19 ديسمبر، 2024 3:42 ص

في سيكولوجيا الغربة والاغتراب وتفكيك الأوطان

في سيكولوجيا الغربة والاغتراب وتفكيك الأوطان

يرد استخدام كلمة الغربة والاغتراب في دلالتين مختلفتين, فالغربة في اللغة تعني بعد وتنحى, وغرب الشيء أي لم يعد مألوفا, وأغترب الشخص أي نزح عن وطنه فهو مغترب, والغربة عادة موجه إلى الخارج اغلب الأحيان, أي أن الفرد يترك بلده مضطرا أو طواعية نتيجة إحساسه بالضعف أو الخوف أو الضياع وعدم الأمان من تقلبات زمن يعيشه ويحس به. أما الاغتراب فهو الإحساس بالغربة داخل الوطن وهو أقسى أنواع المشاعر الإنسانية وتتولد كنتيجة طبيعية للظروف المحيطة بالشخص, كالظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها. وفي معجم النفس والطب النفسي يوصف الاغتراب بأنه انهيار في العلاقات الاجتماعية الشخصية أو أنه الفجوة بين الفرد وذاته والانفصال بينه وبين الآخرين وما يتضمنه ذلك من غربة للفرد وانفصال عن مشاعره الخاصة التي تستبعد من الوعي. وكثير من الباحثين استخدم هذا المصطلح بمعنى: انعدام السلطة والانحلال, الانفصام عن الذات, الاستياء والتذمر, العداء والعزلة, إلا إن المصطلح له جذوره في الدين والفلسفة والثقافة وعلم الاجتماع, وهو ما سنأتي لاحقا للتلميح به.
أما بالنسبة للغربة وهي قرينة السفر أو الهجرة كخيار فردي له أسبابه المتشعبة, فقد أشار التراث العالمي ومنه العربي والإسلامي إلى فوائده العديدة, ففي أبيات شعر للإمام علي بن أبي طالب ( ع ) يقول فيه:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم, واكتساب معيشة وعلم, وآداب, وصحبة ماجد
فأن قيل في الأسفار ذل ومحنة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من قيامه بدار هوان بين واش وحاسد

كما يقول الإمام الشافعي في مشروعية الانتقال من مكان الضرر:
أرحل بنفسك من أرض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
من ذل بين أهاليه ببلدته فالاغتراب له من أحسن الخلق
فالعنبر الخام روث في مواطنه وفي التغرب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره في أرضه وهي مرمي على الطرق
لما تغرب حار الفضل أجمعه فصار يحمل بين الجفن والحدق

وتتلخص فوائد السفر عند العرب المسلمين في: انفراج الهم والغم, واكتساب المعيشة, وتحصيل العلم, وتحصيل الآداب, وصحبة الأمجاد, واستجابة الدعوة, وزيارة الأحباب ورفع الإنسان نفسه من الذل. وفي التراث العالمي والأوربي منه بشكل خاص باع في قيمة السفر ومزاياه, وهو احد مصادرهم الهامة في اكتشاف المجهول من العالم في مجال الجغرافيا والمعارف والآثار, وكذلك لنشر أفكارهم ودياناتهم, ولعل في قول فوجريه دو مونبرون ما يؤكد ذلك: ” من لم يرى إلا بلده يكن قد قرأ الصفحة الأولى فقط من كتاب الكون “. السفر والهجرة يعني التعلم, يعني أن يرى الإنسان ذاته كما هي بموضوعية وكم هو حجمه أمام العالم الواسع, فالانغلاق هو أن يرى الإنسان أكبر من حجمه وفي ديمومة أورام الذات, فالسفر يضعك في مكانك المناسب وما تصبوا إليه, ويجعلك متلقيا ومستمعا جيدا للمعلومة ومرسلا لها على قدر معرفتك في تواصلك مع الآخر, ويفتح أمامك أبوابا واسعة للمعرفة إذا كان لديك الفضول والدافع المعرفي للتعلم. فكم من عراقي وعربي كان يرى نفسه معتدا بذاته بحكم عيشه في ظل نظم معزولة عالميا تحجب عنه المعرفة الحقيقية, ولكنه عندما يصطدم بالعالم الخارجي يعرف ما هي حقيقته وما هي مكانته الحقيقية في عالم لا حدود له, مما تدفعه الرغبة إلى المزيد من المعارف والعلوم في عالم متغير بدون انقطاع !!!!.

