استخدم اسم القاعدة لأول مرة في مقال لعبد الله عزام في مجلة الجهاد التي كانت تصدر في بيشاور (العدد 41/ابريل 1988) ،بعنوان “القاعدة الصلبة ” ،لتشير الى تجمع “المجاهدين” في أفغانستان ليكونوا طليعة الجهاد في العالم ،ومعددا صفات متنوعة في هؤلاء الشبان.ولكن على المستوى التنظيمي ،كانت هذه الفكرة قد بدأت منذ عام 1983 حين أسس عزام “مكتب الخدمات ” في بيشاور لاستقبال المتطوعين العرب ، وتسجيلهم وتوزيعهم على جبهات “الجهاد الأفغاني ” ومنها تشكلت النواة التي اسست للتيار السلفي الجهادي وتنظيم القاعدة ،كما طوره فيما بعد اسامة بن لادن وايمن الظواهري.
حاز مصطلحي الإرهاب والقاعدة على اهتمام (سياسي وعسكري وأمني وعلمي وإعلامي واقتصادي) ، منذ أكثر من ربع قرن ،وتصاعد وتيرة هذا الاهتمام بشكل أكبر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 الشهيرة ،حيث تم استحداث الوزارات والهيئات والمؤسسات ،وتغيرت خطط الجيوش ،وتقنيات الأسلحة والمعارك ،ونشأت أجهزة أمنية تهتم بالإرهاب والقاعدة ،بل شكلت نحو من الاستثمار في القطاع العلمي .فقد حصل آلاف الراغبين بدراسة الارهاب والقاعدة وشؤونهما وما يتصل بهما على منح دراسية ،وأنجزت مئات الرسائل والدراسات ،وانشغلت مراكز البحوث في تفسير وتحليل ورصد ومعالجة هذه الحالة التي ضربت العالم شرقا وغربا.وقد صار مصطلح “الحرب على الإرهاب ” إيقونة عالية القيمة ،كبيرة الدلالة ،أنحشد من خلفها ولأجلها شعوب وجيوش واقتصاديات.
بنظرة فاحصة إلى القاعدة بكل مراحل تطورها والساحات الجيوسياسية التي عملت فيها ،والنشاطات الكبيرة والصغيرة التي قامت بها فعلا أو التي تنسب لها ،نجد أنها تستند على مثلث كبير ،رؤوسه الثلاثة هي :”الفكر- المال- الظروف”.
فالقاعدة كجسم أيدلوجي المنحى استندت في رؤيتها الفكرية الكبرى على ما يسمى بـ “السلفية الجهادية ” ،وهذه الحركة نمط تلفيقي جديد تم ابتداعه من قبل جماعة زاوجوا بين الرؤية السلفية التقليدية التي تنحى صوب العود إلى ما تسميه بمسيرة السلف الصالح ،وتعتبر تلك العودة هي الحل الوحيد لبناء المجتمع المسلم (من وجهة نظرها) ،وهي حركة ذات بعد اجتماعي تغييري تطهيري ، تتعالى على الأنساق الواقعية ،لكنها لا تستند إلى القوة كمنهج للتغيير.بينما يعد التيار الجهادي مسار راديكالي يعتبر التغيير بالقوة هو المسلك الوحيد لحصول التغيير المطلوب.ويلخص أبو محمد المقدسي ،أحد أهم منظري هذا التيار حقيقته بالقول : “السلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد ،أو قل هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت “
هذه الفكرة المتعالية ليست هي المادة الأساس لخطاب منظري القاعدة الملهم للأعوان والجاذب للأنصار ،بل يمتد التأويل إلى أوسع صوره ،بحيث يصبح الطواغيت من وجهة نظرهم قائمة مزاجية تقوم على أساس رغبة هؤلاء المنظرين ،ويغدو الكفر والإيمان مساحة لاجتهاد “قاعديي المنحى ” ،يقرب إلى حظيرته من يشاء بحيث يتصالح مع الفسوق والعصيان بحساب المصلحة ،ويبعد من يشاء حيث يعد الشيعة مثلا على مختلف تنوعاتهم مارقين كفار ورافضة يجب مقاتلتهم ،وهكذا يجتهد هذا الفكر التلفيقي الإشتهائي في ابتداع صور على مقاساته الخاصة للتدين والجهاد والفقه والموالين والأعداء والضروري والواجب والحرام والحلال.
