“كل سلطة تخاف صوت الحقيقة، تحاول خنقه لا إصلاح خطيئتها“
— من حكايات شعب لم يمت رغم أنينه
مرة أخرى .. وفي الركن المظلم من مشهد السياسة العراقية، يقف مشروع “قانون حرية التعبير” لا بوصفه مكسبًا ديمقراطيًا، بل كقيد محكم يُصاغ على عجل في دهاليز السلطة لتكميم الأفواه، وتصفية ما تبقى من الأمل في حرية الكلمة. قانون يُراد له أن يكون شاهد زور، ناطقًا باسم الحرية بينما يُغتال جوهرها، ويتحول إلى خنجر مغموس بالحبر الأسود يُغرس في حنجرة كل من تجرأ على قول الحقيقة.
ما نراه اليوم ليس مجرد “مشروع قانون”، بل فضيحة لغوية وأخلاقية وسياسية، تُراد لها أن تمر تحت قبة البرلمان بصيغة مخادعة، كأنها تدافع عن الاستقرار، بينما جوهرها يشرعن الاستبداد تحت غطاء “التنظيم القانوني”. إنها محاولة فجّة لتجريم الاحتجاج، وتحويل التظاهر إلى تهمة، وتحويل الصحفي إلى مشروع سجين، وتحويل المواطن إلى متهم حتى تثبت براءته من الرأي.
* * *
منذ مطلع القرن العشرين، كتب العراقيون دستورًا بعد آخر، كأي خديعة قديمة ، وكل دستور يتغنّى بحرية التعبير في بنوده، وعلى الأرض يسقط القناع، ثم يسحقها في واقعه التنفيذي. والسلطة العراقية، بكل صيغها المتعاقبة، ولكي تُسمّى الرقابة حرية، أبدعت في تحويل النصوص الدستورية إلى ديكورات شكلية لا تُطبّق إلا على الورق. واليوم، يتجدد المشهد بشكل أكثر وقاحة، إذ يُراد لحرية التعبير أن تُقنَّن بشروط السلطة، لا بشروط العدالة.
حين ينص القانون الجديد على أن التظاهر يحتاج إلى إذن من المحافظ، أو أن النشر يجب ألا “يُسيء” إلى الدولة ومؤسساتها، فإننا لا نتحدث عن حرية بل عن وصاية بوليسية. إن كل كلمة في مشروع هذا القانون تم انتقاؤها بعناية لكي تُخيف لا تُطمئن، ولكي تُعاقب لا تُعالج. لقد صيغ القانون لا لحماية المواطن، بل لحماية السياسي من المواطن.
* * *
حين يقول البرلمان العراقي إنّ هذا القانون يهدف إلى تنظيم حرية التعبير، فإننا أمام واحدة من أخطر العبارات المسمومة. فالتنظيم الذي يُستخدم لتكميم الفم لا يختلف كثيرًا عن التعذيب الذي يُمارَس بحجة “الإصلاح”، أو عن السجن الذي يُبنى باسم “إعادة التأهيل“.
إن الطريق من حرية الإنسان إلى حراسة السلطة .. يعبد بقانون.. لا أكثر! السلطة التي تُعجزها مواجهة النقد، لا تحاول تحسين أدائها، بل تحاول كسر المرايا. ولهذا يسعى هذا القانون إلى مراقبة ما يُقال في الشارع، وما يُكتَب في الصحف، وما يُنشر في مواقع التواصل، بل وما يُفكَّر به داخل رؤوس الناس. باختصار، إنه مشروع رقابة شاملة يليق بأعتى الأنظمة الشمولية، لا بدولة من المفترض أنها خرجت من حكم الطغيان قبل عقدين.
من يراجع تاريخ الدساتير العراقية، سيجد أن حرية التعبير كانت دومًا مُقدّمة في الديباجة، ومرفوضة في الواقع. من دستور 1925 حتى مشروع بريمر، تتكرر الصيغة نفسها: “لك حرية التعبير، لكن…”. ويأتي هذا “اللكن” دائمًا ليفرغ النص من مضمونه. في كل مرة، كانت السلطات تُلوّح بشعارات الحرية، ثم تُفرغها بتفسيرات تتسق مع مصالحها الضيقة. تاريخ متكرر من الدكتاتور إلى الظلّ الناعم للاستبداد!
