
10- إن الفترة الزمنية لإعلان حكم المحكمة الدستورية، أن لا يتجاوز خمسة عشر يوما من تاريخ تقديم الطلب. وان التصريح بشكل علني.
تفسير التدابير المتخذة على ضوء النص الدستوري
ومن هذا يتضح أن الدستور يفترض أن يكون هناك تعاون بين السلطات العامة لتجاوز حالة الظرف الاستثنائي الذي تمر به البلاد، مع بقاء السلطات كافة، أي ليس من صلاحية رئيس الجمهورية تجميد عمل مجلس النواب أو تعليق أعماله والتعرض للحكومة، وأتاح الدستور لرئيس مجلس النواب الحق بتقديم طلب للمحكمة الدستورية بعدم استمرار حالة الظرف الاستثنائي إذا لم يكن على اتفاق مع رئيس الجمهورية بشأن التدابير المتخذة عند إعلان حالة الظرف الاستثنائي، بعد مرور ثلاثين يوما، وفي أي وقت بعد مرور تلك الفترة، وهذا يسري أيضا على ثلاثين عضوا من أعضاء مجلس النواب.
إن من خلال الإجراءات المتخذة من قبل رئيس الجمهورية وطريقة نقل الخطاب بحضور القادة العسكريين والأمنيين فقط، دون ظهور لرئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة المفترض هما المعنيين بالتشاور وفق الدستور حول الخطر الداهم، مع العلم أن رئيس الحكومة من اختيار رئيس الجمهورية، أن كل ذلك يعكس قراءة غير دقيقة لرئيس الجمهورية لنص الفصل 80 من الدستور، ويختلف حولها العديد من المهتمين والباحثين في القانون الدستوري.
الدستور لا يسمح له بالتعرض لمجلس النواب أو تعليق أعماله ونص بشكل صريح على بقاء مجلس النواب واعتباره في حالة انعقاد وهذه الجملة لا تتطابق مع إجراء الرئيس بتجميد نشاطه ورفع الحصانة عن أعضائه، وفوق ذلك أتاح الدستور لرئيس مجلس النواب بعد مرور ثلاثين يوما من إعلان حالة الظرف الاستثنائي لمزاولة اختصاصه بتقديم طلب للمحكمة الدستورية بمدى دستورية استمرار تلك التدابير وكذلك أتاح الدستور أيضا لأعضاء مجلس النواب لمزاولة مهامهم بتقديم ثلاثين منهم لنفس الطلب إلى المحكمة الدستورية.
أما بالنسبة للحكومة، بالإجراء المتخذ بالإقالة ليس دستوريا، ومزاولة رئيس الجمهورية لمهام رئيس الحكومة يتعارض مع النص الدستوري الذي نص على(… لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة) عند حالة الظرف الاستثنائي.
إن الاستقواء برجال الجيش والأجهزة الأمنية لحل خلاف ما بين رؤساء الهيئات السياسية، على حساب المؤسسات الدستورية المنتخبة، هو نذير شؤم لمسار التجربة الديمقراطية التونسية، فالعودة لطاولة الحوار وحسم النزاع الدائر عبر المحكمة الدستورية هو الأساس الصحيح لعودة الحياة الطبيعية.
النظام الديمقراطي إن كان نظام برلماني أو رئاسي بحاجة إلى تأييد المواطنين، و سيحظى بالدعم من خلال النجاحات الاقتصادية، فالشعب يتمسك بالنظام الذي يزيد من ثروته وبالتالي من المستوى المعاشي للإفراد، فارتفاع مستوى الدخل الوطني يُمكن السلطة السياسية من تحسين أوضاع الطبقات الاجتماعية، مما يكسبها رضا المواطنين ونجاح النظام القائم، والعكس أيضا صحيح، فكلما زاد تدهور الحياة المعيشية لإفراد الشعب كلما زادت حالات الرفض للنظام القائم والانقلاب عليه.
الاستنتاجات
إن الظروف الصعبة التي تمر بها تونس في الوقت الحاضر من الصراع الدائر بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وتفاقم الاختلافات بين الإطراف السياسية والتي قسم منها لم يعتاد العمل العلني داخل البرلمان والحكومة وعدم إمكانية الوصول للحلول الوسط فيما بينها، ومحاولة البعض منها فرض أجندته على عموم الشعب وكذلك مقاومة قوى النظام البائد والدولة العميقة للوضع الجديد، قد صعب من عملية التحول الديمقراطي بالشكل المطلوب، وتزامن ذلك مع الوضع الاقتصادي الذي له الدور الكبير في نجاح أي نظام ديمقراطي، حيث تعاني تونس كبقية دول العالم من جراء جائحة كورونا ولا سيما أنها تعتمد بشكل كبير على السياحة في تعظيم مواردها المالية التي ضعفت بسبب حالة الإغلاق العامة، والأعمال الإرهابية، إضافة إلى الفساد المستشري وارتفاع مستوى البطالة وغيرها من الصعوبات والتحديات.
إن كل ذلك لا يبرر الخرق الواضح للدستور من قبل رئيس الجمهورية أو تجميد نشاط عمل المؤسسات الدستورية المنتخبة من قبل الشعب بحجة محاربة الفساد والإرهاب ومحاكمة سراق الشعب وصون الممتلكات العامة، لأنه ومن خلال الخبرة المتراكمة أن كل المكاسب الاجتماعية التي تتحقق في ظرف ما، قد تتبدد وسوف يتم الإجهاز عليها، إذا فقد الشعب وقواه السياسية الحرية والقدرة في التعريف بحقوقها والدفاع عن مصالحها وانتخاب ممثليها الحقيقيين إلى المؤسسات الدستورية دون تردد أو خوف.
فلا ديمقراطية اجتماعية دون ديمقراطية سياسية.
*نائب رئيس مركز بغداد للتنمية القانونية والاقتصادية