لا تشكل نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية/ 2018 منعطفا حاسما في تحول الوعي العراقي صوب التغير عبر ايجاد اصطفافات سياسية جديدة تقطع الصلة بالموروث السابق, ولكنها أشرت الى وجود اختمارات لبدائل لم ترتقي الى حجم أزمة الحكم القائمة وتداعياتها خلال عقد ونصف من الزمن. أي أن الوعي البديل والمنظم أو ما يسمى بالعوامل الموضوعية والتي تجسدها المعارضة ومستوى التنظيم الجماهيري والفكري لم يكن بحجم الازمة العامة لنظام الحكم والتي تعصف في البلاد, والتي شكلت أبرز ملامحها: الفساد الاداري والمالي والسياسي والاخلاقي, وانهيار البنية التحتية الاقتصادية ـ الاحتماعية للدولة العراقية والانتقال العنيف الى الهويات الفرعية والتمترس في الحدود الأثنوطائفية والمذهبية وأحلالها بديلا عن قيم المواطنة, مما ادخل العراق في ديمومة التشظي والارهاب وأحلال لغة السلاح والتهديد بديلا عن لغة الحوار, وتقهقر الحياة المدنية بالعودة الى قيم العشيرة والقبيلة البالية.
تشير نتائج الانتخابات الى عودة الطاقم القديم والمسبب للأزمة في غالبيته, وكان حضوره في نتائج الانتخابات يتراوح بين 80 ـ 90 %, وأن القوى الجديدة تشكل ما نسبته 10 ـ 20 %, وهي قوى متناثرة من اقصاه الى اقصاه وذات تباينات برنامجية وانتمائية مختلفة يضع بعضها اضداد للبعض. كما أن قوى المقاطعة للانتخابات ألقت بظلالها وتأثيراتها المتشعبة على العملية السياسية بصورة عامة وعلى الانتخابات بشكل خاص, في الشطر الأول عبرت عن رفضها العملية السياسية برمتها, بأسسها القانونية والدستورية وملابساتها التأسيسية من قانون انتخابات وقانون احزاب وداعية اعادة النظر فيها” بأستثناء جزء مهمش يعمل على قاعدة نسف كل شيء مقابل لا شيء. وفي الشطر الثاني فقد تراوحت نسبة المقاطعة للانتخابات بين 55 ـ 75% حسب ما يقابلها من نسبة في المشاركة في الانتخابات, فالمعلومات الرسمية تقول أن نسبة المشاركة بلغت 44.5%, وهناك من يؤكد ان المساهمةتراوحت بين 20 ـ 25%.
هذه المقاطعة أضفت على العملية الانتخابية سمة ” مبايعة الأتباع “, فكل ذهب لأنتخاب حزبه او تحالفه أو عشيرته, أي لم يذهب شعبا للأنتخاب في حراك اجتماعي شامل يجسد ارادة التغير الجذري ويعبر عن الطموح الشامل نحو الافضل, وقد ساهمت في الانتخابات شرائح اجتماعية وافرادا مستقلين يحدوهم الأمل في التغير. كما أن غياب الأطر التنظيمية والمعرفية الجامعة لقوى المقاطعة لم يضعها في مستوى المقتدر على احلال بديل الأغلبية عبر المساهمة المباشرة من خلال صناديق الاقتراع, فجزء من قوى المقاطعة يمتلك رؤى واضحة لما يفعله, والآخر يعكس حالة الإحجام على خلفية أثر صدمة الحكم وأزمته المستعصية. وهكذا كانت المقاطعة والمشاركة تعبير شديد عن الأمل في التغير نحو الأفضل برؤى مختلفة.
