لــقد أضــنانــي الــحنين الــى قــريــتي الــهويــدر وأشــتد بــي فــراقــهم ، وأنــا ألمــلم مــا تــبقى مــن صــحة وحــيل فــي تــحويــشة الـــعمر الآخـــيرة ، الـــذي أنـــهكته قـــساوة الـــغربـــة لاربـــعة عـــقود مـــضت تـــرجـــلت بـــها عـــدة محـــطات خـــوف ودول ومـــنافـــي ومـعارك وطـنية مـن أجـل الـعراق وأهـله ، وتحـملت هـول الـصدمـات ونـذالـة المـواقـف ولـغة الـنفاق ودسـائـس الـتشهير ثـمن لابــد مــن دفــعه بــالــوقــوف بــالــضد مــن تــيار الــنفاق والارتــزاق وبــيع أرض الــعراق الــوطــنية تــحت مــظلة شــراســة الــهجوم عـلى الـخصوم . طـيلة أربـعة عـقود تكحـلت عـيناي بـرؤيـة أهـلي ووطـني وقـريـتي ظـناً مـني أن الأمـر مـختلف هـذه المـرة عـــن المـــرات الـــسابـــقة الـــتي تســـللت بـــها الـــى الـــوطـــن عـــبر الـــجبل حـــامـــلاً مـــنشوراً ســـريـــاً وجـــريـــدة وبـــيان لـــلشيوعـــيين المـقطوعـين عـن الـصلة بحـزبـهم . هـذه المـرة وفـي زيـارتـي الاولـى مـطلع عـام ٢٠٠٤ بـعد أن أزاح الامـريـكان عـن صـدور الــعراقــيين كــابــوس مــخيف . وجــدت أهــلي ورفــاقــي وأصــدقــائــي مــا زالــوا يــتنعمون بــفرح رحــيل الــدكــتاتــوريــة ويحــلمون بــعراق مــختلف يــصونــهم ويــصونــه ويــتنعمون بــرغــد الــحياة الــطبيعية بــه ، لــكن المســتور والمــخفي ومــا خــطط لــه حــول
مصير العراق والعراقيين كانت تباشيره ترسم المجهول القادم من قتل وفساد وطائفية قل نظيرهما في الكون .
فـي الـسفرة الـثانـية ، كـانـت هـواجـسي مـختلفة ومـوجـعة بـدون إشـراقـة وحـنان أمـي ولا أخـوة غـدرهـم الـغادرون واولاد أخـــوة وخـــوات مـــاتـــوا فـــي ريـــعان شـــبابـــهم ولا رفـــاق واصـــدقـــاء رحـــولـــوا مـــبكراً بـــدون تـــلويـــحة وداع ، ســـأكـــتفي بـــزيـــارة قـبورهـم والـوقـوف عـند رؤوسـهم تـعبيراً عـن رضـاي عـنهم وأحـياء لـذكـراهـم . بـعد تـردد لـعدة سـنوات إجـتاحـني بـها الألـم والـتأنـيب قـررت أن أشـد رحـالـي الـى قـريـتي الـهويـدر وإعـادة مـا تـبقى مـن الـتقطير الاتـلافـي لـلذاكـرة ومـرابـع الـطفولـة وارهـاصـات الـصبا وبـنات الـجيران . وكـان آخـر عـنقود رحـل عـنا وودعـنا أبـن أخـي الـشهيد ” حـردان فـليح الـسعدي” والــذي شــكل رحــيلة غــصة كــبيرة فــي الــنفس ، بــقيت أيــام واقــفة فــي وســط الــبلعوم ومــن الــصعب بــلعها ومــن الاصــعب
تصديقها بسهولة وأنا أتهيأ في تدبير لوازم رحلتي الثانية الى بلدي العراق . وصــلت الــى مــطار بــغداد عــبر خــطوط الــطيران الــتركــي مــع أبــنتي بــيدر يــوم ١٠ كــانــون الــثانــي ٢٠٢٤ ، والــتي ولــدت فـي مـديـنة مـالمـو الـسويـديـة مـنذ ثـلاث عـقود وهـي الـتي تـلهج بـزيـارة الـعراق وأهـله ، وهـذه المـرة الأولـى لـها أن تتكحـل عينيها برؤية العراق وأهله .
