23 ديسمبر، 2024 12:30 ص

في عزاء الغايات السياسية .. الإنتخابات صورة لضوء خلف ستار

في عزاء الغايات السياسية .. الإنتخابات صورة لضوء خلف ستار

بعد انتهاء مرحلة الصنمية في العراق عام 2003 بكل مافيها من ضخامة الدجل والدلالات السياسية المزيفة وتسيّد المصفقين لها من سياسيين وأدباء وفنانين وشرائحسفسطائية اخرى كثيرة كانت تبارك كل مايتعلق بتلك الدلالات الناجمة عن ادارة السياسة الخارجية والداخليةللبلاد بما فيها السياقات الخاصة بعمل المؤسسات الحكومية واعتبارها قسرآ نموذجية , على الرغم من المحددات التي وضعت لنشاطها بمايشبه العلامات المرورية من قبل قادة تلك المرحلة ,

وبدلا من قيام القوى السياسية الجديدة بتهشيم كل تلكالقيم وآليات عمل افراد المجتمع التي كانت تجري بلا قيودحتى بلغت سن التخريب في الخفاء والعلن ومعها الافكار السياسية والقوانين التي صدرت بحقه التي علقت بالمواطن العراقي منذ 1968 ولغاية 2003 , مثلما تهشمت صور الطاغية واطيح بتمثاله ومعه جميع المصفقين من الدائرة القريبة والبعيدة ,

فقد ابقت هذه القوى , من ناحية , على العديد من القوانين والمصفقين وآليات الأعمال الفردية من دون تغيير او اصلاحليخلو المقام من السقام , ما يجعل ان يقال ان ذلك دلالة واضحة تقع على عاتق هذه القوى تلمح الى انها غير قادرة على انتاج رؤى سياسية تصحيحية لقيادة البلاد وخاصة في جانب النمو وتطوير المجتمع الذي التزمت عنه بالصمت احيانا وبالإغفال احيانآ اخرى ,

وفي ناحية اخرى اتخذت الموقف المضاد من المنتقدين الذين يرون ان العمل السياسي ينبغي ان يتبلور الى انجازات جديدة وملموسة تعبر عن الرؤى الصحيحة التي تبنتها هذه القوى في مرحلة نضالها للانتقال من الحكم القمعي الى الحكم الديمقراطي الحر الذي يشترط تقاليد فكرية تقوم على المراقبة والتحليل لتقود الى بناء المجتمع وإعادة اعتبارهفي حياة اكثر تطورآ ونموآ .

ومن ناحية اخرى ثالثة , ان هذا لايعني ان القوى الجديدة لاتمتلك جينآ وراثيآ واحدآ بينها يستوعب مايجري ليثور ويصنع فرقآ واضحآ في ادارة البنى السياسية الجديدة الخاصة بالقضاء مثلآ والواقع وتقاليده الاجتماعية التي تشكلت منذ قرون على الراديكالية والبراغماتية التي استغلها الغرب بقيادة امريكا لتأجيج  الفتن والإضطرابات للسيطرة على البلاد منذ 2003 ,

بل ان هذا الجين الوراثي موجود اذا لجأت هذه القوى الى تقبل منتقديها والشروع فورآ بإقامة البرامج الملموسة الخاصة بالدفاع عن مصالح الفرد على اسس دينية واخلاقية وسياسية واقتصادية لإنتشاله من آليات العمل والحياة اليومية المنفلته .

لذا فليس من قبيل المصادفة ان تتشكل مفاصل الحياة في العراق بعد 2003 بهذا الإرث الذي خلفته سياساتالحكومات غير المفوضة من شريعة بالأرض او سماء للحكممنذ الحقبة الأموية التي زرعت جذر الطائفية والنزاعات الداخلية والاختلافات العرقية وانتشرت كإنتشار القصب فوق ضفاف الأنهار , لأنها ابتعدت اولآ عن الدفاع عن مصالح الفرد واختلفت حتى عن فهم معتقداتها الدينية , وهذا ماجعلها اسيرة بذلك الجذر القديم ليتعبّد به الطريق ثانية وثالثة الى جيوش الغرب الغازية ,

