23 ديسمبر، 2024 11:39 ص

في مضارب بوذا وما حولها -1

في مضارب بوذا وما حولها -1

لم يسجل لنا التاريخ وصفا دقيقا أو يقترب من الدقة لمسيرة بوذا منذ أن هجر عيشة الرغد التي كان يحياها كأمير الى عيشة الزهد، بحثا عن الحقيقة ليدرك التنوير ويتحول من سيدارتها غوتاما الى بوذا”المستنير” حوالي 500ق.م، وكل ما سجل هو تتبع ما جاء في الكتاب البوذي المقدس “تراي بيتكا” أي السلال الثلاث، وخاصة في السلة الأولى، وكذلك ما كتبه مريدوه أو أتباعه…وهذا ما يفسر تعدد المواضع الجغرافية وتنائيها على مساحة واسعة من شمال شبه القارة الهندية، كموضع الإستنارة حيث هناك في مقاطعة بيهار الهنديه شجرة التنوير وهي الشجرة التي تنور في ظلها بوذا في بوذغاياThe Bodhi treeBodhgaya، وهناك في بوكاراPokhara النيبالية حيث أقيم في مكان شجرة التنوير معبد من قبل الهيئة البوذية اليابانية على قمة أحد الجبال المحيطة بالمدينة! بينما ما زال مسقط رأسه بل حجرة ولادته في حدائق لمبيني Lumbini gardensعلى الحدود النيبالية الهندية شاهدا أكيدا ومحجا لأتباع البوذية والهندوسية والسائحين من مختلف أصقاع العالم لاسيما اليابان وكوريا والصين…
نحن الآن أربعة (زوجان) في مدينة أورانغ آباد ذات التاريخ الأسلامي المغولي العريق، والشهر  هو مايس/ آيار، استأجرنا سيارة صغيرة، متجهين الى كهوف آجنتا البوذيةAjanta caves الشهيرة وأيلوراEllora caves، المختلطة بين الهندوسية والجاينية والبوذية،،والشمس الهندية تزداد حرارتها كلمت اقتربنا من الظهيرة، ولم تعد المكيفة الصغيرة تقاوم الحر، علينا أن نقطع قرابة 105كم شمالا نحو هدفنا، الطريق متفاوت الجودة بين طسات وحفر في تبليط فقير وبين الجيد نسبيا، والمناظر هي الأخرى بين الخضرة المنعشة للنفس والعين وبين مناظر جرداء أو زراعية ومنازل ريفية فقيرة تشبه ريف الجنوب العراقيخاصة عندما يلوح نخيل جوز الهند مستوحشا نائيا! سائقنا هذا المرة تعمدنا أن يكون هندوسيا، ولهذا الاختيار ما يبرره، فعندما حططنا الرحال في حيدرآباد استأجرنا لدى “ألطاف” سيارة بسائقها، لزيارة معالم المدينة، وقد اتفقنا على ست نقاط سياحية لنهار كامل، ولكوني قد زرت المدينة سابقا بحكم زياراتي المتكررة للهند مما جعلني “منتخبا”لتولي قيادة الرحلة فاتفقنا على المواقع التي سنزورها، جاء السائق “مرزة” في الصباح في الموعد، رجل بلحية كثة وبملابس “سلفية” وبدأ يحذف معبد برلا مندير من القائمة مستنكرا: كيف للمسلمين أن يزورا معابد هندوسية وبوذية؟ كادت أن تنشب مشادة تداركناها مضطرين، وهنا لا بد من ذكر أن كثيرا من السواق الذين واجهناهم في الهند والنيبال يتكلمون أو يرطنون العربية بحكم عملهم السابق في دول الخليج.. وفي حيدرأباد ذات الغالبية الإسلامية (60% مسلمون) يدرك الزائر بسهولة الحساسية الموجودة بين الهندوس والمسلمين، ففي كل مرة يوصلنا سائق تكسي الى الأوتيل يسأل مستنكراعلى طريقة “مرزة” صاحبنا: كيف لكم كمسلمين أن تسكنوا في اوتيل أصحابه كفار؟!! وحيدرآباد مدينة ذات طابع إسلامي ومازالت المعالم الإسلامية شاخصة للعيان، مثل المنائر الأربع في وسط المدينة”جهارمنار” والمساجد التأريخية، والأسواق القديمة والقلاع التأريخية لاسيما قلعة غولوكندا التي شيدها الملك محمد قطب شاه -مكان قلعة قديمة- والتي تبهر الزائر بتصميمها المعماري الضخم وحدائقها بمسجدهاالكبير ومعبدهاالهندوسي، وزرنا قصر سالار جنغ المدهش للسلالة الملكية الحاكمة آخر ملوكها يحمل الرقم 8 وقد تنازل عن العرش والغيت الملكيةعام 1971 وحول القصر الى متحف مدهش، وأجمل مافيه جناح السيارات النادرة. إنها باختصار مدينة متكاملة تعج بالنشاط والحركة! ولمدينة حيدرآباد فضل على الثقافة العربية الإسلامية فبمطابعها الحجرية القديمة طبعت في بداية القرن الماضي أمهات المخطوطات العربية…ولا نريد الاستغراق في معالم المدينة ولكن من الضروري أن نتوقف مع قصة التمثال العملاق لبوذا! يعد تمثال بوذا من أكبر التماثيل طرا، فارتفاعه 17.5 مترا ووزنه 350 طنا من الحجر على هيئة مسلة monolithوقد بُدأ بإنشائه عام 1985م في منطقة ريجر التي تبعد 50 كم عن المدينة، وتم إنجازه في عام 1990 ليتم نقله في قارب من المرسى في بحيرة حسين ساغار الى مكانه المخصص بجدار السد، وعند النقل حصل مالم يكن في الحسبان، غرِق القارب بما حمل ليستقر التمثال في قاع البحيرة ويُغرقَ معه ثمانية من العمال.. وبقي في القاع سنتين،دارت حينها حكايات عن الحكمة الإلهية في إغراقه! ثم أعيد نصبه وسط البحيرة عام 1992 ما يصعب رؤية ملامحه من الكورنيش إلا بالتلسكوب أو ركوب القارب السياحي لمشاهدته.
وصلنا الى أجنتا عند الظهر تقريبا، وتركنا السائق ليعود الينا بعد ثلاثة ساعات كافية لزيارة الكهوف، تبدو القرية حديثة ومنظمة فيها بعض المقاهي والمطاعم الصغيرة، وأكشاك انتظمت في سوق لبيع مشغولات يدوية وتَذكارات خاصة في القرية، وقد كان خروج الباعة من محلاتهم يستحثوننا للشراء أو للجلوس في المقاهي أمرأ يدعو على الإشفاق والإزعاج معا، أما المتسولون فلهم حكاية أخرى في الهند، فالتسول فن قائم بذاته، وكل المتسولين عجائزَ وأطفالا يجيدون الإنكليزية أكثر من غيرهم بفعل الممارسة! ما زالت الكهوف بعيدة بمسافة 2كم، ما استدعى ركوب حافلات سياحية…
أول ما يسترعي انتباه الزائر الأجنبي هو رسوم الدخول المرتفعة نسبيا فهي تعادل عشرة أضعاف أو أكثر رسوم المواطن الهندي، فلئن يدفع الأجنبي 250 روبية(الدولار 52 روبية) يدفع ابن البلد عشرين روبية..وإذا استأجر دليلا سيكون الأمر باهضا نسبيا، وللعاجزين عن المشي أو صعود التلال الصخرية يمكن تأجير كرسي يرفعه أربعة حمالين غلاظ لقاء أجر غليظ! ينزل المرؤ منخفضا حيث هناك شجرة عملاقة بنيت تحتها دكة دائرية تسمى بالهنديةchautra ليرتاح عندها الزائرون بناها رجل محسن مسلم في نهاية الثلاثينات تحمل اسمه، ومشاهدة مثل هذه الدكاك مألوفة في الهند والنيبال.
