23 ديسمبر، 2024 5:07 ص

القسم الثاني
يا رفيد.. انني ممتنٌ للظروف التي أتاحت لي اللقاء بك والتعرف عليك. كنتُ أودّ لو انها منحتني هذه الهبة في مكان آخر. لكنّ الحكمة هنا لها كلّ الأثر الذي يظل ينمو فيّ ولا يُفارقني، فهل يُنسى المكانُ هذا؟ وهل تنسى اذناي ما سمعتُه من عبد المالك؟! لذا ستظل يارفيد أنت من خفّف عني ما احسسته عند دخولي المكان هذا. أما قصتي فكما قال المعرّي:

اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين/ وآخرُ ديّنٌ لا عقل له..

احترمنا هذا الايجازعبدالمالك وأنا.. تركتهما وخرجت أتسوّل النسيان والعودَ الى الوراء لكنني فشلت.. مددتُ يدي الى جيبي، أخرجتُ دفتري الصغير وقلماً، أنا وحدي هنا، أنتِ لست ِمعي، الامَ أصبر على العطش ،، عطشٌ أنا ، كلُّ المياه لا تروي ظمئي ، قد اخذلكِ يوماً حين يجفُّ بدني،وينالُ يدي اليباسُ ، فلا تعودُ قادرةً على كتابة اسمك. قتلوني حين قتلوك حبيبتي، مزّقوني لمّا مزّقوا فلذات كبدي : بناتي الجميلات البريئات تُرى هل آذت احداهن إرهابياً، هل شتمته؟ ليس الشتم من شيمتهنّ؟ فلمَ قتلوهن؟كنتُ انْ المت بي مصيبة. ألوذ بكنْ، فبمَنْ ألوذ اليوم؟ أحسُّ انني شجرة بلا أوراق، بل بلا أغصان.. أنا هيكل عظام بعد

أن خلا جسمي من رائحة أحبتي، أستجيرُ بمَنْ معي ومصيبتُه أعظم. أمسِ..غادرتُ مكاني ومنَ معي، خرجتُ علّني أشمّ ما يُشبه عطركِ حبيبتي ،كدتُ أتقيّأ حين نثرتْ إحداهنّ رائحتها في الهواء، الى أين أفرّمنكِ، منكنّ حبيباتي؟ أقول لأُولئك الطغاة.. هل بمُكنتكم منعُ الشمس من أن تُشرق أو البحرمن أن يحمل سفينة.. أو طيور النورس أن تطير.. كذا ليس في قدرتكم منعُ أقلامي من أن تُسطّر مظالمكم وما تسرقون أتذكر وأنا في السفينة، تُنزلني في المكان الذي اختاره قدري، كنتُ اغبطها، ليت في مستطاعي أن أتحدّث معها عبر كلماتي التي أسطّرها على الورق.. لا أُريد أن أفضح نفسي، ومئات العيون ترشقني إذ ترى وجومي وحيرتي وسط احتفالية الراكبين، انني أُحدّثها بصمت: هنيئاً لكِ ،ستمخرين في بحور شتى، تمرين بمدائن لم أرها في الحلم.. لن يسألك عسكري أو مدنيّ عن جوازالسفر، تُصغين الى مَنْ تحملينهم وهم يترنحون بأغنيات الفرح ويعزفون، وأنا أعزف أحزاني بصمت وأنتِ لا تسمعين ما أقول. وقبل أن أُعاند نفسي وأرسم خطة لأيامي الآتيات، أنّ ما حدث لن يُغيّره حزني، وانني أُقطّع أجزائي وأُهينها، من حقها أن تحيا لتؤدي واجبها، أقول قبل أن أرسم خطة تُسيّر حياتي الآتية… ربتَ صاحبي حامل قدري على كتفي متسائلاً: أأنت جائعٌ؟ أجبته: اليوم هو الثلاثاء العاشر من ديسمبر عام 2013 .. اليوم شيّع جثمان الرجل العظيم نيلسون مانديلاّ في جوهانسبورغ.. نظر اليّ مستغرباً وكأنه أسف على سؤاله لي. عاد الى جلسته وقد أشاح بوجهه عني. عدتُ الى خلوتي ،الى نفسي.. متسائلاً: هل تُحبّ الظلام يا رفيد؟ وهل هو

