17 نوفمبر، 2024 10:41 م
Search
Close this search box.

قاسم سليماني ومحمود الدهيمة في تكريت!

قاسم سليماني ومحمود الدهيمة في تكريت!

الملا محمود الدهيمة إمام مسجد صغير في مدينة تكريت، في الستينيات من القرن الماضي، طويلُ القامة، عريض المنكبين، عالي الجبين، تجعل منه عمامتُه البيضاء الطويلة عملاقا وحيدا في مدينة أغلبُ رجالها قصار القامة. قليلون فقط، وأنا كنت منهم، يعرفون ما يخفي تحت عمامته من ثورة عارمة على رجال الدين، زملائه، ومن نقمة ساخنة على كل يرتزق بالدين، ويداجي أهل السلطة والمال.

كنت يافعا، وكان لي شغف بمراقبة الملا وهو يتخذ، كل صباح، مقعده الأمامي الدائم في إحدى مقاهي سوق تكريت الكبير، يراقب الرائح والغادي، والابتسامة المعهودة ترتسم على وجهه البشوش. والذي أثار فضولي أنه يهب واقفا وينحني، عشرات المرات، دون كلل ولا ملل، للرد على أي عابر سبيل يسلم عليه، من قريب أو من بعيد، وهو يقول بصوت مسموع: أهلا يا أستاذ. وعجبت من إطلاقه لقب (أستاذ) على كل من يسلم عليه، حاكما أو محكوما، صغيرا أو كبيرا، ومهما كانت مهنته، مدرسا أو مهندسا أو طبيبا أو ضابط شرطة أو عامل بناء أو كناسا أو مساعد سائق سيارة.

ظلمته واتهمته، بيني وبين نفسي، بالنفاق. ولم أستطع صبرا على ذلك، فتجرأت وقلت له: مولانا، حين أسلم عليك مستقبلا لا تقل لي: أهلا يا (أستاذ). لأنك تمسخ هذا اللقب الكبير، وتمنحه لمن هب ودب.

فابتسم ابتسامته العريضة وقال: لا، أنت واهم، انتبه، إنني لا أخلط، فهناك (أستاذ بنقطة)، و(أستاذ بدون نقطة). ورغم أن (أسطة) حرفت أصلا من (أستاذ)، إلا أن (أستاذ بدون نقطة) ألطف وقعا من (أسطة) على أسماع أصحاب المهن اليدوية البسطاء. وهذا شيء بسيط أستطيع به أن أسعدهم، وأشعرهم باحترامي وتقديري ومحبتي.

بهذا الرد اطمئنت نفسي واسترحت، فجلست إلى جانبه، وسألته: ألا تتعب من المجاملات والتحيات والسلامات؟

قال: لكل منا هواية، وهوايتي رؤية فرح العيون وبـِشر الوجوه.

وأضاف: هذا واجب رجل الدين. فهو حمامة سلام ورسول محبة وزارع فرح بين الناس.

قلت: هل أنت، حقا، تساوي بحبك واحترامك بين جميع الناس دون تمييز؟

قال: نعم، والله شاهد علي.

قلت: حاكما أو محكوما؟

قال: نعم، وأزيد المحكوم مودة، لأنه أحوج إليها من سواه.

قلت: حتى لو كان من غير قومك ودينك وعشيرتك وطائفتك؟

قال: إن الإنسان لديّ بشخصه. فإن كان مسكونا بالفساد فسأدعو له بالعافية، وإن كان معافى في داخله وسريرته فسأدعو له بدوام العافية. أما لونه ودينه وطائفته وأهله وعشيرته وأمواله فلا تزيد وزنـه لديّ ولا تـُنقصه.

قلت: أنت سني، فهل تحب الشيعي – مثلا- بقدر حبك لابن طائفتك؟

غضب وقال: لا تنطق بهذا في حضرتي، فهو تخلف لا يليق بي وبك. إننا أتباع دين واحد، وأحباب رسولٍ واحد، وعشاق أهلِ بيتٍ واحد.

قلت: وماذا عن المسيحيين واليهود؟

قال: هم عباد الله، وأهل كتابٍ من الله (عز وجل)، واحترامهم واجب. فنبينا (ص) أحب نبي المسيحيين عيسى (عليه السلام) وأمه مريم، وأحب واحترم نبي اليهود موسى (عليه السلام)، واعترف بنبوتهما، واتخذ كثيرا من تعاليمهما قدوة ومثالا، في كثير من الأمور، وكثير من الحالات. وواجب رجل الدين

اليوم أن يمد جسور السلام والمحبة بين بني البشر جميعا، وخاصة بين أتباع أديان الله الثلاثة، دون تفريق ولا تمييز.

قلت: ولكن النبي نفسه دعا إلى حربهم وقتالهم.

نهض من مكانه غاضبا ورد بعصبية:

هذا هو الفهم الخاطيء. فهو دعا إلى حرب الذين أنكروا نبوته، يومها، وتآمروا عليه وعلى دينه، وأبتدأوه العداء، وبادروه بالحرب عليه وعلى أتباعه. كانوا أفرادا من اليهود والنصارى، ولم تكن اليهودية ولا النصرانية هي التي حاربت الإسلام وأهله. وفي قناعتي أن الذي أشعل تلك الحروب في ذلك الزمن المتقدم من عمر الإسلام هم بعض قادة اليهود والنصارى، وليس كل اليهود ولا كل النصارى، بدافع العصبية، ودفاعا عن مواقعهم ومصالحهم ومكاسبهم التي خافوا أن يتسبب الدين الجديد في ضياعها وفقدانها. ولو فكرنا، بتجرد وموضوعية وعقل، لوجدنا أن أؤلئك الذين آذوا الرسول، من اليهود والنصارى، قد ذهبوا وذهبت أحقادهم معهم. ومسيحيو ويهود اليوم هم غير الذين كانوا قبل ألف وثلاثمائة عام، فلماذا التباغض والتقاتل بين أتباع أديان الله الثلاثة؟

قلت،: إذن لماذا يدعو زملاؤك رجال الدين المسلمون إلى كره النصارى واليهود وقتالهم وعدم اتخاذهم أولياء، ويصفونهم بالكفر والشرك، وُيحلون قتلهم وتهجيرهم؟

قال: يفعل هذا بعضُ رجال الدين المسلمين، وليس كلهم. وهذا ما لا أقره ولا أحترمه. إنهم قاصرون في فهم ما جاء في القرآن الكريم عن تلك الفترة من حياة الإسلام. إنهم يفعلون اليوم ما فعله يهود ونصارى الأمس بالرسول (ص) ودينه.

وأضاف: إن رجل الدين مأمور من الله ورسوله بالسعي للسلام والخير، وليس لإحياء العداوات الميتة، وإيقاض الأحقاد الهمجية النائمة.

هل من العدل والعقل والدين أن يتقاتل أتباع أديان الله الثلاثة، وأتباع الدين الواحد؟ هل يعقل أن الله الرحمن الرحيم بعث أنبياءه لينشروا الخراب والشر والعنجهية والعصبية، ويشجعوا الناس على الذبح والحرق والاغتيال والاغتصاب والاحتلال؟

وقال: أنظر إلى حالنا نحن المسلمين هذه الأيام. هل يرضى رسولنا العظيم وأهل بيته وصحبُه الكرام بما نراه اليوم بين طوائفنا الإسلامية المتقاتلة؟

إن شيعيا طيبا أفضل عندي من مليون سني ظالم وشرير، كما أن سنيا مستقيما أكرم لدي من مليون شيعي مخادع. ومسيحي تقي وملتزم بتعاليم السيد المسيح على حقيقتها أثمن لدي من ملايين المسلمين المتخلفين الذين يُنصِّبون أنفسَهم وكلاءَ للهِ على أرضه وبين عباده، فيكفرون ويحاسبون ويعاقبون على هواهم، وبمقاييسهم المتخلفة القاصرة. وقد علمتُ بأن المتعصبين المتشددين الذين أعمت الشرور أبصارهم وبصائرهم موجودون لدى اليهود والنصارى، مثلما المتطرفون المضلَّلون عندنا، والعياذ بالله.

المشكلة الكبرى أن كلا منا يفسر كلام الله على مزاجه، وعلى مقاس مصالحه، وحسب هواه. وحين تقلب صفحات التاريخ تجد أن كل الجبابرة والجلادين، من الحكام والقادة، كانوا يستخدمون رجال دين مزورين يقلبون ظلمهم عدلا وسرقاتهم أمانة وفجورهم تقوى وعبادة. وكانوا، جميعا، يجدون في كلام الله ما يمكن تطويعه لكي يصبح الأسود أبيض، والظلم عدلا، والسرقة شطارة. وليس بعيدا عنا إصرار بعض رجال الدين اليهود المتعصبين على اتباع الباطل، فيبررون أحقادهم وتعدياتهم على باقي شعوب المعمورة بأنهم شعب الله المختار. هذه كذبة كبيرة. فالله اختار يهود مصر، وفضلهم على غيرهم، في حينها فقط، لأنهم كانوا قد اتبعوا نبيه الكريم موسى (عليه السلام) في مواجهة فرعون وظلمه وجبروته. ولكن الله (جل جلاله) لم يقل إنهم شعبه المختار إلى أبد الآبدين. فلا يمكن لربنا العادل الرحيم أن يفضل حتى الأراذلَ من اليهود على كثيرين من الأخيارٍ المسلمين والمسيحيين وباقي عباده الأكرمين. إن اليهود ليسوا شعب الله المختار دائما، وإلى ما لا نهاية. لقد كانت مرحلة، وانتهت بانتهاء أهلها وظروفها ودوافعها.

أنا أكره إسرائيل اليوم، لكن ليس كرها لدين موسى (عليه السلام)، بل هو كره لحكومتها العنصرية الغازية الجشعة التي تتخذ من الدين اليهودي غطاء لمصالحها الشريرة وطموحها التوسعي الهمجي البغيض. تماما مثل كرهي لأية حكومة، في أية بقعة من العالم، تظلم شعبها وتعتدي على جيرانها، باسم الله وباسم واحدٍ من أنبيائه المرسلين. وأكره المسيحي الذي يدعو اليوم إلى قتلي، لأن طارق بن زياد غزا إسبانيا، قبل مئات السنين، فأحرق وقتل ونهب واغتصب ودمر، باسم الله وباسم نبيه وباسم دينه الحنيف الذي لم يأمر أبدا بالاحتلال والقتل والاغتصاب ونهب البيوت وسبي الزوجات والأطفال، بحجة نشر الدين وفرضه على العباد بقوة السيف. أنا أكره الظالم أيا كان، وأبغض التعصب، بأية صيغة وتحت أية ذريعة.

وقال مستطردا:

إن ما يحدث اليوم من احتلالات، وهتك للأعراض، وهدم للبيوت، وقتل وتعذيب، وحروب صغيرة وكبيرة، في أرجاء العالم كله، على أيدي مسلمين جهلة، أو مسيحيين متخلفين، أو يهود متعصبين، إنما هو من زرع رجال دين، قاصدين كانوا أو غير قاصدين. فحين يولد الواحد منا يكون كالكتاب الأبيض الصقيل، نقيا بريئا ليس في نفسه شيء من حقد أو عداوة لا لشيء ولا لأحد. ولكن إذا ما ساقه حظه العاثر إلى رجل دين جاهل ولئيم فسوف يزرع فيه الكراهية والحقد، ويشعل في قلبه نار العصبية الدينية أو المذهبية، فيصبح بؤرة للجحيم تبحث عما تأكله. ولكن إذا وفقه الله فرماه بين يدي رجل دين ذي بصر وبصيرة، ساع ٍ إلى الخير والمحبة والسلام، فسوف يملأ نفسه وقلبه بحب الخير، وباحترام الغير مهما كان دينه وعقيدته وطائفته. أنا لا أحب ولا أحترم زملائي رجال الدين المشاغبين الذين يرون الحق ويغفلون عن اتباعه، ويسيرون وراء أهواء فاسدة، أو مفاهيم خاطئة عن الدين وجوهره.

ثم سكت وتململ وقال: بيني وبينك، لو كان الأمر بيدي لجعلت الوعظ والإرشاد الديني والإمامة والأذان وأي نشاط ديني آخر، للمسلمين والمسيحيين واليهود، عملا خيريا تطوعيا بدون مقابل، ولفرضت على كل رجل دين أن يبحث له عن مصدر رزق آخر، غير خدمة الله ودينه، ليتكسب منه. عندها ستجد الساحة قد خلت من الذين يقيسون دينهم بمقدار ما يدر عليهم من مال.

قلت: أنت وحدك من يحمل هذه الأفكار النبيلة، أنت تغرد خارج السرب، يا ملا محمود.

قال: من أول الخلق، والناس بين خير وشر، بين صلاح وفساد. ولا تغيير لسُنته، ولا تبديل لإرادته، يا أستاذ (بنقطة). وابتسم مرة أخرى ابتسامته اللطيفة التي تنشر السلام والطمأنينة في النفوس. من يومها وأنا صديقه ومستودع أفكاره النيرة.

ترى لو طال به العمر، وشاهد قاسم سليماني وهادي العامري والعصائب عند قبره ترى ماذا سيقول، وهل يصر على على رأيه في الدين والطائفة؟ وأما كانون سيشنقوه حتى وهو في قبره الأعزل الحزين؟!

وسؤال آخر. هل سيقرأ الولي الفقيه والسيستاني هذه المقالة ؟؟!

أحدث المقالات