أن الانتقال من الدعاية الانتخابية التي أتسمت بالشحن الانفعالي الشديد ودغدغة عواطف الناخب بأفراط وعرض سوبرماني في القدرات والامكانيات لوضع الحلول والقدرات الخارقة في اصلاح ما فسد, الى مرحلة ما بعد الانتخابات للبحث عن حلفاء, هو انتقال من لغة الانفعال الى لغة العقل والممكنات وان كان الانفعال لازما للعقل لتأمين طاقة معقولة من العمل الفكري, ولكن لا ننسى ان الفرد العراقي الذي تأثر بالدعاية الانتخابية وفي مجتمع لازال يبحث عن الحاجات الاساسية ذات الطابع البيولوجي ” الأمن والغذاء ” يبقى منفعلا لتلبية حاجاته بعد عقد ونصف من الحرمان, وتجعله منتظرا لحكومة قادمة ستحل كل اشكالاته منذ الوهلة الاولى لتشكيلها, مما يشكل تهديدا مبكرا لأفضل حكومة ” إن صح ذلك ” قادمة في ظروف العراق, عابرة للطائفية والمحاصصة, وطنية الانتماء والتوجه, تستند الى التكنوقراط في أدائها وتمتلك برنامجا تكامليا ومفصليا لمعالجة الازمة. أن أي حكومة قادمة مهما كان لونها وشكلها ستصتدم بمهمات عضال, أبرزها بأختصار شديد:
ـ نسبة البطالة في المجتمع 31%
ـ مستوى خط الفقر اكثر من 35%
ـ أكثر من 5 ملايين طفل يتيم
ـ أكثر من 2 مليون أمرأة أرملة
ـ تراجع مساحة الاراضي الزراعية من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم
ـ أنتشار الحشيشة والمخدرات وتعاطيها بنسبة 6%
ـ اعداد النازحين والمهجرين داخل العراق وخارجه بلغ 7 ملايين ونصف
ـ الأمية المتفشية على نطاق واسع حيث بلغ عددها 6 ملايين
ـ استيراد 70% من احتياجات العراق من المواد الغذائية و 91% من الاحتياجات الاخرى
ـ توقف ما يقارب 13500 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية
ـ تردي قطاع الخدمات وتدهوره المستمر, من صحة وتعليم وماء وكهرباء وعموم الخدمات الاجتماعية.
هذه المؤشرات غيض من فيض في بلد بلغت وارداته النفطية للفترة 2003 ـ 2016 أكثر من 1000 مليار دولار, ويتصدر الآن دول العالم في الفساد المالي والأداري.
أن اول ألتماس لآفاق التغير في العراق ستجد تعبيرها في صدق الحكومة القادمة ومدى نبذها للمحاصصة هو الموقف من الرئاسات الثلاث وأسس اسنادها: رئيس الجمهورية ونوابه, رئيس البرلمان ونوابه, رئيس الوزراء وأسس اختياره وكذلك أسس توزيع الحقائب الوزارية.
أن حجم الكارثة في العراق قد يضع سائرون ” الفائز الأكبر ” بمكوناتها الاساسية ذات الصبغة الاجتماعية اليساروية, اذا توفرت لها فرصة تشكيل الحكومة, في موقف حرج قياسا بطموحاتها الانتخابية, وقد يفقدها زخمها الجماهيري الناقم على الفساد والذي حصلت عليه في حراكها الاجتماعي الممتد لسنوات خلت, وقد يفقدها كذلك تعاطف قوى المقاطعة للانتخابات. أن بقاء سائرون في المعارضة مدعوما من قوى المقاطعين والزخم الشعبي الذي تتمتع به سيضعها في موقع حكومة الظل القوية لمراقبة الآداء الحكومي والبرلماني, ويمهد لرسم استراتيجيات طويلة الأمد لأنتشال العراق من مستنقع التخلف الاقتصادي والاجتماعي والفساد, ويوفر فرصا افضل لأعادة بناء العملية السياسية, وهو افضل بكثير من الوقوع بتحالفات تقود الى المحاصصة في النتيجة النهائية, وتبقى سقطة الشاطر بألف !!!.