 تشكل التلال الصخرية التي قدت هذه الكهوف في جانب منحدرها الداخلي الحاد شكل حدوة فرس حيث يحيطها من الخلف نهر بالشكل ذاته وهو نهر واغور وفي الوسط غابة، مما جعلها مخفية للرائي، وهذا شأن دور العبادة للأديان في بواكير انطلاقها فهي إما معزولة للتقية أو أحيانا كثيرة في المرتفعات والشواهق لابتعادها عن السيول وكذلك تعزيزا لمبدأ الأجر على قدر المشقة كما هي عادة بوذيي التبت وسيكيم وبوتان. يبلغ عدد الكهوف30ثلاثين، قدت داخل هذه التلال وسهل قدها هو الطبيعة الجيولوجية الصخرية الرمليةsandstone التي تتسم بالمتانة ومقاومة عالية لعوامل الزمن وسهولة النحت والتشكيل، وهذه المادة لعبت دورا كبيرا في بناء المنازل والمعابد والكنائس منذ العصور القديمة. دار نقاش وآراء مختلفة عن زمن تشييدها حسمه أخيرا عالم الآثار ولتر سبنك فحدد تاريخها بالفترة المتراوحة بين القرن الثاني ق.م للطور الأول، وبحدود القرن الخامس الميلادي للطور الثاني،،، في عام 1983 تبنتها منظمة اليونسكو كإحدى محفوظات التراث العالمي.
واكتشافها كان محظ صدفة، في عام 1819 كان الحكام العسكريي الإنكليزي لمنطقة مدراس جون سمث في حفلة صيد، يلاحق طرائده حتى قادته أحدى الطرائد خارج الغابة نحو التلال، فدهش لما رأى من كهوف مهجورة تنطوي على معابد بل كنوز من اللوحات والتماثيل وهياكل العبادة وغرف وصالات مدهشة! كانت مصممة لاستقبال المتعبدين والكهنة المتبتلين والدارسين وللعيش أيضا. ووفق الرحالة زوانزنغ الذي زارها في القرن السابع الميلادي: كانت عامرة بساكنيها ومرتاديها من الطلاب الذين كانوا يدرسون الفلسفة البوذية والمنطق…رقّمت هذه الكهوف من 1 الى 28 وفق تتابعها الزماني لا المكاني، لذا لا يجد الزائر تتابعا متسلسلا للأرقام المرقونة على أبوابها.فالكهوف ذات الأرقام8و 9و10و12و13هي كهوف المرحلة الأولى بين 100ق.م-100ب.م وهي مرحلة هنايانا “المرحلة الأقدم في البوذية والمتبعة في سريلانكا، ومينمار وتايلند وكمبوديا ولاوس، وما تبقى فهو للمرحلة الثانية مهايانا في الصين وكوريا واليابان حيث بوذية القرن الخامس الميلادي.(لمعرفة المزيد عن البوذية ومذاهبها راجع لكاتب هذه السطور:تأثيرات هندوبوذية في الفلسفة الصوفية، نشر في عدة مواقع).
الرسوم على الجدران أعطت فكرة جيدة عن تطور الرسم والأصباغ المستعملة حيث استعمل تكنيك الفريسكو frescoالمعتمد على خلط البلاستر(الجص) مع الغراء النباتي والحيواني ليجعل الأصباغ قابلة للالتصاق على الجدران وأكثر مقاومة للتأكسد (يمنع التصوير بالفلاش) والمدهش إنها نفس التقنية التي استخدمت في رسومات جدران الكنائس القديمة.
ومن ناحية المعمار الداخلي فقد استخدمت الحُجر بمختلف المساحات، وأعمدة منقوشة بمختلف النقوش ، أما أماكن العبادة سبودا فمثلت نمطين  مازالا شائعين لمرحلتين زمنيتين وفق المذهبين الهناياني  عدده خمسة حيث نمط chaityasوتكون الحجرة الداخلية مخروطية حيث يحفظ فيها رماد كبار الكهنة، وتمارس فيها الرياضة الروحية،أما ال25 الباقية فتكون على نظامviharas الذي يمثل المرحلة المتأخرة..يتطلب زيارة كل كهف 10 دقائق أو اكثر ومع حرارة الشمس وانعكاسها على الصخور والتعب توقفنا عند الكهف 20 ولم نستطع مواصلة زيارة الكهوف الأخرى وقد أمضينا قرابة ساعتين أمضينا الوقت الباقي في المقهى بانتظار سائقنا ليأخذنا الى كهوف ايلورا…