22 ديسمبر، 2024 9:58 م

قافة الإحتكام و جدلية التغييب العمدي للنص القانوني

قافة الإحتكام و جدلية التغييب العمدي للنص القانوني

هل يجوز للقضاة الركون إلى نص قرار قضائي سابق لأجل إصدار قرار قضائي ؟, الجواب البسيط هو نعم , والجواب المركب -إعتمادا على الخصوصية والتفصيل -هو لا .
يسمو القانون في المجتمع المتخم بثقافة الإحتكام والتقاضي , ثقافة الإحتكام مبناة على أسس حب العدالة والحق والثقة بالنفس ولا يُتصور وجود هكذا ثقافة في المجتمعات البدائية الممتلئة حد اذقانها بقيم الاعتداد بالنفس والقوة وهي قيم نابعة في الأساس من الفكر البدائي للإنسان القديم الذي كان يفضل الذود عن حقه بواسطة عصا خشبية ربط برأسها صخرة حادة حيث كان يستعملها في الهجوم والدفاع في وجه إنسان بدائي آخر مثله بينما كانت النسوة يراقبن من باب كهف ما نتيجة الصراع والمعركة بين الرجلين ويشاهدن بسهولة خصى كل واحد منهما سواءا اكان غالبا او مغلوبا .
وحتما ما كانت نتيجة المنازلة البدائية تلك تفصل العداوة نهائيا وتحسمها لأن القاتل يضل مطلوبا وإن لم تزهق روحه اليوم فغدا وعلى يد مقرب من الضحية في الجريمة الأولى تلك ليتحول بدوره من ضحية إلى قاتل بعد الجريمة الثانية أو الجريمة الثأر , من هنا أهتدت الإنسانية وطورت مع الزمن نظرتها إلى مسألة كيفية تحقيق العدل لتصل في يومنا هذا إلى قوانين راقية متطورة تتكفل حفظ أمان الإنسان المثقف المتسلح بثقافة الإحتكام التي تتوقر ذاتيا في الأنفس بوجود العدل الموثوق فيه, وكما إن هذه الثقافة مطلوبة لدى بسطاء الناس في المجتمع فإنها مطلوبة كواجب قانوني أولا وأخلاقي ثانيا لدى المشرع ولدى القاض أيضا , فهذه الثقافة تتطلب القناعة الجماعية الكلية في المجتمع بضرورة وجود القانون والخضوع له وحسن تطبيقه وإلا فإن غياب هذه الثقافة والقناعة كفيلة بإعادة الإنسان إلى العصور الأولى حيث إنسان الكهف والهمجية النابعة من الجهل المطبق .
إن القانون لا يجيز للقاضي أن يمتنع عن إصدار قرار في دعوى منظورة أمامه بحجة عدم توافر نص قانوني يمكن الإستناد والركون إليه لهذا أصبح العرف وأحكام القضاء نفسه مصادر أخرى للإستنارة والإستناد عند الوشوك على إصدار قرار ما من قبل القاض ,لكن هل يجوز لللقاضي أن يترك النص القانوني وما أستقر عليه القضاء في دعاوى مماثلة وأن يترك العرف ثم يقرر الركون واللوذ بالإجتهاد لإصدار قرار ما؟ إن الفقه القانوني العراقي ينبئنا في هذا المنحى بجواز الإجتهاد في غياب النص والمصدر الآخر ,أي إنه يجيز الإجتهاد في حدود ضيقة معينة محددة بإتقان وفي حالة غياب كل مصدر آخر محدد قانونا , لكن ماذا لو قام القاضي بترك كل المصادر واللجوء إلى الإجتهاد حصرا ؟ برأيي إننا هنا نكون أمام قاض مشرع وهذا لا يجوز دستورا وقانونا وفيه تداخل فض بين السلطات التي ينبغي لها أن تكون مفصولة عن بعضها فالقاضي هو مطبق القانون لا واضعه , وحتى لو جاء قراره متمتعا بصفة العدالة ومستوفيا لها وأستقر خبره وموضوعه في أنفس أفراد المجتمع ونال رضاهم بشكل شبه متكامل فأيضا لا يجيز القانون له ذلك لأن آلية صدور القرار قد تكون مشبعة ومشوبة بالعيوب لأن جوازه يعني في جانب آخر منه إجازة هذا الإتجاه نحو التوسع فيه واللوذ به مستقبلا من قبل قضاة آخرين .
