22 ديسمبر، 2024 7:22 م

قال أسلمت لرب العالمين

قال أسلمت لرب العالمين

الثبات على الاستقامة لا يتحقق إلا بنبذ الفروقات الدخيلة واللجوء إلى الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، وهذا النهج لا يؤتي أكله إلا إذا علم الإنسان أن الاختلاف الكامن في النفس البشرية يجب أن يتم اجتيازه والإبقاء على العلل التي تتطابق مع اتخاذ المقررات العلمية التي تشكل الغاية من الخلق، وأنت خبير بأن تلك العلل لا تنقص من الأعمال الصالحة التي تتعلق مقتضياتها بالكلم الطيب إذا كانت الأولى بمنزلة الحاكم الذي يميز بين الخير والشر والحسن والقبح والنفع والضر وما إلى ذلك، وفي حال اكتمال هذا المعنى يكون الجامع البشري قد استقام على الطريقة الموصلة إلى الحقيقة ومبتعداً عن الشقاق وما يتعلق بفروضه الوهمية. فإن قيل: هل يمكن تطبيق هذه الدعوة وما السبيل إلى ذلك؟ أقول: من الصعب إيجاد ما يصلح للاعتماد في هذا الشأن إلا عند حيازة جميع متطلبات الكمال الذي ناشد به الأنبياء من خلال الدعوة إلى التوحيد بشكلها المطلق، وكما ترى فإن هذا لا يستقر إلا بالإسلام والسلام والاستسلام وهذه الألفاظ تقع جميعها تحت عنوان واحد لا ينفصل عن القيم المثالية التي جاء بها أولئك الأخيار.

ومما تقدم نستنتج أن الكلمة السواء التي نادى بها الرسل لا يفهم منها إلا الاجتماع على أصل التوحيد الذي تتفرع عنه عبادة الله تعالى وعدم الشرك به، وهذا التكليف يلازم جميع الناس بغض النظر عن المسميات التي أطلقوها على الشرائع الفرعية التي دأب عليها بعض منهم، ومن هنا أمر تعالى نبيه أن يبين النقاط المشتركة بين الموحدين وأهل الكتاب، كما في قوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) آل عمران 64. وقد يرد هذا المعنى إلى الكبرى التي خاطب تعالى من خلالها رسله بقوله: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم… وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) المؤمنون 51- 52. واعلم أن الدعوة لهذا الاتحاد تلازم الدين الذي شرعه تعالى في قوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) الشورى 13.

وتأسيساً على ما سبق نستطيع القول إن الدين الذي دعا إليه الأنبياء هو دين الإسلام، وهذا هو الهدف المشترك بين جميع الناس قياساً إلى ارتباطهم بإله واحد لا شريك له، كما ينص على ذلك قوله جل شأنه: (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) آل عمران 19. وفي هذا المفهوم ما يدل على أن عدم الامتثال لأمر واحد من الأنبياء من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء (ص) هو بمنزلة رفضهم جميعاً، ولذلك بين تعالى أن من كذب واحداً منهم فقد كذبهم جميعاً، وأشار إلى هذا المعنى بقوله: (كذبت قوم نوح المرسلين) الشعراء 105. مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً، وهذا يجري في عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وغيرهم.

من هنا يظهر أن دين الله تعالى هو الإسلام الذي أرسل به الأنبياء وأنزلت بموجبه الكتب، والذي يفهم من الاصطلاح حين الوضع أنه التسليم المطلق، أما شرعاً فقد يعني الامتثال لأمر الله تعالى وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم اختلف أهل الكتاب في أصل التسمية؟ أقول: اختلافهم لم ينتج عن جهل بأحكام الدين، وإنما يرجع سبب ذلك إلى بغيهم وظلمهم مع وضوح البينات، وهذا ما ذكره تعالى بقوله: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) البقرة 213. وقريب منه قوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) الشورى 14. وكذا الآية 17. من سورة الجاثية بفارق يسير في اللفظ، ومنه ما ورد في الآية 19. من سورة آل عمران وقد مرت عليك من خلال البحث.

وبالإضافة إلى ذلك يجب أن لا نغفل ثناء الله تعالى على طائفة من أهل الكتاب الذين لم يتفرقوا عن الحق المبين، كما هو ظاهر في قوله سبحانه: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف 159. وكذا قوله: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك) آل عمران 75. وقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون… يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين… وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) آل عمران 113- 115. وكذلك قوله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) السجدة 24. وبهذا نفهم أن الإسلام هو دين الله تعالى الذي دعا إليه جميع الناس، وبين تفاصيله وأحكامه بواسطة الطرق المختلفة التي يوحي بها إلى الأنبياء الذين هم على رأس تلك الدعوة، وسيتضح معنى الإسلام الذي سارع إليه إبراهيم (عليه السلام) حال سماعه نداء ربه، وذلك في المساحة المخصصة لتفسير آية البحث.

تفسير آية البحث:

قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) البقرة 131. (إذ) ظرفاً للاصطفاء فكأن الله تعالى لما ذكر الاصطفاء بين سببه في آية البحث، ويصح أن تكون مسبوقة بفعل مقدر أي اذكر قولنا لإبراهيم أسلم… إلخ. فإن قيل: هل كان إبراهيم غير مسلم في وقت من الأوقات ليقال له أسلم؟ أقول: المراد من الخطاب هو الاستقامة والثبات على الإسلام، ولا فرق في ذلك بين النبي وغيره إذا كان المخاطب هو الله تعالى، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) القتال 19. أي اثبت على علمك أنه لا إله إلا الله، كما خاطب تعالى المؤمنين ودعاهم إلى الثبات على إيمانهم، وذلك في قوله: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) النساء 136.

ومما تقدم نستشف أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً ولم يكن يهودياً أو نصرانياً، وقد يعضد هذا المعنى بقوله تعالى حكاية عنه: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) الأنعام 79. ومن هنا صدقه تعالى بقوله: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين) النحل 120. وهذا يدل على أن الإسلام الذي كان عليه إبراهيم لا يخرج عن معنى الانقياد التام والتسليم المطلق دون الإسلام المعهود، ومن مصاديق ذلك التسليم هو تصديق الرؤيا التي ذكرها تعالى بقوله: (فبشرناه بغلام حليم… فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين… فلما أسلما وتله للجبين… وناديناه أن يا إبراهيم… قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين) الصافات 101- 105. أما معنى رب العالمين الذي ذكر في قوله: (أسلمت لرب العالمين) من آية البحث. فقد تعرضنا لتفسيره بإطناب في سورة فاتحة الكتاب، ومن أراد ذلك فليراجع.

من كتابي: السلطان في تفسير القرآن