عندما إنطلق الإمام الحسين ( عليه واله السلام ) من المدينة المنورة عام 61 هجرية، قاصدا كربلاء؛ معلنا ثورة الإصلاح والدفاع عن الإسلام المحمدي الأصيل، صادحا بمقولته الخالدة على مر التاريخ : “فلا إعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد”.
تعلقت أرواح طاهرة مع هذا الركب الصغير بعدده، الكبير في أهدافه التي دونها التاريخ بأحرف من نور، فحسن التوفيق لا يأتي إلا للقلوب الطاهرة، وصدق العشق لا يظهر إلا في الظروف القاهرة، كالنار التي تظهر معدن الذهب الحقيقي، فظهر الأنصار الحقيقيون الذين تعلقوا بمحامل إبل ركب الحسين، ودونوا أسمائهم في صفحات التاريخ، ليس في سجل الأبطال فحسب، بل في سجل العشاق الذين هاموا في معشوقهم، فوهبوا أرواحهم فداء له.
فهذا وهب النصراني قد شغفه حبه للإمام الحسين، عن زواجه الذي لما يمضي عليه شهر، وهو الوحيد لوالدته الكبيرة التي شجعته على الإلتحاق بقافلة الأنصار، والدفاع عن الإمام الحسين حتى بعد أن تقطعت يداه، وهو يسأل والدته: أرضيتي؟ فتجيبه : لا أرضى حتى أراك شهيدا، وحبيب بن مظاهر الأسدي الذي بلغ من العمر 75 عاما، جاء يؤكد أن العشق ليس محصورا بعمر محدد، وإن الشيوخ يمتلكون من الحب ما يفوق الشباب، لذلك كان فرحا مسرورا مبتسما، وهو يواجه الموت الذي أختاره نهاية لرحلة العشق.
وذاك عابس الشاكري الذي كان معروفا بالبصيرة والإيمان، ومن دعاة الحركة الحسينية في الكوفة، قد شغله الهيام عن الخوف من حشود الجيوش التي تقف قباله، وعرى جسده للحجارة التي صارت تتساقط عليه كالمطر، وظل يصرع القوم بيديه العاريتين حتى أستشهد، كذلك هو جون بن حوي مولى أبي ذر الغفاري، حيث طلب منه الإمام الحسين ترك القافلة فأبى، وظل يقاتل عن الحسين وأهل بيته حتى نال الشهادة، وظلت رائحة المسك تفوح من جسده.
من هؤلاء العشاق وسبعين آخرين كانوا مع الحسين، تعلم العراقيون العشق الحقيقي، فكان في كل جيل يتكرر حبيب بن مظاهر وعابس الشاكري، ووهب بن عبدالله النصراني، والعباس ذو العشرين ربيعا وأخوته الثلاثة، وعلي الأكبر ذلك الفتى اليافع، وكذلك النسوة اللائي كن حاضرات، فأم عمرو بن جناده أستشهد زوجها في المعركة، فدفعت بإبنها الوحيد للقتال حتى أستشهد هو الآخر ، وكذلك دلهم بنت عمرو والرباب بنت إمرؤ القيس، ، كلهم عشقوا الحسين رمزا وعنوانا، فوهبوا أرواحهم من أجله.
في كل سنة ينطلق العشاق نحنو قبلة العاشقين ومنارة الملهوفين في كربلاء، لايعرفون حرا أو بردا، لأي ثنيهم تعب أو خوف، إمتلأت قلوبهم بالمحبة والطيبة، يسرون كالسيل الهادر من بقاع الأرض، فأصبحوا يجرون كالنهر الثالث الذي يروي أرض العراق، ينبع من كل مدينة وقرية، يصب هناك في مدينة كربلاء عند قبر الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس، حيث تلتقي القلوب الوالهة بمعشوقها، تستحضر تلك الصرخة التي إنطلقت بوجه الظالمين حين علت بنداء “هيهات منا الذلة” .
لقد هجر العراقيون بيوتهم وغادروا مدنهم، تاركين التفكير في ملذات الدنيا وحطامها، فكان حبيب حاضرا يتكأ على عكازته يسير بخطوات صغيرة بطيئة، يعينه شباب يافع يسلي وحدته في الطريق، ويستلهم منه دروس في التضحية والفداء توارثوها من تاريخهم الناصع، تسير معهم تلك النسوة المخدرات اللاتي جعلن من زينب بنت علي قدوة في العفة والأخلاق والحجاب، الكل يسير نحو هدف واحد، تلك هي قبلة العشق التي يرتوي منها العشاق معنى الحب السامية.