وإذا كانت الغربة أو السفر والهجرة على المستوى الفردي تفتح منافذ الرحمة أمام الفرد للخلاص من الضغوطات والصراعات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية, والخلاص من الاضطهاد بمختلف مظاهره, أو الرغبة في تحصيل العلم, فأن عدم عودة قوافل المهاجرين وإبقائهم بعيدا عن موطنهم الأم يشكل نزيفا مستمرا وتهديدا لأي عمليات إعادة بناء للبنية السياسية والاقتصادية والثقافية للبلدان المصدرة للهجرة. ولعل الإحصائيات على صعيد البلاد العربية ترينا حجم الكارثة المحدقة في الحرمان من القوى المهاجرة, فقد بلغ عدد المهاجرين العرب في الخارج أكثر من 35 مليون يمثلون أكثر من 12% من سكان الوطن العربي, والمهم في ذلك هو نوعية العقول المهاجرة من مختلف التخصصات, والتي من بينها تخصصات إستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة, الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو ـ الكترونية, والهندسة النووية, علوم الليزر, تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية واقتصاديات السوق والعلاقات الدولية, طبعا إلى التخصصات المهمة الأخرى في نطاق العلوم الإنسانية والأدبية, فهناك علماء وكفاءات متميزة ومن ذوي السمعة العالمية المرموقة. وقد تسببت هجرة العقول العربية بخسائر مالية تجاوزت 200 مليار دور !!!!!.

ومادامت عوامل الهجرة وأسبابها قائمة فأن نزيفها لم يقف بل تفاقم في العقود الأخيرة على خلفية مجمل الأوضاع في البلاد العربية, وفي مقدمتها: القمع والإرهاب الديني والسياسي وحملات الاعتقال والتطهير للمعارضين السياسيين, التهجير العرقي والاثني والطائفي, انعدام الحريات السياسية والتعددية الحزبية وما يرتبط بها من نظم دكتاتورية بواجهات مختلف لا تسمح بالاختلاف في وجهات النظر, سيادة أجواء الإحباط وعدم الاستقرار السياسي والخوف من المستقبل, عدم توفر المناخ العلمي في مواقع العمل وانعدام الحريات الأكاديمية وضعف البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات البحثية, التخلف العام في البلاد العربية وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية, فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت بدون عوائد كبيرة على حياة الفرد والمجتمع, الانتماء إلى الأقليات القومية والدينية وعدم الإحساس بالأمن والأمان, استفحال البيروقراطية الإدارية والروتين في كل مفاصل المجتمع, بما فيه الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والتطوير الاجتماعي, وأيضا أسباب أخرى ذات علاقة بالطموح الشخصي وتحسين ظروف العيش الفردي وحرية ممارسة المهنة !!!.

وإذا كانت هجرة الكفاءات العلمية والاقتصادية والمهنية تسبب الكثير من الخسائر المادية, متمثلة برأس المال واستنزاف الطاقات البشرية المدربة والمؤهلة والمنتجة وذهابها بعيدا عن موطنها الأم, وتدني الدخل القومي نتيجة لانخفاض مستوى الإنتاج, وعرقلة انجاز الخطط التنموية, وتغيرات في التركيبة السكانية من حيث النوع والعمر, والخسائر الاجتماعية  والخدمية والثقافية والحضارية, فأن الهجرة القسرية للأحرار والديمقراطيين واللبراليين من سياسيين ومفكرين ومثقفين ومبدعين هي الأكثر وجعا لذات المهاجر الذي يحمل الحلم الكبير في التغير, وأشد ألما يلحق بالوطن, حيث يضعف تشكيل البدائل المعارضة لفكر وثقافة أنظمة القمع والدكتاتورية في أرض الوطن, مما يترك هذه الأنظمة تمارس مزيد من الانفراد والتحكم والهيمنة والقمع على شعوبها وحجبها عن النهضة الفكرية والثقافية والتنموية, و يجعلها فريسة سهلة لفكر التطرف الديني والسياسي في لحظات التغير المطلوب, مما يزيد من تصحرها وتخلفها الفكري والحضاري !!!!!.