إن هنالك دعاوى فيها قرارات صادرة من هيئات قضائية في بعض مجتمعات الشرق الأوسط يُلاحظ فيها غياب الإستناد على مصادر القرار المعينة قانونا ودستورا كلها وركون تلك الهيئات إلى إصدار قرارات لا تستند سوى على قرار سابق صادر منها حصرا لتعتبر منحاها من قبيل الإستناد على الأحكام القضائية وهذا الإتجاه لا يمكن تفسيره سوى بالمخالفة القانونية الجسيمة والتي تستدعي مساءلة القضاة الذين أضطلعوا بمهمة إصداره وشاركوا فيه ,ورغم قلة هكذا قرارات إلا أني لاحظت قبل سنتين من الآن قرارا صادرا في هيئة قضائية في إحدى الدول الشرق أوسطية -ولا نذكرها حفظا لواجب الأمانة والستر – وقد بدا قرارا هزيلا وفارغا من كل محتوى وفحوى علمي وفقهي سواءا القانوني أو القضائي حيث إن المدعي في الدعوى كان قاضيا ويطالب بحقوقه الوظيفية في القدم الوظيفي والترفيع وفي تفاصيل الدعوى نرى إنه يطالب بالحكم له بإلغاء قرار صادر بحقه من هيئة قضائية كانت قد قررت محو خمس سنوات من خدمته الفعلية كقاض بحجة تأخره في تقديم بحث الترقية حيث شرح في عريضة دعواه المطولة كيف إنه لم يتأخر في تقديم البحث وإنه قد قدمها ضمن النطاق الزمني المحدد بخمس سنوات ودفع بعدم مجيء تاريخ الإستحقاق للترفيع القادم مع شرح مسهب منه حول عدم دستورية المصدر الذي أستندت عليه الهيئة القضائية العليا المختصة في نظر طلبه للترفيع ومن ثم رفضه لأن تلك الهيئة كانت قد إستندت على قرار سابق لها حصرا يحدد بموجبه وجوب تقديم البحث القانوني المطلوب للترقية قبل تاريخ زمني كانت قد حددته تلك الهيئة بحيث بدا للوهلة وكأن ذلك القرار هو بمثابة تاريخ صلاحية للخدمة الوظيفية الفعلية للقضاة ,ورغم ذلك نرى بأن الهيئة القضائية المضطلعة بنظر الدعوى تقوم مرة أخرى وكما يتبين ذلك من خلال أوراق الدعوى باللوذ بقرارها السابق في الرفض ,رفض منح القاض للقدم الوظيفي المستحق بحجة إن ذلك القرار الصادر منها قد أضحى بمثابة سوابق قضائية أو حكما قضائيا صالحا للإستناد عليه في إصدار قرار في الدعوى وهنا نختم سرد تفاصيل الدعوى تلك وموضوعها ونأتي على الملاحظات الواجب ذكرها وأولاها هي إنك هنا إزاء قرار قضائي صادر من هيئة قضائية تستند على قرار سابق لها والدعوى القضائية أساسا مقامة على تلك الهيئة نفسها !! , فهل يجوز إجتماع صفتي الحكم والخصم في أية دعوى ومهما كانت خصوصيتها ونوعها ؟!, لا يجوز , وهل يجوز الركون إلى القرار والحكم القضائي مع وجود النص الدستوري ومع وجود النص القانوني العام والخاص أيضا وكلها تؤكد على ضرورة حفظ حقوق أي موظف في الدولة ناهيكم عن حفظ حقوق القضاة وحرمة جانبهم الذي يُفترض بأن تكون مأمونة ومصانة إلا في حالات خاصة محددة بالقانون وهي حالات تتعلق بإرتكاب ذلك القاضي لجريمة مخلة بالشرف فتأتي العقوبات الوظيفية والمالية عليه تباعا على إثر قرار أساسي من الهيئة القضائية المختصة التي تتولى مساءلته أصوليا وقانونيا , لكن في غياب كل ذلك بماذا يمكن تسمية معاقبة قاض بحرمانه من حقوقه الوظيفية الفعلية كقاض لخمس سنوات ألا تتسائل تلك الهيئة القضائية التي تولت نظر دعواه عن الأساس القانوني لحرمانه من المبالغ المالية المسماة قانونا بعلاوات الراتب والترفيع والتي يُفترض بأنها تأتي بعد ترفيع درجته وصنفه قانونا ؟ وما هو وجه الإختلاف بين الحرمان من الحقوق المالية الوظيفية للموظف في الدولة عن الغرامة المالية التي تأتي أحيانا كعقوبة أخرى مضافة على العقوبة الأصلية عن جريمة إقترفها فرد عادي بسيط وهي عقوبة تأتي في أحيان كثيرة كبديل حتى عن العقوبة الأصيلة المتمثلة بالحبس أو تقييد الحرية ,,حين سرد لي ذلك القاضي الذي يسكن في رقعة ما من هذا الشرق الأوسط ال(جميل) تفاصيل الدعوى تلك وكيف إنه عانى مرارة تداعيات ذلك القرار على نفسه وعلى عياله قلت في نفسي إننا هنا في العراق يجب علينا دوما أن نشكر الله لأنه منًَ علينا بمراجع قضائية عليا محترمة تصون حقوق الفرد العادي قبل القاضي , إذ لم يسبق وطيلة التاريخ القضائي في العراق أن صدر قرار مماثل لذلك القرار مثلما لا يُتصور أن يصدر له مثيل في قضاء إقليم كوردستان العراق أيضا وهنا تأتي أهمية تمتع قضاء ما بالعمق والإرث الحضاري والتاريخي فالقضاء العراقي يحترم ثقافة الإحتكام والقاضي لا يحكم لا بالعواطف الشخصية التي قد تنتابه نتيجة الشعور الشخصي ولا بأية ضغوط وتأثيرات جانبية أو خفية بل تحكم بالنص القانوني الذي لو غاب للجأ القاضي إلى ما سواه من مصادر وبعيدا عن الإجتهاد الذي يرتب الضرر على طرف ما من أطراف الدعوى ,وكل هذا مردود إلى تمتع القضاء العراقي عموما سواءا في بغداد أو في أربيل بالكياسة والرصانة فضلا عن المعين الثر من ثقافة الإحتكام المستقرة في أنفس القضاة وثقافة الإحتكام هي التي تجعل القاضي يسمو أكثر مما هو عليه من سمو النفس خاصة في القضايا والدعاوى ذات الخصوصية المعينة .
لو نظرت إلى القصص والحوادث التي تحكي لك قصة العدل والإحتكام في القرآن فإنك ترى خادمة في بيت عزيز مصر تنبه عقلاء القوم وحكماءهم إلى ضرورة النظر إلى قميص يوسف , (هل قد من دُبُر أم قُبُل؟) لبيان الدليل الحي في جريمة الشروع في جريمة الإغتصاب المفترضة ألتي هي في الجانب الآخر إنما تمثل مجرد تهمة وإفتراء عظيم بحق نبي من أنبياء الله , ولا ترى جوابا على مقترحها القائم على عدل المنطق المؤدي إلى منطق العدالة وإنما ,يتم إيداع يوسف في قعر مظلمة !!,,هذا يعني بأن ألقضاة غير محصنين من الزلل سواءا أكانت صغيرة أم كبيرة مثلما يعني بأن العدالة والعدل قد يهتدي إليه عقل وضمير خادمة بسيطة في وقت قد يعجز قلب وعقل وضمير قاض من الإهتداء إليه وبغض النظر عن الخطأ والعمد في عدم الإهتداء هذا .
ومثلما ذكرنا أعلاه فإن ثقافة الإحتكام تقوم على وجود قناعة من الأفراد جميعا بوجود العدالة في هيئة قانون رصين وقضاء حصين , تلك القناعة تؤدي إلى الإقتناع بأن الثأر والإنتقام يجب أن يتكفله القانون حصرا شريطة عدم التحايل على نصوصه,
وعلى الرغم من إن تسليط الضوء من القرآن على أللاعدل الذي يمكن حدوثه قد جاء لأجل البيان للخلق بضرورة إلتزام العدل دوما وعلى الرغم من وجود أحاديث نبوية شريفة تحث على العدل وتعتبر الساعة فيه معادلة لسبعين سنة من العبادة إلا إن فرضية حدوث ظاهرة التحول إلى البدائية الهمجية لإشباع عواطف الإحتقاد التي قد تتأجج في بعض الأنفس سواءا أكانت أطرافا في الدعوى وخصوما أو كانت حكما فيها ,هي أيضا بدورها متصور الوقوع , بيد إنها تضل كحالات شاذة ترد على أصل القاعدة الذهبية في ميل الأنفس إلى حب العدل والركون الدائم إلى ثقافة الإحتكام وربما كان غياب أثر روح النص المقدس في القلوب هو السبب الأساس في وجود تلك الحالات الطارئة الغريبة .