الأجمل عندك من إشراقة شمس الصباح؟ حبذا لو كان ليلك بوجه قمر يُضيئ غلسَ دنياك، وبنجوم تطرّز جبين السماء فتُثير فيك أكثر من رغبة في الحياة، فالظلامُ والحزن صنوان، والضوء والفرح عاشقان، فأيّهما تختار؟ هذا يوم جميل.. يومٌ سعيد ،بل هو عيد لنا ولا سيّما عيدُ عبد المالك الذي تسلّم رسالة لا يعرف ولا نعرف فكّ رموزها.. ثلاثتنا ذهبنا الى الطبّاخ الذي نُخطئ في تلفظ اسمه، طلبتُ منه بالانجليزية مع الاعتذار أن يقرأ ما جاء في هذه الرسالة، بوجه لا يُعبّر عن فرحة وكأنه يوصل الينا خبراً كيف يطبخ اللحمة: لقد حصل على الإقامة، أعاد الرسالة الينا، عبد المالك مرتعشاً ينتظر ما سنُخبره به.. لم نقل شيئاً.. عانقناه كلّ من جهة، ملأنا وجهه قبلات وأخيراً نقلنا البشرى اليه، لم نكن نتوقع منه من أن يهزج ويرقص… ثم قفزات شدهت العاملين في المطبخ.. منهم من يبتسم ومنهم من يملأ وجهه الفرح. وأخيراً وجدنا الطباخ ينظر بمتعة الى رقصات عبد المالك، توقف وكأنّه تذكر أمراً فائق الأهمية.. غاد راكضاً الى سريره، فتح حقيبة صغيرة، أخرج نقوداً ثم هرول خارجا. غادرنا مكاننا غير المتآلف معنا ومضينا في درب ألفناه بغيرودّ ، قلت لصاحبي.. أرى مقاعد هناك فلنذهب اليها.. أخشى على حذائي أن يتعب، قلتُ :آدميون يتحركون بخشية يقتربون منا، ترتجف في أيديهم حقائبُ فقدت لونها.. قبل أن تتضح وجوههم نقل الهواء لهجتهم الموصلية، ابتسم كلانا.. الرجل النحيف طويل القامة ينظر بين حين وآخرالى مادوّن في الورقة، يُمسك بها وكأنّها صكُّ براءته.. سبقني ماهر الى تحيتهم:

– الأخوة من الموصل كما تُفصح به لهجتكم.. أهلاً بكم هنا..

ردّ الرجل النحيف الذي أمسك بالورقة:

– طاب يومكم.. أظنكم عراقيين، الحمدلله لقد وجدنا من نسأله. – نحن بالخدمة.

قلت له أنا.. معرّفاً بنفسي: رفيد من بغداد.

– أنا يوسف حنا من الموصل، هذه زوجتي والأخرى ابنتي.

– أهلاً بكم.. متى جئتم الى السويد؟

– هذا اليوم جئنا نسأل عن هذا العنوان ومعنا كتاب.. و..

– هل من خدمة.. نقدّمها لكم؟

– نكون شاكرين كرمكم.. أراحنا وجودُكم معنا في حيرتنا وغربتنا.

– كلنا غرباء.. أنتم اليوم في المكان الصحيح، لقد أجدتم الاختيار.

عدنا بهم الى حيث يقيم اللاجئون.. أوصلناهم الى المسؤول، قلنا لهم ان كنتم تجيدون الانجليزية فلن تواجهوا مشكلة.. وان لا فهنا مترجم عربي، سنتفقدّكم حالما يجدون لكم مكاناً في هذا المبنى.

ذهب صاحبي الى جهة وعدتُ الى عزلتي أستعيد أيامي التي خسرتها.. كانت تلك الأيام ترقص حين أعزفُ لها.تترنحُ أشجارُ حديقتنا وتُغرّدُ العصافيرُوتموء قطتنا السوداء الناعمة. لصوت الحنفية نغمٌ اصغي اليه فتتحرك نشوتي، حكاياتٌ صغيرة دوّنتها في دفتري لئلا أنسى، حين يكبر أحفادي سأقصّها عليهم، لم أكن أدري أنني سأدفن امهاتهم قبل أن أرى أحفادي، ينامون على قصصي وأنا أحكيها لهم.. هل سأفتح دفتري يوماً لأقرأ ما دوّنتُ؟