حتى وصل الحال الآن ان يتقولب عقل الفرد في المجتمع العراقي الى التفكير بصناعة امبراطوريات مالية على غرار البعض من النخب السياسية الجديدة التى انشأت لها الامبراطوريات بأقل من خدمة الجندي الإحتياط في الجيش , وهذه القولبة العقلية اصبحت ازمة دفعت اغلبهم الى التهافت على الترشيح للإنتخابات المختلفة ليس لخدمة البلاد , بل لإحداث ثورة في حياتهم ليعيشوا جنبآ الى جنب مع الأباطرة الاغنياء لما توفره القوى المتسلطة على مفاصل الحياة من رعاية بلا مقاييس موضوعية وعلى حساب الشعب.

ولم يقتصر امر ذلك التفكير على النخب الاجتماعية الراقية كالاطباء والمهندسين واساتذة الجامعات ليتخذوا خيار الاشتراك بالانتخابات ليزدادوا درجات فوقية في مجتمعهم وخاصة من قبل الطفيليون التي صنعتهم الصدفة بالشهادات المزورة على السياسة بعد 2003 ,

بل تجاوز ذلك الى اصحاب المهن الصغيرة والمختلفة , فلو سلطنا ضوء مصباح على تلك المهن نجد انها فقدت الثقة بأرباح اعمالها لتلجأ الى التلاعب بالمعايير والقيم بحجج كثيرة بعد ان اضافوا اليها , بالآونة الاخيرة , حجة ارتفاع الدولار , اذ من المستحيل ان تجد سلعة في السوق قيل عنها اليوم بدينار وبالامس كانت بدينار وربع عندما تهبط قيمة الصرف للدولار المتحكم بالسوق ,

وهذا التفكير انتقل الى سوء الإدارة والتخطيط من قبل اصحاب المهن الأخرى لينشأوا مثلآ دكاكين لذبح وبيع الدجاج بأسوأ وابعد طريقة عن المعايير الصحية وعن انظار الجهات الصحية , لأن المعايير الصحية لمثل هذه المهنة تتطلب مراقبة صحية يومية وتأهيل لهذه الدكاكين لتمارس آلية ذبح صحية وإدارة حفظ وبيع نموذجية , فضلآ عن آليةرمي الفضلات في اماكن الطمر الصحية المخصصة بأشراف بلدية المحافظة ,

وهذا كله يتطلب اموال لايدفعها البائع بسبب الغفلة عن المحاسبة من جهات عديدة اولها الجهة الصحية , لذلك  وجد في هذه المهنة  الطريق الأسهل ليصبح غنيآ ومتفوقآ على اقرانه من ناحية اخرى , ولم يقتصر الأمر على هذا النوع من الباعة , بل انتقل الى البعض من اصحاب الصيدليات التي وجدت من مرضى مدينتهم الكنز الذي يدرّ عليهم بالاموال  وهم يعرفون جيدآ ان هؤلاء المرضى قد ابتلاهم الله ان يرافقوا امراضهم في كل مكان وهم في سن الشيخوخة وبرواتب ضئيلة خصصتها الدولة او من مساعدات رحيمة من العتبة الحسينية والعباسية ,

وعن مختبرات التحليلات المرضية فالحديث طويل , إذ لايوجدمن يراقب كل مايتعلق بها من اجهزة علمية وجودة تحليلاتها او يكبح ارتفاع اسعارها او يعرف اين يقذفون بفضلات معاملهم من العينات الطبية المنتزعة من ابدان المرضى ,فتُرك حبلها على الغارب , وخلاصة الامر ان المهن على اختلاف انواعها لاتقف على الدوام مع حاجة المواطن ,

بل ضده لانها خلقت لدى البعض نمط اللهاث وراء المالللتعامل مع الحياة اليومية بسبب غياب الوعي الذاتي لديهموشيوع السطحية الفكرية والمصلحة الفردية بينهم على حساب المصلحة العامة , وهو بحد ذاته اكبر تهديد للسلم المجتمعي , بينما تقف الجهات التنفيذية السياسية من دون استبصار على مايتولد من هذه اللامبالاة من مآسي في المستقبل .

