18 ديسمبر، 2024 9:18 م

قالها الرصافي  

قالها الرصافي  

 

   الرحمة كما يقول أهلونا (للميت والعدل) ودعواي اليوم ان تنزل الرحمة مرتين على روح شاعرنا معروف عبد الغني الرصافي، مرة لأنه ميت ومرة لأنه (عدل). اما كونه ميتا فهو أمر واقع حدث يوم الجمعة 16/ 3/ 1945 بداره في محلة السفينة في الأعظمية، وصعدت روحه الى بارئها، ودفن في مقبرة الخيزران، وانقضت حياته الزاخرة بالمجابهات والاحتدامات مع الساسة والحكام إبان حكومات العهد الملكي.

  أما كونه (عدل) فما قصدته هو إحدى قصائده التي نظمها بحق حكومة المملكة العراقية آنذاك، وأظن أن هذه القصيدة تبقى حية وتصلح أن تُعلق على جدران مجالس عراق القرن الواحد وعشرين الثلاث، ولاسيما مجلسي النواب والوزراء، أسوة بالمعلقات السبع التي كانت تعلق على جدران الكعبة قبل خمسة عشر قرنا.

   مادعاني الى الإعجاب بالقصيدة -إضافة الى جزالة الألفاظ وسبك المعاني والتوظيف الحسن في الجناس والطباق- هو كونها قصيدة أبدية الزمان، بإمكان أي عراقي الاستشهاد بأبياتها في كل الأوقات ومع كل الحكومات، سواء أمنتخبة كانت أم مفروضة! أم متوارثةَ! أم (غضب من رب العالمين)!. سأقتطف في مقالي هذا بعضا من أبياتها الثلاثة وأربعين، وأضعك سيدي قارئ سطوري موضع الحكم في مطابقتها لواقع ما يعيشه العراقيون اليوم، ومقارنتها بما يحصل.. يقول الرصافي:

      أنا بالحكومة والسياسة أعرف              أأُلام في تفنيـدهـا وأعنَّـف؟

      هذي حكومتنا وكل شُموخها              كَذِب وكل صنيعهـا متكلَّف

  أرجو أن لايؤاخذني القارئ إن كانت سياسة إحدى الحكومات المتعاقبة على حكم بلده قد أعجبته وراقت له، فالرصافي المسكين لم يكن يعلم من سيخلف الحكومات التي جايلها، وحتما انه نظمها في أعضاء حكومة عهده حينها حصرا، إلا أن سوء حظ العراقيين ان تكون كراسي الحكم والمناصب العليا في بلدهم حكرا على سلوكيات وسياسات واحدة، بصرف النظر عن الشخوص التي تتبوأها. أعود لمعروفنا.. فهو يكمل ويقول:

غُشَّت مظاهرها ومُوِّه وجههـا               فجميـع ما فيهـا بهـارج زُيَّف

وجهـان فيهـا باطـن متستـِّر                  للأجنبـيّ وظـاهـر متكشـِّف

والباطـن المستور فيه تحكّــم                والظاهر المكشوف فيه تصلُّف

عَلـَم ودسـتور ومجلـس أمـة                 كل عن المعنى الصحيح محرف

أسماء ليس لنا سوى ألفاظها                أمـا معانيهـا فليسـت تعـرف

  هنا أنوه عن وجه التقارب الشديد بين ماقاله الشاعر قبل مايقرب التسعين عاما، وبين ما معروض في الساحة السياسية وما يحدث اليوم في أروقة الحكومة والبرلمان العراقيين، والحُكم كما أسلفت للقارئ، ولعلي لاأثقل عليه بأبيات آخرى من قصيدة الرصافي ذاتها ومنها:

     من يأتِ مجلســنا يصدّق أنه              لمُـراد غيـر الناخبـين مؤلّـَف

     أفهكذا تبقى الحكومـة عندنا               كَلِمـاً تُمـوَّه للورى وتُزخرَف

     كثرت دوائرهـا وقـلّ فَعالهـا              كالطبل يكبُر وهو خال أجوف

     كم ساءنا منها ومن وزرائها             عمل بمنفعة المواطن مُجحِف

     تشكـو البلاد سياسـة ماليـة                تجتـاح أمـوال البـلاد وتُتلف

     لا بـدّ من يوم يطول عليكم              فيه الحساب كما يطول المَوْقف

  هذا غيض من فيض قصيدة الرصافي بحق حكومة لم تكن تعمل لصالح المواطن، فما عساي اليوم أن أقول عن حكومة ليس لمخاضها بشائر ولادة مايفرح المواطن، ولا لطلوقها نيات صادقة نزيهة تلوح في الردهات او صالات العمليات، والخوف -كل الخوف- من ولادة قيصرية، معسرة، من رحم مشوهة تأتي بمشوه لاتحمد عقباه.

[email protected]