لمَنْ سأقرأ القصص تلك بعد اليوم؟ كل شيء غادرنا.. جلساتنا المسائية صيفاً مع جيراننا عند أبواب الحدائق البيّتية، نسمرُساعات والظلام الخافت المنبعث من فوانيس صنعناها لتُنير بخجل زوايا منزلنا .لم يسعْها أن تدحر جيوش الظلام، بل ستسمح لنا بالرؤية، وداعاً يا قراءة الكتب، أتذكر الليالي التي نختبئ فيها داخل حجراتنا بعد أن نكون قد غلّفنا نوافذنا بورق أسود خشية أن تتعرّف علينا طائرات بوش خادم الانسانية، وبائع الديمقراطية بأثمان غالية، هي دماء أبنائنا وتراب أرضنا بتراثنا العتيد.. لم يجلب لنا سوى الرعب والمرض الفتّاك الذي يظل يعيش في أجسامنا وأجسام أحفاد أحفادنا. لم أكن أسمع أنّ الديمقراطية تُباع وتُزرع في أرض الآخرين.. وهاهي الأيام تُثبت له فشل خططه ورعونة تفكيره. ويأتي عام 2003 ويعود الحمقُ والحقد فينشر وباءه ثانية في أرضنا المعطاء.. أجدبت الحقول، واجتثتْ النخيلُ بتمورها التي أشبعت العالم،ونسي اللهَ وقوله لمريم (( وهزّي اليك بجذع النخلة تُساقط عليكِ رُطباً جنيّاً)) لكن الأعمى لا يُبصر، والجاهلُ لايفهم، إن قد قرأ القول ذاك، إنّه لم يقرأ حتى نفسه قراءة صحيحة.

قلتُ لماهر.. لنذهبْ نتفقدْ تلك العائلة القادمة شمال وطننا.. لم نجد صعوبة في لقائنا بهم.. بانت الفرحة في وجوههم، تحدّثوا معنا باطمئنان وبلهجة عراقية تتموسق في نفوسنا .هم من الشمال ونحن من الجنوب والوسط، وما دام الوطن واحداً فالقلوب متآلفة.. قال الرجل الذي عرّفنا قبل يومين باسمه (( يوسف)) :

– لم نجد صعوبة في التحدّث اليهم.. فلسنا بحاجة الى مترجم.. أجيد الانجليزية وكذا زوجتي نبراس، كلانا طبيب وهذا سبب مشكلتنا. انهم يقتلون العلماء والأطباء، أقمنا أيامنا في القرى ثم عدنا وعادوا يُهدّدوننا.. لم نرتكب ذنباً سوى اننا طبيب وطبيبة، والآخر الذي يعتبرونه ذنباً كوننا مسيحيين.. ابنتنا الكبرى حين أنهت الدراسة الثانوية وتطمح أن تكون طبيبة، أرسلناها لتقيم مع جدّتها وجدها في عمّان، هناك دخات الجامعة، نزورها بين حين وآخر، تتسعُ المسافة الزمنية بين زياراتنا، فالطرقُ غير آمنة، وابنتنا هذه جئنا بها معنا، لمَنْ نتركها؟ جدّتُها وجدّها في عمر متقدم وبأمراض كثيرة، ونحن لا نقوى على بعدها عنا.. اننا بحاجة الى بعضنا..

غادرونا وغادرنا الى سكننا، الى أحلامنا وانتظارنا الى ما ستأتي به الأيام. أكاد أختنق وسط هذا الصمت، وسط اليأس والترقّب المخيف، أتوق الى حركة، الى ضوضاء، الى فوضى مشاعر تُحرّكني، أُحسّ أن كل شيء حولي صامتٌ مريض، حتى الأرض تخلّتْ عن دورانها، كذا الشمسُ والكواكب. ما بي لا يُمكن توصيفه، كيف سأمضي شيخوختي وحدي، لا وطني ولا حبيباتي معي. حين أسأل أشكُّ في انني أعيش بعقل سليم، المجنونُ ربّما يسأل: هل الإرهابُ حزب؟ مبدأ؟ هواية؟ أرى وجوههم في خيالي كالحة، تنفث مناخيرُهم شظايا حارقة، تفيض عيونُهم نجاسة وأفواههم عُهراً. لو لامس الحُبّ قلوبَهم لاغتالَ الوحشَ في نفوسهم، الوحشَ المريض الذي يغتال أحلام الصغار.. كم وددتُ أن تهجرني ذاكرتي فأعيش في يومي هذا وأنسى أنّ الحُبّ لا

ينبتُ في قلوب البخلاء. أنا هنا في ذروة عوَزي وحاجتي أجدني قادراً على العطاء. أحسّ السعادة والمتعة فيما أُعطي، أرتجف لا من صقيع المكان بل خوفاً على ناسنا هناك..

