18 ديسمبر، 2024 6:39 م

في نقد العقل العربي (مرة أخرى)

في نقد العقل العربي (مرة أخرى)

حاولت كثيراً تجنب كتابة مقال عن هذا الموضوع الذي طالما شغل بالي منتظراً تناوله بشكل أكثر تفصيلاً في مشروعي البحثي الذي يحاول اكمال مشروع المفكر العربي محمد عابد الجابري (رحمه الله) في تحليله ونقده للعقل العربي. لكن أحداث الشهرين الأخيرين وكثرة ما قرأته من مقالات وتعليقات مستفزة لمنطق التحليل العلمي أجبرتني على كتابة هذا المقال.

عند بدء جائحة كورونا قال البعض أن هذه عقوبة للعالم الذي يعادي الاسلام، فلما أصيبت بلاد المسلمين وأغلقت مكة والحرم النبوي أمامهم ومات آلاف المسلمين من الفقراء والمساكين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم لم يكونوا قادرين على تجنب المرض أو مقاومته بدأنا نسمع انغاما ناشزة أخرى. ثم قالوا أن كورونا هي مؤامرة أمريكية لتدمير الصين، وبعدها مؤامرة صينية لتدمير أمريكا والعالم الغربي، وأخيراً قالوا أن الجائحة برمتها هي اختراع لا يرقى للحقيقة الواقعة!!

وبعد اندلاع الانتفاضة ضد العنصرية في أمريكا بدأنا نقرأ ونسمع من جديد نظريات وأفكار لا تمت للعقل والمنطق العلميين وترتكز في أغلبها إلى أماني وأوهام أكثر منها وقائع وأرقام .واليوم قرأت مقالاً للأسف لأحد من كنت أعدّهم من الكتاب الموضوعيين فاذا هو مليء بالمغالطات المنهجية والموضوعية ويتحدث عن سقوط أمريكا ترامب (المهرج )بشكل مشابه لسقوط الاتحاد السوفيتي نتيجة سياسات يلتسين( السكير) وكأنما من اسقط السوفيت هي الفودكا ومن سيسقط أمريكا هي أيفانكا!!

يعرف الجابري مفهومه (الذي أتبناه) للعقل العربي بأنه( جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها الثقافة العربية الاسلامية للمنتسبين لها كأساس لاكتساب المعرفة وتفرضها عليهم كنظام معرفي). لذا فحين انتقد العقل العربي الذي انتقده الجابري فأنا لا أشتم العروب’ أو أنتقص من الاسلام وأنجازاته الفكرية والمعرفي, بل انتقد(بمعنى أشرح) طريقة تفكير الكثير من الكتاب و(المفكرين ) العرب التي لا تختلف كثيرا عن طريقة تفكير العراقي او العربي المسلم تحت حكم العباسيين.والملاحظ أن معظم الكتابات الواهمة أو الموهومة تأتي ممن يعتنقون الاسلام السياسي وأستنباطاته المقدسة,أو من بواكي القومية المسيسة ، أو ايديولجيو الأممية المفلسة.

وعلى الرغم من التناقض بين الاسلاميين والقوميين والأمميين العرب إلا أنهم على ما يبدو يشتركون في طريقة تفكير واحدة ومنهجية أستدلالية واحدة. ويبدو ان بُنية العقل العربي الذي تشكل نتيجة التطورات التي حصلت في المشهد السياسي الاسلامي والمشهد الفكري العربي خلال القرون من الثاني الى الرابع للهجرة لا زالت هي الحاكمة والفارضة لسلطتها العقلية . وهذا يعبر عن هيمنة التاريخ على العقل العربي. يستند المنهج العلمي التجريبي الذي قاد التطور العلمي خلال القرون الثلاث الماضية إلى دراسة الظاهرة كما هي حالياً (أي الكشف عن قوانينها التركيبية ) انطلاقاً إلى كتابة تاريخها. وفي هذا المنهج جانبان : الجانب الذي يخص حاضر الظاهرة أي قوانينها التركيبية وهذا ينتمي للعلم … والجانب الذي يختص بتاريخ الظاهرة وهو ينتمي الى الفلسفة والايدلوجيا ، لا إلى العلم. ويلاحظ أن معظم كُتابنا المؤدلجين (اسلاموياً أو قومياً أو أممياً ) يحاولون اسقاط التاريخ على الحاضر بدلاً من استجلاء وتحليل الحاضر لكتابة التاريخ. واضح أننا أمام منهجين مختلفين تماماً. فالموضوعية تتطلب تحليل وقائع الحاضر للاستنتاج والتقييم ( منهج استقرائي Inductive approach) ) . أما المنهج الاستنباطي deductive approach والذي طالما برع به مفكرو , وفلاسفة العرب وفقهائهم, فيعتمد المقدمات الكلية للوصول إلى الحقائق الجزئية. وبذلك فإن العقل العربي يبدأ من مقدمة كلية تفترض مثلا أن الله عاقب الأمم الغابرة لظلمها,لذلك فما يحدث الآن هو عقاب الهي شبيه بالعقاب التاريخي المحتوم. أو أن الاتحاد السوفيتي كما يُعتقد أسقطته مؤامرة قادها غوربا تشوف ونفذها يلتسين(وليس بسبب اخطاء بنيوية ووظيفية كامنة في قلب النظام السوفيتي) لذا فإن أمريكا ستسقط بمؤامرة (مجهولة الهوية) يقودها ترامب كما حصل مع الدولة السفيتية العظمى!! وبدلاً من تحليل الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والعلمي الأمريكي تحليلاً علمياً لاستقراء النتائج وتعميمها (وهي قد تقودنا لذات النتيجة لكن بشروط البحث العلمي الموضوعي) تجد كتابنا يغرقون في البحث عن مقدمات تدعم افكارهم او تصوراتهم او احلامهم ثم يركبون هذه المقدمات على احداث الحاضر ويستنتجون ما يظنونه واقعة عملية!! وعندما يقوم الباحث باسقاط امنياته و أحلامه على قلمه وافكاره ، تتحدث آنذاك الأحلام بدلاً من ان تتحدث الأقلام.

العلم ليس فيه حتميات سواء كانت هذه الحتميات حاضرة او تاريخية. فمنطق العلم منطق تجريبي تشكيكي وهذا ينطبق على العلوم الأجتماعية مثلما ينطبق على العلوم الطبيعية. لذلك فالاستسلام لأوهام الحتميات: الغيبية او القومية او التاريخية فيما يخص الواقع الانساني ينتج عقلا مستسلما وجبريا بدلاً من أن يكون عقلاً منطلقاً وأبداعياً. والعقول الجبرية مغرمة بالتفسيرات الغيبية المؤامراتية وكافرة بالتفسيرات التجريبية العلمية.