إن هذا القانون، في جوهره، ليس إلا استمرارًا لتراث الاستبداد، مغلفًا بلغة دستورية ناعمة. وهو يعكس فكرًا سياسيًا لا يرى في المواطن شريكًا، بل خصمًا، لا يرى في النقد علاجًا، بل خيانة، ولا يرى في الصحافة رقيبًا موضوعيًا، بل عدوًا داخليًا.
* * *
إن ما بين الشعوب والسلطات في مجتمعات تحترم العقل، تُبنى القوانين لحماية الحرية لا لتقنين الخوف. أما في العراق، فالسلطة تصوغ القوانين كما تُصاغ أسلحة الصوت الكاتم: لا تُصدر ضجيجًا لكنها تقتل. ولهذا فإن تمرير قانون كهذا سيكون جريمة لا ضد الصحافة فقط، بل ضد الحق الإنساني الأساسي في التعبير والاحتجاج والتفكير.
إننا لا نحتاج إلى قانون يُقنّن حرية التعبير، بل نحتاج إلى ضمير يُحرّرها. نحتاج إلى دولة تستمد هيبتها من عدالة قوانينها، لا من قمع شعبها. وإن تم تمرير هذا القانون، فإن البرلمان العراقي سيكون قد وقّع شهادة وفاته الأخلاقية بنفسه. وإن توقيعه بات حتمياً .. حينئذ .. بات حتمياً التساؤل : من ينقذ العراق من خطاب الخوف؟
* * *
إذا مرّ هذا القانون، فسيكون ذلك دليلًا لا على قوة الدولة، بل على هشاشتها. لا على نضج النظام، بل على خوائه. إنه اعتراف ضمني بأن الساسة في العراق لا يملكون سوى السلاح، وأنهم فقدوا كل أدوات الإقناع. إنه إعلان أن الدولة ترى في العقل خصمًا، وفي النقد تهديدًا، وفي الحرية خطرًا.
وستُكتب هذه اللحظة في التاريخ لا كمادة قانونية، بل كوصمة عار في جبين من صوّت لها. وستُذكر مع لحظات أخرى في تاريخ الأنظمة التي خانت شعوبها، ووضعت على أفواههم أقفالًا صدئة، لتستيقظ بعد أعوام على حقيقة أن الشعوب لا تموت، بل تنفجر. فإلى البرلمانيين: إما أن تكونوا ممثلي الشعب… أو وكلاء لخنقه!
هذه ليست لحظة خطاب أكاديمي، بل لحظة نداء شعبي. إذا مرّ هذا القانون، فإن كل كاتب، وكل صحفي، وكل مغرّد، وكل شاعر، وكل أمّ شهيد، سيكون مشروع مُدان. وسيُكتب في الصحف الرسمية أن الصمت “واجب وطني”، وأن الخنوع “مسؤولية قانونية”، وأن العبودية “شكل من أشكال التوازن السياسي“.
لا تصمتوا.. لا تسمحوا لهم أن يُعيدوا كتابة الذاكرة بمداد الخوف. لا تسمحوا بأن يُختزل العراق في نشرات أخبارهم. قاوموا هذا القانون لا بالكلمات فقط، بل بالضوء، بالموقف، بالقصيدة، بالمقال، بالاحتجاج، بالصمود.
إن قانون “حرية التعبير” الجديد ليس إلّا نسخة حديثة من عار قديم، يُكتَب بلغة الحذر ويُمرّر بلغة الخداع. لكنه، كغيره، سينهار تحت وطأة الكلمة الصادقة، وصوت الحق، ومُعادلة التاريخ التي لا ترحم:
كل سلطة تخشى صوت الناس… ستُهزَم به.
// هلسنكي 4.8.2025