أما الوجه الآخر لتصدع الأوطان فهو الاغتراب عنها من داخلها, أي الإحساس بالغربة داخل الوطن وأنت فيه, والاغتراب هنا ضمن هذا المفهوم يمثل نمطا من التجربة التي يشعر فيها الإنسان بالغربة عن الذات, فهو لا يعيش ذاته كمركز لعالمه أو كصانع لأفعاله ومشاعره. ومعاني الاغتراب متعددة, اجتماعية ونفسية واقتصادية, ويمكن إجمالها في انحلال الرابطة بين الفرد والمجتمع, أي العجز المادي عن احتلال المكان الذي ينبغي للمرء أن يحتله وشعوره بالتبعية أو يحس الانتماء إلى شخص أو إلى آلية أخرى, فيصبح المرء مرهونا لها, بل مستلبا. وهذا ما يولد شعوريا داخليا بفقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذري والانفصال عن المحيط الذي يعيش فيه.

وبعيدا عن التفاصيل في تتبع مفهوم الاغتراب في الفكر الفلسفي والاجتماعي بما لا تتحمله المعالجة في هذا المقال, نؤكد باختصار شديد أن الاغتراب في المفهوم الديني ولدى الأديان السماوية الثلاث ” اليهودية والمسيحية والإسلام ”  يلتقي عند مفهوم واحد, أي بمعنى الانفصال, انفصال الإنسان عن الله, وانفصال الإنسان عن الطبيعة ” الملذات والشهوات “, وانفصال الإنسان  “المؤمن ” عن غير “المؤمن “, وأن المفهوم الديني للاغتراب عن الآخر وعن الطبيعة ينطوي على أن الاغتراب ظاهرة حتمية في الوجود الإنساني وحياة الإنسان على الأرض ما هي إلا غربة عن وطنه الأسمى, وطنه السماوي, وهذا ما يفسر بعض من سلوكيات التطرف الديني في حرق الأرض تحت أقدام ساكنيها للفوز بالوطن الآخر على عجالة, أو القراءة المشوه لما يحصل من أحداث على الأرض أو التعجيل بحدوثها لأنها قدر محتوم على طريق  التعجيل السريع باستحضار علامات الظهور صوب نهاية الحياة الدنيا !!!!!!.

أما من الناحية الفلسفية فأن أول من صك مصطلح الاغتراب من الناحية المنهجية هو الفيلسوف الألماني هيغل, حيث رأى في الاغتراب هو أن الإنسان ينفي ذاته عن نفسه كفاعل فيتحول إلى موضوع, أي مفعول به, في رحلة هدفها البناء والتكامل الروحي. فعندما يتحول إلى موضوع يكون حينها غريبا عن محيطه, فيشعر الإنسان بالاغتراب عندما يشاهد نفسه عن بعد كأنه خارج عنها. ولا ينتهي هذا الشعور بالاغتراب إلا حينما يرى الإنسان نفسه وموضوعه متطابقان وذلك من خلال خلق هوية ثابتة تخصه هو وحده من خلال شيء آخر, كالعمل أو الوطن أو المال أو هواية معينة. فهي رحلة للبحث عن الذات والهوية. وقد اعتبر هيغل أن هناك وجهان للاغتراب: أ ـ الوجه السلبي الذي يؤدي للعزلة, ب ـ الوجه الايجابي والذي يؤدي للإبداع. وهكذا يتمحور لديه معنى الاغتراب حول شعور الفرد بأنه غريب عن ذاته, أو عن مجتمعه الذي يحيا فيه.

أما بالنسبة لكارل ماركس, فقد ربط الاغتراب بالعمل المأجور وموقع الإنسان بالنسبة له. فالإنسان ينتج عملا لكنه يصير عبدا له, بمعنى انه يشعر بالغربة عما هو ينتجه بنفسه. وتتفاقم هذه الغربة إذا علمنا أن في العمل إمكانيات حقيقية لتفتح طاقات الفرد وتطوره. وهكذا حول ماركس الاغتراب من ظاهرة فلسفية ميتافيزيقية. كما كان عند هيغل, إلى ظاهرة تاريخية لها أصولها التي تنسحب على المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. والاغتراب عند ماركس له وجهان أيضا: أ ـ  الوجه السلبي الذي يؤدي للعزلة, ب ـ الوجه الايجابي الذي يؤدي إلى الصراع الطبقي وبالتالي إلى الثورة والتغير.

