كان باراً بوالدته ذات السبعين عاماً لا يتوانى عن تحقيق رغباتها على الرغم من غرابتها وعدم واقعيتها أحياناً، أدهشه في أحد الأيام كثيراً أنها تريد جوزاً ، وهي التي فقدت أسنانها منز سنين طويلة. ولكنها أمه العزيزة على أية حال سارع لتلبية طلبها، وجاء لها بأحسن ما في السوق من جوز ولكنها غضبت عليه واحتدت، وكررت طلبها بإصرار: (أريد جوز .. أريد جوز).. وجاء بالجوز ثانية، ولكنها رفضته بحدة مرة أخرى. وصار الرجل بحيرة شديدة، فهي لا تكف عن طلب الجوز، وهو لا يتوانى عن الإتيان به. ولكنها كانت ترفضه دائماً. وظل الرجل يعاني ويعاني، نصحه أحد الأصدقاء بأن يأخذها إلى السوق ويدعها تختار فحملها على ظهره لأنها ليست قادرة على المشي، صادفه القاضي في الطريق وهو على معرفة جيدة به.
سأله :
أجابه: إنها تريد جوزاً… وأنا ذاهب لشرائه بعد أن تقتنع بنوعيته.
فرد عليه القاضي:
اندهش الرجل وأجابه:
– أمي مره عجوز فوك السبعين، شتسوي بالرجال..!! طبعاً، هذا الكلام كان يدور ليس بعيداً عن مسامع أمه، فضربته على رأسه وصاحت:
– ولك قابل انته تفتهم أكثر من القاضي..؟؟!! (علي أبو عراق، مقامات النخل)..
هذه المفارقة بين “الجوز والزوج” ليست بعيدة عن مفارقاتنا السياسية. فمع كل انتخابات، يصرخ كثيرون ضد الفساد والفاسدين، ثم لا يلبثون أن يعودوا بحماسة لينتخبوا نفس الوجوه التي نهبت البلد وخنقت أحلامه. مرة بحجة القرابة، وأخرى بدافع صداقة قديمة، وثالثة بذريعة الانتماء القبلي أو الطائفي.
في المشهد ذاته، يظهر رجال دين وشعراء ومنشدون يبارون بعضهم في الخطب والقصائد والمهرجانات، يبيعون الكلام كما تُباع أي بضاعة رخيصة في سوق مزدحم. والمفارقة أن أغلب هؤلاء الناخبين من “العوام” الذين طحنهم الفساد، لكنهم يركضون خلف فتات موائد الأحزاب، ليعيدوا إنتاج جلاديهم مرة بعد مرة.
الأحزاب بارعة في اللعبة: تضليل وتجهيل، إثارة نعرات طائفية، تخويف من عدو وهمي، أو رفع شعارات ساذجة من قبيل: “اختر الأقل فسادًا”. أي منطق هذا؟ وأي جهل أبشع من أن يُجزّأ الفساد وكأنه درجات يُقاس بعضها ببعض؟ الفساد كلٌّ لا يتجزأ، وتمكين الفاسدين هو فساد مضاعف مهما غُلّف بخطاب ديني أو غطاء اجتماعي.
إن مروّجي هذه الدعوات صنفان: مأجورون يقبضون ثمنًا معلومًا من الأحزاب، أو غارقون في جهل طائفي وحقد أعمى. أما المتفاعلون معهم فإما متعصب يُقاد بالعاطفة، أو قليل وعي سياسي يساق حيث يُقاد.
لهؤلاء جميعًا أقول: لا تلعنوا الفساد وأنتم شركاء في استمراره. ولا تسبّوا الفاسدين وأنتم قد منحتموهم أصواتكم. لا تتباكوا على سوء أحوالكم، فأنتم أصل البلاء وسبب دوامه. حاكموا أنفسكم قبل أن تحاكموا غيركم.
وأقولها بلا مواربة: إذا واصلتم هذا الدور المخزي، فستكون تلك العجوز الباحثة عن “جوز” لا “جوز“، أعقل منكم وأوفر حظًا!