برز هذا المسار الفكري (المتحول بحسب الرغبة والمصلحة ) ، والمربوط بطريقة هلامية بفكرة (السلفية الجهادية )،على أيدي شخصيات مثلت مراحل وتحولات المنتج الفكري القاعدي بدءا من محمد عبد السلام فرج في كتابه الفريضة الغائبة ،مرورا بتنظيرات عبد الله عزام ومنشورات مجلة صوت الجهاد لسان حال التيار السلفي الجهادي ،وعبد القادر عبد العزيز في كتابه العمدة في إعداد العدة وصولا إلى كتب أبو مصعب السوري المنظر الاستراتيجي للتيار ومنها أفغانستان والطالبان ومعركة الإسلام وكتاب المسلمون في آسيا الوسطى ومعركة الاسلام ،وهكذا رسائل وخطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري والعولقي وغيرهم ،وحتى نشاطات “أم عبيدة مليكة العرود “الانترنيتية التي مثلت خطابا تحشيديا مؤثرا في صفوف المنتمين ومادة جذب قوية للتجنيد .
وخلاصة القول في هذا الرأس من مثلث الاستناد ، أن القاعدة توافرت على مزيج فكري تلفيقي لعب دورا أساسا في تسهيل عمليات التجنيد والتعبئة والمناصرة ،حيث أستغل بيئات وذهنيات رخوة ،امتصت هذا التلفيق بقوة ،وتفاعلت معه ،وعملت من أجله إلى الدرجة التي أصبحت تجده طريقها الوحيد إلى الخلاص.وقد فاق القاعديون دعاة اليسار المنتمين بقوة في دأبهم على تجنيد الأنصار ومطاولتهم للوصول بالوقيعة إلى ضحاياهم ،وعملوا في أطار براغماتية شديدة التطرف من أجل الوصول إلى النتائج المرجوة بغض النظر عن طبيعة الأسلوب والأدوات المطلوبة لذلك ، بما فيها التوريط والتزوير واستغلال الجنس والرشوة والإكراه والمكائد بشتى أنواعها.
على الرغم من اختلاف وجهة نظر منظري القاعدة حول ما يسمى بـ”الملاذات الآمنة” ،فإن القاعدة عمليا اختارت مواقع جيوسياسية محددة تتسم بأنها :أما لا دولة أو دولة ضعيفة أو منطقة صراع متفاقم ،بحيث تؤمن تلك الملاذات الحماية ،وسهولة الحركة بما في ذلك التسهيلات اللوجستية ،والقدرة على المناورة العمل ،وأحيانا البعد الرمزي والمعنوي للمكان ، وفي كل تلك الصور كان المال ضرورة أساس لحياة النشاطات الإرهابية القاعدية.
مثلت الفترات التي سبقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر مرحلة الاسترخاء للمولي القاعدة المباشرين وغير المباشرين ،وتحت عناوين مختلفة من أهمها دعم الدعوة والجهاد (بحسب الرؤية السلفية والجهادية ) ،والدفاع عن الإسلام والمسلمين ،ومساعدة الفقراء والمحرومين ،حيث امتدت شبكات معقدة لتوفير خط متدفق من السيولة المالية والدعم اللوجستي ،ومع التضييق والمتابعة التي مارستها الولايات المتحدة في ما سمته تجفيف المصادر المالية للإرهاب ،لم يعدم القاعديون ابتداع طرق ووسائل مختلفة لجمع الأموال .كما أن البروباغاندا التي قادها أعلام القاعدة بعد سبتمبر بدعوى تولي القاعدة المعركة مع الكفار والصليبين ،وما أتاحه احتلال العراق من مادة خصبة للإقناع ،مثلت مادة جيدة للحصول على الدعم المالي من بقاع مختلفة من العالم وخصوصا دول الخليج .
لم تقف القاعدة في قدراتها المالية على آلية جمع التبرعات ،بل توسعت في شبكات استثمار معقدة حتى على مستوى تجارة البشر والمخدرات وعصابات التزوير والقتل المأجور وجمع الاتاوات والابتزاز وعمليات غسيل الأموال والسرقات الكبيرة وتسخير الفاسدين من أنصارها في أنظمة وحكومات وعلى مستويات مختلفة لدعم نشاطاتها .
مثلت الظروف الرأس الثالث لمثلث استناد القاعدة ، فبدءا من منطلق القاعدة في أفغانستان عبر ما يسمى بالمقاتلين العرب الأفغان ودعوى مواجهة الشيوعية الكافرة وحماية إسلام أفغانستان والشيشان ودول القوقاز ،ومرورا بالجزائر والسودان والصومال ،فعمليات التفجير والنشاط الإرهابي في أوربا وأمريكا ،وتوجها نحو الأردن والسعودية واليمن ،فالعراق الساحة التي مثلت الظرف الأنموذجي للقاعدة ،وهكذا إلى نشاطها هذه الأيام في سورية ودول التحول في المنطقة ،كانت الظروف الاستثنائية أو مجموعة التحديات السياسية والأمنية التي تواجهها تلك البيئات بمثابة الشرط اللازم لنجاح عمل تواجد القاعدة فيها أو من خلالها .فالقاعدة تبحث عن الحاضنة الحامية والأرضية الرخوة للتجنيد والعمل السهل ،لذلك تختار ملاذاتها وساحات عملها بعناية ،وقد تكون هي من يخلق ظروف الخلخلة واللانظام وتقويض السلطة من أجل التواجد الحر في تلك المنطقة.