بعد ضوء المصباح الذي سلطناه بشيء من الإختصار نستشف ان القوى السياسية لم تستشف ان العبث انتشرفي كل مكان بالبلاد والفلتان بالمعايير الذي لايختلف عن الفلتان بالأمن سيقفز يوما الى العبث في الحياة اليومية للمواطن وخاصة عندما تبتلع امواله بجشع متزايد من اولئك العابثين ليلوب الفرد من حيرته التي ستغدو كحيرة الشاعر الذي انشد : اعلى ياجسر ماشين تيهتوني ..

والجهات التنفيذية ساكتة , بل وتغض الطرف لتخالف غايتها المحددة وهي منع التأسيس الى اي سعي يدعو الى تخلخل القيم والمعايير الإنسانية , وان تتعامد مع اي نوع من هذه المساعي التخريبية كما تتعامد اعمدة الإنارةعلى الأرض من اجل طمأنة الشعب بشكل عام على انالطريق الذي يسير عليه آمن .

ومثلما اوضحنا عن سوء التصرف بالمهام من قبل الأغلبية من اصحاب المهن وتعارضها مع رؤية النخبة المثقفة من المجتمع , نجد من الضروري ان تلتفت القوى السياسية الى غاياتها السياسية وذلك بالتدخل في الصغيرة والكبيرة للهيمنة على العوامل والإرادات الفوضوية التي تتحكم بمصير الإنسان بشكل سلبي , تلك الإرادات التي تحفّز على إنحراف المجتمع عندما تفرض فترة طويلة من  دون رقيب جسور يميط اللثام عن مصائبها المُعَدّة للمستقبل .

بالتأكيد ان تقدير هذه المسؤولية واخضاع الواقع الاجتماعي الى إرادة وغايات القوى السياسية الإنسانيةلايقتصر عليها فحسب , بل على عاتق الجميع ابتداء من الجهة التنفيذية الأكبر وانتهاءً بالجهات التنفيذية الأصغر من خلال الزيارات الميدانية للأسواق والصيدليات والمختبرات للتأكد من تطبيق المعايير التي تطمح اليها تلك الجهات ,

لكن من دون ان ترتبط الغايات  بالقيود والضوابط الموضوعية, لايمكن ان تكون ادارة أي دولة ناجحة وخاصة من ناحية الخدمات وتنوع المشاريع المنفّذة , بل تصبح غايات ميتة إن لم تكن مريضة ومهددة للبلد بالإضمحلال على الرغم من قوة اقتصاده , وخاصة عندما يرى المرء حال المجتمع بهذه السلوكيات الفوضوية تزداد وبشكل متصاعد يومآ بعد يوم ,

وهنا ينبغي للحكومة ان لا تسوّغ لنفسها بان الإنتخابات تمثل الحل الأمثل للقضاء على الإختلالات التي تحدث في الحياة اليومية للمجتمع , وذلك من خلال انتخاب قيادات جديدة بالطرق الديمقراطية من ناحية وهي من ناحية اخرى لا تلتفت لتركز على تطوير وعي الفرد من الناحية العلمية والثقافية ودفعه الى ان يكون نقيآ في تعامله مع الشعب ,

وهذه الإلتفاتة هي غاية السياسة التي تبرر وجود رجالها , أما غاية الانتخابات التي تسوّغ الحلول مع بقاء جينيةالسطحية بالوعي الفردي كامنة بينهم , تكون الإنتخابات ليست سوى صورة لضوء خلف ستار فحسب , وهي بالحقيقة امتداد للعقول التي نصبت العزاء لغاياتها السياسية  المرفوضة ,  وتجارب الشعوب خير شاهد على ذلك , إذ يظل كل شيء جميل ورائه حتمآ وعي سياسي متميز , ويظل كل شيء قبيح ورائه حتمآ وعي سياسيسطحي اقبح .