فـي صـباح يـوم نـدي وطـأت قـدمـانـا أرض مـطار بـغداد وأنـا أفـصص خـرزات المسـبحة بـين يـدي قـلقاً عـلى عـراق قـديـم فـي الـقدم تـاريـخ وحـضارة وعـلم ، فـي لحـظتها داهـمني شـعور غـريـب عـن طـفولـة وذكـريـات وأصـدقـاء ، وأنـا أتـفحص جـــدران وحـــيطان أركـــان بـــنايـــة المـــطار الـــغابـــرة والمهـــترئـــة وصـــحيات ” تـــوالـــيت ”. مـــقرفـــة لاتـــليق فـــي بـــلد أســـمه الـــعراق
إحتياطاته من الموارد تفوق سكان العالم . والمطار واجهة البلد العلنية أمام زواره وضيوفه وأبناء بلده المغتربين . حســــب مــــوعــــد الــــطيران الــــتركــــي فــــي الهــــبوط بــــمطار بــــغداد ، كــــانــــو فــــي إنــــتظاري فــــي ســــاحــــة عــــباس أبــــن فــــرنــــاس الاصـدقـاء عـبد الـكريـم الـسعدي ” أبـو غـيث ” وهـو رفـيق وقـريـب وصـديـق قـديـم ، والاعـزاء نـزار وأحـمد أبـن رضـيعتي الـلذان ألـتقيهم لـلمرة الأولـى ، فـي خـلل لا نـعرف مـداه ، عـادت الـطيارة مـن أجـواء بـغداد الـى مـطار إسـطنبول ، كـما إعــلن عــبر مــكبرة الــصوت أحــد طــاقــم الــطائــرة مــما تــرك هــمس وحــديــث وتــذمــر بــين راكــبي الــطائــرة ، والــتي ضــاعــت عــلينا فــرصــة الــصباح فــي وجــوه إشــراقــة المســتقبلين . وبــعد عــدة ســاعــات عــادت بــنا الــطائــرة مــرة آخــرى الــى مــطار بـــغداد ، وضـــاعـــت عـــلينا فـــرصـــة الـــلقاء بمســـتقبلينا ، بـــعد أن تـــواصـــلت مـــعهم مـــن مـــطار إســـطنبول حـــول أشـــكالات الـــــرحـــــلة وعـــــودتـــــهم الـــــى قـــــريـــــة الـــــهويـــــدر . وطـــــلبت فـــــي المـــــرة الـــــثانـــــية مـــــن أبـــــن أخـــــتي أحـــــمد فـــــي الـــــقدوم الـــــى بـــــغداد لاسـتقبالـنا . بـعد أجـراءات طـبيعية فـي داخـل المـطار خـرجـنا مـنه بـشعور غـريـب ، ووصـلنا عـبر سـيارة الـتاكـسي الـى ســاحــة عــباس أبــن فــرنــاس وعــلى شــارعــها الــعام وإلــتقينا ب أحــمد أبــن أخــتي ونــقلنا بــسيارتــه الحــمراء الــى قــريــتي
الــهويــدر عــبر رحــلة ، كــانــت مــمتعة لــي فــي شــوارع بــغداد ولــفعني هــواءهــا المــنعش بــرفــقة ســلسلة ذكــريــات ومحــطات تــركــت أثــراً طــيباً فــي حــياتــي الــسابــقة . عــندمــا أقــتربــنا مــن نــخيل الــهويــدر بــطولــه الــشامــخ مــضى الــحنين بــي الــى نـــاســـها ودرابـــينها وفـــي دقـــائـــق مـــعدودة ، كـــنا أمـــام واجهـــت بـــيت أخـــتي أم مـــصطفى المـــنكوبـــة بـــرحـــيل أفـــذاذ كـــبدهـــا زوجـــها وأبـــنها وأخـــوتـــها وأولادهـــم . فـــي بـــيتها كـــان مـــوطـــن رحـــلتي الـــقصيرة ، ومـــنذ الـــساعـــات الأولـــى تـــقاطـــر عـــليه الاصـــدقـــاء والأهـــل بـــدفء الـــلقاء الـــذي طـــال وحـــوارات الـــغربـــة وأحـــوال الـــقريـــة ونـــاســـها . كـــانـــت ســـفرة رغـــم قـــصرهـــا ، لـــكنها كـــانـــت مـــمتلئة بـــالـــلقاءات والسهـــرات والـــحوارات مـــع أعـــزاء فـــقدتـــهم لـــسنوات طـــويـــلة ، وفـــي صـــومـــعة الـــصديـــق الــعزيــز أبــا مــروان شهــدت حــرارة الــلقاءات مــع وجــوه الــقريــة ودفء أحــاديــثهم . زرت الــرفــاق الــشيوعــيين فــي مــقرهــم الـــكائـــن فـــي الســـراي لمـــرتـــين مـــتتالـــتين ودارت حـــوارات ســـاخـــنة عـــن تـــفاصـــيل تجـــربـــة مـــرة ووضـــع ســـياســـي مـــضطرب بـحاجـة الـى قـراءة مـتأنـية ومـوقـف جـديـد . وعـلى قـاعـة الـشهيد خـليل المـعاضـيدي فـي إتـحاد أدبـاء وكـتاب ديـالـى نـظمت لـي أمـسية وبـتقديـم الـشاعـر إبـراهـيم البهـرزي عـن أهـم محـطات سـيرتـي ومـواقـفي فـي الـجبل والمهجـر ، ولـقد شهـدت تـفاعـل كـبير مـن الـحاضـريـن فـي الـنقاش والـحوارات والـتعقيبات والمـشاركـات . ومـن إنـجازات الـسفرة حـصلت ولأول مــرة وأنــا عــلى عــتبة عــمر تــجاوز الســتين جــواز ســفر عــراقــي وبــطاقــة مــوحــدة ، لــكنها لــم تــضف جــديــد عــلى عــراقــيتي
التي لم أشعر يوماً ببرودة حرارتها رغم ويلات الغربة وأحباطات التجربة .