وقف شامخًا منذ الأزل سبقَ الزمن في وجود الزمن ، على مستوى واحدٍ من الجميع أمامَ حشودِ الملايين ، فهوتْ أفئدتُهم إليه لسانُ حالهِا مرتلاً
( حبُّ الحسين أجنني ) ، في ظاهرة هذا الحب يتساوى الجميع لا ألقابَ ولا مميزات لا أسماء ولا علامات كلُّها تذوب في بعضها البعض ليتجرد منها لقبٌ واحد أو مسمىً واحدٌ فحسب ، له السيادةُ على الجميع إنه ( مجنون الحسين ) ، وفي أول نظرةٍ لهذه الظاهرة الفريدة يتبادر إلى الذهن أنه ما سرُّ هذا الحب ، مَن هو الذي ألهب شعورَهم وأنساهم وجدانَهم ، وذوَّب الأنا في كيان الجماعة ؟ .
تماشيًا مع هذه الظاهرة فقد ذكر الإمام السجاد ( عليه السلام ) في موقفه أمام يزيد مختصاتِ أهلِ بيتِ النبوة قائلا: (( أيها الناس أُعطينا ستًا وفُضِلنا بسبع: أُعطينا العلمَ، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبةَ في قلوب المؤمنين… )) بحار الأنوار، ولعلّ التركيز على كلمة ( المؤمنين ) يزيدُ المشهدَ تعقيدًا إذ يُشعرُ خلافَ كون حبُّ الحسين لجميع الناس ، وهو ما نلمسه اليوم بوضوح في ظاهرةِ الحبِّ الحسيني بعد هذه الحشود المليونية ، ويبدو لي أن التأملَ في دلالة هذه الكلمة أعني (المؤمنين) هو مفتاح هذا اللغز؛ فهي بحسب فهمي لاتعني دلالة ( المؤمن) المقابلة لدلالة كلمة ( الكافر) ، بقدر ما توحي بمعنى الإيمان الممتزج بهذه الذوات وهو في متناولِ جميع مَن أحبَ الحسين ، فمحبةُ أهل البيت ومنهم الحسين هي أولى درجاتِ هذا الإيمان التي تشرعُ البابَ للولوج إلى العالم الإنساني لأن الإيمان درجاتٌ ؛ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ … )) [النساء: 136] ، وبحسب هذا الإيمان فكلُّ مَن أحبَ الحسين يُعطى فرصةَ الالتحاقِ بقافلة العشقِ الإلهي والانتماءِ إلى دائرة نصرةِ الحقِ ، وهي فرصةٌ مواتيةٌ لكلِّ مَن أحبه ، إلاّ أنّ الأهمَ هو ما بعد هذا الحب، هل سيرتقي بصاحبِه في سلَّم الإيمان أم سيتخلفُ عنه فيعود كما كان ؟
وإذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ((حسينٌ مني وأنا من حسين. أحبَ اللهُ من أحبَّ حسينًا.)) العمدة ، وهو ما يعني أن حبَّ الحسين هو حبُ الله ، وحبُّ اللهِ لايتحققُ إلاّ باتِّباع رسولِه بحسب دلالة قوله تعالى :(( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) [النساء: 136] إذن حبُّ الحسين أيضًا لايتحققُ إلاّ باتباع رسوله وإلا سيكون حبًّا من طرفٍ واحد، كلُّ مخالفةٍ لمبادئ الحسين وقيمه سوف تخلُّ بالاتِّباع التي من شأنها أن تُزيفَ هذا الحبِّ المقدس .
إن الجنونَ – اليوم – في الحبِّ الحسيني يصيره حبًا من طرفٍ واحد وهو ما لايريده الحسين ، في حين أن الحبَّ الحقيقي له هو حبُّ الاتِّباع والتفاعلِ حبُّ الأخذِ والعطاء ، حبٌّ متبادلٌ من طرفي العاشق والمعشوق ، العاشقُ يحبُّ فيتبع والمعشوقُ يحبُّ فيرفع ، فعلى مَن يدَّعي حبَّ الحسين اتباعَ نهجه والسعيَ الحثيثَ لتطبيقِ مبادئه التي استُشهِد من أجلِها ، دينِ الله ورسالتِه فنعم العاشقُ والمعشوق ، ولولا تضحيته لأضحى دينُنا ممسوخًا فارغًا من كلِّ القيم التي تحترم الإنسانَ في وجوده ، هذا هو معنى الحب الحسيني الذي منحنا الحياة بعد أن أُريد لنا أن نكونَ في طابور الموتى ، إذ لا معنىً لحياةٍ تخلو من احترام الإنسان لذاته ، وهو بهذه الصورة يستوي فيها مع الدَّوابِّ بكلِّ أطيافها بحسب قانون الغاب ، و لامعنى لحياةٍ ليس فيها الحسين ، لقد وهب الحسين كلَّ ما يملك فأعطاه الله كلَّ ما يريد ولايريدُ الحسين سوى حياةَ النفوس قبل أن تموت القلوب .