في الشارع ماشياً أتسوّل النسيان ،علّ من أشاهدهم يشدهونني عمّا بي، فإذا بي أراها في كل امرأة تخطو برشاقة، في كلّ ثوب حرير تُداعبه الانسامُ، في كلّ موسيقى تُشنّف اذنيّ، و ضفائر الصغيرات تجرحني بلا رحمة.. أين انتنّ حبيباتي؟ كيف يغتال المجرمون حبات القلوب، كيف يُساندُ المُجرمين مَنْ يدّعي الاستقامة ويحمل قضية عادلة ؟ هل من الايمان بالله أن تغدقَ جهة ٌعلى المجرمين ادوات قتل يسدّدونها الى رؤوس الأبرياء؟ بعملهم هذا يوصلون رسالة سلبية عمّا يؤمنون به الى الناس كافة.. ألم يتذكروا يوماً أنّ الله فوق كل شئ؟ ألم يسمعوا صوته يناديهم: رفقاً بالقوارير، المالُ والبنون زينة الحياة الدنيا، أم أنهم كفروا بكلّ مقدّس ولبسوا ثياب المصلحين ورفعوا أصواتهم: جئنا نفرضُ السلام بقطعنا الرؤوس، جئنا لنشرالعدل بتهديم منازلكم، جئنا ننشرالعفة حين نغتصب نساءكم ..

ذهبتُ الى الصيدلية أسأل عن دواء.. سُئلتُ أيّ دواء تحتاج؟ دواء يُنسيني ذاكرتي. عجب الرجل وقال: سمعتُ مَنْ يزورنا طالباً لتقوية ذاكرته.. ربّما لم أسمع طلبك بوضوح..

أجبته: ذاكرتي المتقّدة أتعبّتني وأخشى أن يُظنّ بي الجنون..

– أنصحك أن تراجع طبيباً نفسانياً.

شكرته كثيراً إذا أخذتُ من وقته الكثير..

منحني البلدُ الكريم إقامة، انتظمتُ في مدرسة اللغة السويدية، في أول درس وجدتُ أكثر من بلد يجلس أناسُه في هذه القاعة.. فالشرّ ينتشر في كلّ بلد تشير أصابعه الى الكبار، حتماً لكل من الجالسين سببه الذي دفعه الى ترك وطنه وتأريخه وذكرياته، هل منهم مَنْ أصيب بمصيبة تعدل مصيبتي؟ لِمَ لا.. وربّما مصيبته أعظم. تذكرتً ما حلّ بعبد المالك، لأول مرة أُحسّ نفسي تضحك بصمتٍ داخلي، بعد سنوات خدمتي في بلدي عدتُ اليوم طالباً مبتدئاً وكأنّي في أول صف حين تعلمتُ الحروف الابجدية، كنتُ آنذاك في السادسة من عمري، لم أعرف من هموم الدنيا وعذاباتها شيئاً، اليوم وأنا على مشارف الستين أتعلم حروف اللغة الجديدة، أنا اخترتُ البلد هذا من دون غيره.. هذا الدوام اليومي والإصغاء الى المعلّمة والاختلاط بأجناس الناس انتشلني قليلاً أو أكثرممّا أُردّده في صحوتي ومنامي، حتى تناسيتُ طلبي للحصول على جلسات مع الطبيب النفسي، الى أن جاءتني رسالة تحدّد لي اليوم والساعة والمكان، لا أدري هل فرحتُ أم عشتُ حالة ً من اللامبالاة، وتمرّ الأيام وإذا بهاتفي يرنّ.. انه الطيب صاحبي ماهر،وتطول الحكايا بيننا، ونتفق على اللقاء في الكافتريا المجاورة للمركزالتسوّقي-coop – في- ييرفيتلا. وتتالت اللقاءات، عرّفني على بعض من التقى بهم وفعلتُ الشيء نفسه، وظلّ الهاتف صديقنا.. لم تُطل الأيام الاّ وتواصلت أصواتنا ولقاءاتنا..