لا يمكن التشكيك في أن الكثير من الأنظمة السياسية في دول العالم الكبيرة والصغيرة منها ،وأجهزة المخابرات ،ولاعبين لا دوليين سخروا القاعدة بشكل مباشر أو غير مباشر ،وقدمت القاعدة نشاطات وخدمات سياسية وأمنية واقتصادية ساهمت بشكل جوهري في تقويض أنظمة وحماية أنظمة أخرى.
أعلنت الولايات المتحدة ومن خلفها معظم دول العالم في الغرب والشرق أن القاعدة والإرهاب عدوها الأساس ،وأن معركتها الحاضرة والمستقبلية معهما ،وقادت ما يسمى الحرب على الإرهاب ،وهي المعركة التي (بحسب أمريكا) لا تتحدد بحدود جغرافية ،وليس لها نهايات زمانية محددة ،ولا يمكن تأشير نجاح أهدافها بشكل قاطع وواضح ،بحيث أعطت لأمريكا مرونة سيالة في العمل العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي من أجل ضمان أمنها القومي بحسب الرؤية الأمريكية .
تعد الولايات المتحدة الأمريكية قتلها لأسامة بن لادن في مايو 2011 انجازا كبيرا في طريق مواجهتها للقاعدة ،إضافة إلى حملة التصفيات التي قادتها ضد قادة القاعدة سواء عبر القتل بـ “الطائرة بدون طيار” ،أو التصفية في معارك ومواجهات ،أو من خلال الاعتقال والسجن ،كما ساهمت ساحات كبيرة ومنها مواجهة الجيش والقوى الأمنية العراقية وعلى مدى عشرة سنوات في إضعاف شوكة القاعدة ودحرها.
يوجد جدل بين من يعد ما يسمى بـ “الربيع العربي ” ،ضربة في صميم القاعدة قوضت شرعيتها ،وأفقدتها زمام السيطرة ،وسحبت من تحتها بساط التأثير في الشارع المسلم عامة والعربي خاصة ،بحيث مثلت الثورات بديلا مقنعا لتحقيق التغيير بعيدا عن استخدام العنف والترهيب ،وأصبحت الديمقراطيات المرجوة الحلم المنشود للقوى الإسلامية والعلمانية على حد سواء ،بينما يرى اتجاه آخر أن تلك الانتفاضات أحدثت مناطق رخوة ،وأوجدت ظروف تساعد على تواجد القاعدة بشكل أكثف ،وتساهم في لملمة قواها مرة أخرى ،وأن الفشل الظاهر للعيان للقوى الإسلامية (من غير تيار القاعدة) في ممارسة السلطة سيكون حجة دامغة على أن التغيير لا يمكن أن يكون إلا عبر نهج القاعدة العنفي ،وأن القاعدة نفسها قد تكون مسؤولة عن فصول مهمة من عملية الاهتزازات الكبيرة في المنطقة ،خصوصا مع الانتقائية الواضحة في مناطق الحدث .
لا يساورني الشك في أن القاعدة مازلت ناشطة بقوة في ساحات مثل اليمن وسورية والعراق ،فالتصعيد والتوتر الذي شهده العراق في الأشهر الأربعة الأخيرة على خلفية الأعتصامات في بعض المحافظات العراقية لم تكن القاعدة وأذنابها غائبة عنه ،بل تأكد للقاصي والداني تواجدها المسلح في ساحات التظاهر ،وممارستها دور التصعيد وتأزيم الأمور ،كما أن جبهة النصرة في سورية ومن يتحالف معها ،والتي أعلنت بيعتها العلنية للقاعدة تمارس دورا محوريا في الصراع المسلح الدائر في سورية.
إن أي معالجة أو مكافحة للإرهاب والقاعدة لا بد أن تعمل على تقويض مثلث الاستناد الذي تقف عليه القاعدة ،فالمواجهات العسكرية والعمليات الأمنية لوحدها لا تكفي ،كما أن تحصين الدول عبر نشر الديمقراطية الحقيقة ، وترسيخ مفهوم التداول السلمي للسلطة ،وفسح المجال للمشاركة المتكافئة لجميع أفراد الشعوب بغض النظر عن خلفياتهم القومية والأثنية والطائفية ، والاهتمام بالأوضاع المعيشية ،وردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية ،واحتواء المهمشين ،والمعاملة الحكيمة مع الجريمة ،كلها إجراءات ضرورية تسد الطريق أمام القاعديون ،وتوقف قدرتهم على التغرير عبر خطاباتهم الإغرائية.
* مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات