18 ديسمبر، 2024 7:39 م

قارّة الشعر، ونداءاته الخفيّة

قارّة الشعر، ونداءاته الخفيّة

أكثر من مفارقة حصلت لي خلال إستضافة اتحاد الأدباء، والكتّاب في العراق /فرع بابل صفحة “وتريات قصيدة النثر” للصديق الشاعر فضل خلف جبر، إحتفاء بصدوره مجموعته الشعرية الجديدة” رسول الناس”، وهو بالمناسبة من أقدم أصدقاء الشعر، إذ تعود صداقتنا لعام ١٩٧٨ عندما جمعنا الشعر أيّام التلمذة في إعدادية” التأميم” بمدينة الحرية ببغداد، مع طلبة شعراء آخرين بينهم من قضى نحبه كالشاعر الشهيد صباح أحمد حمادي، ومن ينتظر كرباح نوري أمدّ الله بعمره.
المفارقة الأولى قبل بدء الجلسة إتّصل بي الصديق عدنان الصائغ من بيت ولده ” مهند” بلندن، ليبلغني إعتذاره عن متابعة الأمسية، كونه خارج البيت، الذي يخضع لإصلاحات، وطلب نقل تحياته للأخ فضل، فقلت له، وكنت خلال ذلك أتابع صفحة “وتريات قصيدة النثر”: “حسنا يبلغ سلامك، لكن أمامنا دقائق لنتكلّم قليلا”
وواصلنا كلامنا، الشبه يومي، ثمّ لاحظت أن البثّ تأخّر، فتواصلت مع الأخ أحمد رافع، عبر الرسائل القصيرة، فأبلغني عن وجود خلل يجري إصلاحه، فنقلت الخبر للصائغ، وواصلنا الكلام، وبعد مرور حوالي نصف ساعة أبلغني الأخ الشاعر أحمد: تمّ تجاوز الخلل، وبدأ البدء، عندها هممت بالإستئذان من الصائغ، لكنه طلب مني رفع درجة الصوت ليتابع الجلسة ، ولو لدقائق، وراح يصغي لشاعر” رسول الناس” الذي وصف د.حاتم الصكَر في تقديمه مجموعته الصادرة عن دار شهريار للصديق الشاعررصفاء ذياب، ب”محاولة شعرية جديدة تقلب منطق الخطاب السائد. هنا لا نبي جبران ولا رسول بوشكين. بل واحد من الناس يخاطب إلهاً يفتقد رحمته، وينقل إليه شكوى البشر في وطن يتمزق كجسد مستباح، متسائلا: هل أعطيتَ الحياة ليسلبها بعضنا من بعضنا الآخر؟”
وهمس الصائغ بأذني أن أسأله عن قصة المرحوم إسماعيل عيسى بكر” ليلتان وخمسة أصابع مالحة”، فسألته، وتحدّث عن الظروف التي عشناها في بغداد الثمانينيات، والحرب، لكننا كنا نكتب، ونقرأ، ونحلم، وهكذا، استمرّت متابعتنا معا حتّى نهاية البثّ، وإنتبهنا لمفارقة أننا لم نجتمع على أرض الواقع نحن الثلاثة منذ ١٩٩٥، ورابعنا الكبير جواد الحطّاب، وخامستنا أحيانا الشاعرة أمل الجبوري، وجميع اللقاءات كانت إمّا مع الصائغ، أو مع فضل فقط، أو فضل مع عدنان، أو أنا مع الحطّاب، أو الحطّاب مع فضل، أو إفتراضيّا، كما حصل حين استضافتنا “منصة إبداع”، بجهود مديرها الدكتور سعد التميمي، وكان معنا الشاعر وسام عبدالباقي العاني، فكانت فرصة جميلة، للقاء إفتراضي، نحن الموزّعين بين ثلاث قارات: أمريكا، أوروبا، آسيا، والجميل أننا إجتمعنا في فضاء عراقي!
لم لا؟ ونحن منذ عقود تجمعنا قارة الشعر، وفضاء العراق الشاسع، ومحبّته الآسرة !؟
المفارقة الثانية أنّ الأخ فضل فاجأني بقراءة نصّ من نصوصي، ولم يحدث، إلّا نادرا، أن يقرأ شاعر في أمسية مخصّصة له، ألقى خلالها أربعة نصوص، والخامس إختتم به الأمسية، لشاعر آخر ! وهذا طبعا قمّة النبل، ونكران الذات، ومن يعرف الأخ فضل، عن قرب، لا يستغرب ما قام به!
المفارقة الثالثة تكمن في إختياره للنص نفسه” مشيّة مريّخ” المنشور في مجموعتي” شمال مدار السرطان ” الصادرة عن دار الواح مدريد 2001، بجهود د.محسن الرملي، ود.عبدالهادي السعدون، فمن المصادفات الغريبة، إنني كنت قد نويت نشره بصفحتي، في ذلك اليوم (١٧ تشرين الأول” اكتوبر”) بمناسبة مرور عشرين سنة على وفاة جدّتي ” مشية مريّخ”، والأخ فضل لايعرف ذلك، حاولت أن استفسر من الأهل إن كان أحدهم أوحى له بالمناسبة، فنفوا ذلك، والأغرب إنّه لم يحدّثني يوما أنّ استوقفه، على الإطلاق، وكنت أظنّه من النصوص المحبّبة لكاتبها فقط، فالنص قصير، وبسيط، وهو:
“مشيّة مريّخ”
صاحبة هذا الاسم
الفلّاحة التي لا تعرف القراءة والكتابة
مثل نبيّ
البسيطة مثل نجمة
الخجولة مثل هلال
هل كانت تصدّق لو قلت لها
أنني سأدوّن إسمها في كتاب لي يصدر في عام ‏2001‏‏
ليس من باب المباهاة
ولا لأنها جدتي
ولا …
ولا …
بل نكاية بالعالم
الذي لم يذع نبأ موتها
في نشرات الأخبار”
وحماسي لنشره يتأتّى من نيّتي ذكر اسم هذه الفلّاحة البسيطة عام 2020، بعد عشرين سنة من رحيلها، لكنني تردّدت بنشره، وإعتبرت المناسبة خاصة بي، لذا إكتفيت بإهداء روحها ركعتي صلاة، وآيات من القرآن الكريم، لكنّ الأخ فضل في الساعة الأخيرة من يوم(17) فاجأني بذكر إسمها، عند قراءته النصّ، في عام 2020 وليس فقط في 2001 كما ورد في النص، وظلّ السؤال مفتوحا: لماذا وقع إختياره على هذا النصّ بالذات؟، ولم اجد إجابة، عندها سألته، بعد أربعة أيّام من الأمسية، فأجاب: لا أدري، كان قد إنتابني إحساس غريب أشبه بنداء، ووجدت نفسي مشغولا بالموضوع، وكأنه الحدث الرئيس، فقد كرّرت التنويه عدّة مرّات”، وهذا ما جرى بالفعل، وهذه من غرائب الشعر، ونداءاته الخفيّة، وغموضه، والشعر يبقى حسب بيلي كولنز ” بيت الغموض”؟
شكرا “مايسترو” الإستضافة الصديق الشاعر أحمد رافع
شكرأ أخي فضل، ترجمت ماكنت أنوي عمله إلى فعل بقوّة الحدس، والتخاطر، وكنت أشجع منّي، وأكثر وفاء، كعادتك!