غداً سيكون أول لقاء لي مع الطبيب النفسي، سأذهب اليوم للاستدلال على المكان، لم أتخلّف يوماً عن موعد، وهكذا وجدتُني

في المكان بعينه قبل الموعد بعشرين دقيقة. استقبلتني الطبيبة معرّفة بنفسها، اقتعدتُ كرسيّاً قريباً منها، سألتني أن أتحدّث عن مشكلتي، أعادتني الى جراحي ثانية.. في الجلسة الثانية استجبتُ لها لأُنفّس عما أحسّه هذه الأيام، أخبرتها أنّ الليالي تسرقني.. تسرق ساعات نومي.. أحلامي رفيقة دربي.. أينما ذهبتُ فهي معي.. يضيع الدربُ مني وأنا معها نتعذّب، أسأل الدرب والشجر والصخور الناتئة.. أسأل العشب: أين حبيباتي؟ حتى الكلاب الراقدة تترقّب عودة أصحابها ليفكّوا قيدها. لم تلتفت الى سؤالاتي، من معي لا يُجيرونني.. كلٌّ غارقٌ في مصائبه، نسينا وجه الفرح، نُشبعُ بطوننا ونظلّ جائعين، لما كنتُ معهنّ لا يزورني الجوع حين تبسم الوجوه قربي، لهنّ رائحة كما للمكان عطره، اليوم لا عطر.. لا رائحة، حزنٌ وكابوس وفقر.. الطبيب عاجزٌ عن شفاء ما بي، علّني بيدي شفاؤها، كيف عليّ أن أعيش كوارث العالم، مصائب ومآسي من أعرفهم.

في الباص. كل الوجوه غريبة، أفتح حقيبتي الصغيرة، رفيقتي في كلّ مشوار، وأرسم بكلماتي ما تُخبئه تلك الوجوه الغريبة، أُراني أطلق إسماً على كلّ وجه وأكتب قصة مأساوية له، تغمرني المآسي فأنسى قليلاً أو أُحاول نسيانَ عمّا حلّ بي، قلتُ يوماً لواحد كنتُ أُصادفه في المكتبة أحياناً: كيف ينسى المرء ما مرّبه؟ أجابني: ممّا لا تودُّ تذكّرهٍ، نصحني أن أكتب عن مآسي الآخرين. أضفتُ ما نصحني به الى ما رسمته قبلاً وأخذت أبحث في مصائب الناس.. في الجلسة الثالثة، سألتني طبيبتي: كيف أنت، صمتُّ إذ تراءى لي مشهد الدماء الجارية في شوارع

وطني،وصفوف النائحات حول الجثت الممزّقة.. حيث العالمُ يحتفل بعام جديد عام 2014 وسط الأضواء والرقص والفرح، حين أبطأتُ في الإجابة قلتُ: الذبحُ لم يكن يوماً مداعبة، والدم المسفوح في شوارع مدننا لم يكن لتنظيفها وغسلها،وليس للظلم اسمٌ آخرولا للعدل الّا هوّيته. ابتسمتْ وسألتني: هل أنت كاتبٌ؟ اجبتها لسوء حظي انني اكتب كوارث الآخرين عسى أن استمدّ من وقوفهم ضدها قوة.ً. اطالت النظر في وجهي مبتسمة: أتدري انك أنت المريض الوحيد الذي أسعد بحضوره.. أجبتها: إذن سأظلّ مريضاً مادمتُ قادراً على إسعاد أحد.. صفّقتْ وهي تُهنئني بأن شفائي قريب، وقريب جداً.. سألتُ: وكيف حدستِ هذا؟ قولكَ سأظلّ مريضاً ما دمتُ قادراً على إسعاد أحد، أي أنكَ تُفكّربالعطاء والعمل وحبّ الآخرين، وهذا خلاف اليأس والضجر من الحياة، ومادامت لك رغبة في إسعاد الآخرين فأنتَ سليم معافى، وهذه إشارة تفرحني وثق أنّني مجرّبة واستفدتُ درساً حين عملتُ في مهنتي هذه ….لا أفهم الى ما تشيرين. ..آسفة ليس لديّ الوقت لأوضّح لك الأمر، سنتحدث في هذا في المرة الآتية..

