18 ديسمبر، 2024 5:45 م

في لقاء رمضان ،،، نفسُك أهلكتكَ فلا تهلكها

في لقاء رمضان ،،، نفسُك أهلكتكَ فلا تهلكها

لايمكن ان يطل علينا رمضان المبارك دون ان نتوقف عنده في اولى جمعاته ، و أبرك لحظاته وقد جمعت لنا بركة غرة رمضان وسويعات الجمعة الدائمة البركة والإحسان ،
وأول داع ياتيك في رمضان هو داعي التوقف عن الملذات والشهوات ، والفرق هنا -واذ الشهوات لها داع في كل حين – ان رمضان يدعونا الى كبح الملذات الحلال والشهوات الاصيلة في الاجسام من طعام وشراب وثرثرة وترفيه ، وصحبة اقران الى ما لا نفع فيه. ثم داعي الجد في الالتزام بما صغر من حلال وحرام ، والانشغال بالتعبد عن غيره من شواغل الدنيا الكثيرة مما لاوزن له يوم العرض والحساب ،
ومع اول داع ، يلوح و يلح على النفس اول هاجس أن كيف ستلبي حاجتها من تلك المتطلبات والمعتاد من الاحتياجات ، وها قد وضعت دون رغباتها الحواجز وقبل نيل شهواتها العقبات ، فإذا كان ساعدها تصفيد الشياطين عن الوسوسة بالمحرمات فكيف بها مع الطيبات ، وهنا ياتي دورك ودور عزيمتك وعقلك وإيمانك ، ودور رد الصفعة للنفس ولجمها وتعويدها على الحرمان ، وتربيتها ووقفها عن التحرر والانفلات والطغيان،
أما وان نفسك قد جرُتك قديما الى طاعتها في الطيبات ثم الى إغرائك بصغار المعاصي ثم ألى كبار الذنوب ، فكانت نفسا امارة بالسوء -إلا مارحم ربي- وصارت نفسا تعين شيطانك عليك فاتخذتك منشبا وجعلتك مطلبا ، وزادت من جراءتك وتمردك على الله خالقك وبارئك العظيم ،
ولست الوم على الإمام الغزالي رحمه الله ان روى في “إحيائه” حديث النبي عليه الصلاة والسلام الصحيح “إن الشيطان يجري من بن آدم مجرى الدم” بزيادة [فضيّقوا عليه مجاريه بالجوع] وقد كنت قرأته يافعا لا افقه شيئا من مسانيد الحديث ومراتبه بعد ، فصدقته وجعلته عندي “صحيحا” لما لذلك من علاقة فعلية بين شهوات النفس واولها شهوة البطن وبين الشيطان ، حتى علمت بعد ذلك من أهل العلم والرواية ان الزيادة من الراوي ، وان النبي صلوات ربي عليه ماثبت عنه ذلك وان الامام الغزالي كانت “بضاعته في الحديث مسجاة” كما قال هو عن نفسه غفر الله له ، ولكن ألم يقل سلام الله عليه في حديث للترمذي “حسن” :” ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه” ومنه “بحسب ابن آدم لقيمات يقمن اوده فان كان ولابد فثلث للطعام ،،،،،الى آخر اللفظ الشريف” الذي يروى ان عالما غربيا سمعه فقال :هذه اصول الطب.
فإذن هذا أوان الثأر والتربية والتأديب ، وتلك هي فرصة التنبيه والتهذيب ، وهذه ايام الشدة والترهيب ، فإن النفس إما ان تعينك أو تعين الشيطان عليك ، ولما عز على احد كتبة المصاحف الأعلام الرجل الصالح مالك بن دينار “البصري” شراء حبة الفاكهة التي طلبتها نفسه يوما في حادثة تحرير العبد -الشهيرة-بعربة تين ، بعد ان اخبر الناسُ البائع المتمنع ان المتعسر عن الشراء هو الإمام التابعي مالك بن دينار ، أقسم هذا الأخير على نفسه التي أذلته من اجل شهوة ان لايذيقها التين ما دام حيا رادا العبد وهدية سيده وشرط تحريره على مضض وهو يقول :”إذا كان في هذه العربة عتقك فإن فيها عبوديتي” ، فعد الى سيدك ،، وطفق منشدا :
إني بليت بأربع ما سلطوا ،،،،،إلا لأجل شقاوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ،،،،كيف الخلاص وكلهم أعدائي
إبليس يسلك بي طريق مهالكي ،،،، والنفس تأمرني بكل بلائي
وأرى الهوى تدعو إليه خواطري ،،،،، في ظلمة الشبهات والآراء
وزخارف الدنيا تقول أما ترى ،،،،حسني وفخر ملابسي وبهائي
انتهى
وقد احسن وأرشد ونصح والله ، “فالعبد حر ماقنع والحر عبد ماطمع” وهذا الذي جاء في مثل سياقه مانسب الى الامام الشافعي رحمه الله من بعده:
إني بليت بأربع يرمينني ،،،، بالنبل قد نصبوا علي شراكا
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ،،،، من أين أرجو بينهن فكاكا
فنفسك الأمارة صنو الشيطان فإن سايرت طلباتها لن توقفك عند حد ، وان الجمتها سكنت دون جدال او رد ، فيقول الإمام البوصيري رحمه الله في ذلك في بردته المباركة :
والنفسُ كالطفلِ إن تهملهُ شَبَّ على ،،،، حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
فما اطاع ابن آدم بعد الشيطان شيئا شرا من نفسه العاصية الامارة بالهوى ، فسُدَّ عليها الطريق واوقف عنها مصادر التمادي وانهرها ان تخوض مع الخائضين وان تتبع المفسدين ، وقبل ذلك كله هذّبها في الحلال والحرام من امر الدين ، ومن قبل درّبها على القناعة والرضا بما قل وجنّبها سبل الشراهة واحملها على انوار الهدى والنباهة ، واول ذلك التوسط في الشراب والطعام ، وآوسطه ترك المعاصي والذنوب والآثام ، وصولا الى اليقين بالآخرة ولقاء رب الأكوان والانام ، فانك ان تركت نفسك اغرت بك وسلمتك ، وان نهرتها أطاعتك وسمعتك ،
فالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها ،،،،، و إِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ
فاحملها وأدبها ودربها حتى ترتفع بها من نفس امارة بالسوء الى نفس لوامة على الذنب -كما يصور علماؤنا السالفون- فترقى بها من نفس ذمها الله تعالى الى نفس اقسم جل جلاله بها ورفع شانها في كتابه الكريم :﴿وَلَآ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ﴾ يقول مجاهد في ذلك: “هي التي تلوم على ما فات وتندم ، فتلوم نفسها على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لا تستكثر منه” ،
وبعد فهذا رمضان سبيل صد النفس عن الهوى ونافذة لجمها عن الغوى ومُعين صاحبها على تهذيبها ، وبادرة الرجل الكيّس الى إدانتها وتدريبها ، فان كانت نفسك قد اهلكتك في سالف الايام والسنين ، فلا تهلكها بالمجاراة والتمادي فتذهب بها وبك الى مهاوي العذاب ، ومنقلب الحساب وسوء العاقبة والعقاب ، فالنفس لا عقل لها إذ اهلكتك بالرغبات ، فأنت صاحب العقل والحكمة فإياك أن تتبعها بالتلبية فتهلكها بالملهيات ، بل اعصها واحملها على الصالحات المنجيات، والحمد لله رب العالمين.
أدهم الشبيب 24 آذار 2023.