ودعتها، ومشيتُ وأنا أُفكّر فيما سمعتُ.. تُرى هل عانتْ شيئاً أرعبها وأوجعها كما عانينا؟ أظنّها صادقة، والدليلُ انها هنا، فلم تأتِ سائحة أو زائرة، حتماً هي مثل الكثيرين ومثلي لاجئة فرّت من ظلم واضطهاد، يالسخرية الأقدار‘‘ جئتُها مريضاً لتداويني وسأغدو المريض الذي تُنفّس ما بها أمامي، ولِمَ لا ؟ سأُصغي اليها وقد أغرقُ فيما أسمعُ فأنسى شيئاً ممّا يوجعني، أوصتني طبيبتي أن أكتب عن مآسي الآخرين لتُذكّرني انني لستُ الوحيد

الذي طعنه الزمن.. اننا دائماً نلوم الزمن ونتخذ منه شمّاعة نُعلّقُ عليه مشاكلنا من دون أن نلتفت الى أنفسنا فنحاسبها.

أذكرهنا قول الشاعر:

نعيبُ زماننا والعيبُ فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا..

تُرى هل كان الشاعرُ مصيباً في رأيه هذا؟ أيّ عيب فيّ حين مزّقوا حبيباتي وطعنوني؟ لا أدري أين عيبي؟ ألأنني لم أكن معهن في اللحظة تلك. ألأنني لم أقفل عليهن باب بيتي وأغلق نوافذه وأتوسل اليهنّ أن يرضخن لما طلبتُ؟ وإن سألنني لَمَ تود أن تفعل هذا؟ بمَ اُجيبُ ؟ لستُ بالغيبي . ولا بالمُنجم أو الحالم ، أين عيبي يا زماني ؟ العيبُ هو أن أظلّ قابعاً تحت وطأة الماضي، فما دمتُ أحيا فعليّ أن أحيا كما ينبغي، وأظنني بدأتُ منذ شهور بتوفير قدر من المال يسمح لي بالسفر الى خارج البلد .وهذا ضمن البرنامج الذي اتخذته لأيامي القابلة.,,, السفرُيُشغلني ويُسليني فضلاً غن أنه يُهيئ لي الأجواء لأدوّن مشاهداتي ولأتغوّرَ في دواخل الناس فأُسردُ أوجاعهم كما أتخيّلها.. وهذا لا يكون قبل أن أُصغي لما أسمعه من طبيبتي، حتماً ستكون لها قصص موجعة هي ما ألقت بها الى هذا البلد الكريم. كلّ لاجئ وراءه قصة . مشيتُ كثيراً وأنا شاردُ الذهن أفكّر في حكايات الآخرين.. لأجلسْ هنا ،الثلجُ يهمي، لا أخشاه، على رأسي قبعتي، وعلى جسمي معطفي، مددتُ يدي الى جيبي عسى أن أعثر على ورقة، انها تقبع هنا، قلمي لا يفارقني، البياضُ يدثّر الأرض فلا تخشاه، تتوالى الكلمات عبرَ شفتيّ.. يظلّ الشرقُ مولداً للشمس، أنا شرقيّ

تُدفّئني شمسي. الحبّ لا يستأذن القلب، يجتاحه ونحن غافلون. الرائحةُ لا تعرفها قبل أن تشمّها، السعادة ترسم يومي. هناك أمور لا يستأذن المرءُ فيها، لأنّ ما يقتحمه لا يحتاج الى إذن.. هذه العبارة هزّت أعماقي أنا الذي عاهدتُ نفسي أن أعيش ليومي هذا، هذه العبارة أعادتني بل دفعتني الى الوراء حين التقيتُ حبيبتي وأنا أضع قنينة العطر بين يديها، سألتني:

* أتدري ما يعني أن تهدي سيدة عطراً؟

اجبتها:

– أدري، لذا أهديك ِالعطرهذا.

– وبلا استئذان تفعل هذا.

– هناك أمورٌ لا يستأذن المرء فيها، لأن ما يقتحمه لا يحتاج الى إذن.