وبين هيغل وماركس يطل علينا فورباخ ليفسر الاغتراب ومنبعه في الدين وبسبب الدين حصرا, بمعنى آخر أن الإنسان خلق الدين وأبتلى به, ويعتبر أن الاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب, وأن الفكر الديني يقوم على فرضيتين أساسيتين: 1 ـ أن القصص الدينية روايات حقيقية لحوادث حقيقية, 2 ـ انه يمكن الاستدلال على قواعد الإيمان بالعقل واعتبارها حقائق منطقية. أما العالم اريك فروم الذي مثل التيار اليساري في مدرسة التحليل النفسي الفرويدية, فهو لم يرى في الاغتراب كنتيجة للصراع الجنسي كما اعتقد فرويد, ولم يراه أيضا نتيجة للصراع الطبقي الاقتصادي كما قرره ماركس, بل رأى في الاغتراب نتاج أمور وجودية, شخصية الطابع, اجتماعية المنشأ, ويرى أن المجتمع الحديث قد تعقد وأصبح نتاج الإنسان هو السيد مع انه يفترض أن يكون في خدمته وأن الإنسان أصبح أكثر شكا وقلقا وعزلة ووحدة وخوفا وان مجتمعه لا يهتم بتنمية علاقاته الإنسانية الصحيحة.

ومن هذا الاختزال الشديد لمفهوم الاغتراب فأن الاغتراب تتسع مظاهره لتشمل الاغتراب الديني, والاقتصادي, والسياسي, والثقافي, والتربوي والتعليمي, والاغتراب القيمي, والإيديولوجي, والاغتراب الناتج من التطور الصناعي والتقني والمعلوماتي, وجميعها مسببة للعجز والإحباط الذي يتملك الفرد وعزلته الاجتماعية والذاتية. واليوم وبعيدا عن جذور الاغتراب التاريخية, تمر مجتمعاتنا العربية بمرحلة خطيرة تتفكك فيها الذات الفردية وتغترب على خلفية تدهور البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, حيث الفقر وانعدام مستويات إنسانية لائقة للعيش من خدمات مختلفة أساسية, صحية وتعليمية وغيرها, ويغترب الفرد على خلفية تفكيك وسقوط مؤسسات الدولة, الإدارية والأمنية والعسكرية والخدمية ولا نقصد بذلك سقوط النظم الدكتاتورية صانعة العزلة والاغتراب الداخلي ” فهذا شيء آخر “, وشيوع نمط من الحروب الداخلية, الدينية والطائفية والأهلية والاثنية, مما يؤدي إلى تجزئة الأوطان وانسياقها وراء مشاريع التفتيت الجغرافي بواجهات مختلفة ” كما هو الحال في النموذج الذي يهدد العراق ” مما يهدد نسيجها الاجتماعي والثقافي, تدهور المؤسسة التعليمية, بكادرها ومناهجها ومجمل أدائها وإعادة إنتاج الأمية من جديد, تصفية وتهميش الطبقة الوسطى من مختلف المجالات العلمية والمهنية والخدمية, التطهير الواسع للأقليات العرقية والدينية والعبث بالتركيبة السكانية والاثنية, تدمير الذاكرة الوطنية والثقافية, من حرق وسرقة للآثار والمتاحف والمكتبات الوطنية ونسف الرموز الايجابية من شخصيات وأضرحة وتماثيل وقطع أثرية بمبررات دينية وسياسية, غياب الأمن والآمان الفردي والمجتمعي مما يجعل الجميع تحت مشاعر فقدان الجدوى من العيش والإحساس بالضياع وفقدان الأمل بالمستقبل, ازدواجية الخطاب السياسي في الممارسة العملية, بين ديمقراطية معلنة وإقصاء ودكتاتورية شرسة على ارض الواقع تمتد لتشمل كل مناحي الحياة وتفاصيلها اليومية بما فيها تقرير لقمة العيش !!!!.

أن الوجه السلبي للتجربة العراقية والذي بدأت ملامحها على ما يبدو سهلة التعميم في دول عربية إن لم تكن أكثر شراسة, تلك هي بداية الأحداث في مصر وليبيا واليمن وغيرها, مما يهدد الأوطان بفقدان الأمل بثوراتها وانجازاتها التاريخية, ويضع هذه البلدان أمام مخاطر التفكيك والانهيار للدولة والمجتمع, بعد أن أسست الأنظمة القمعية عبر عقود لميكانيزم هذا الانهيار. فهل للاغتراب الذاتي والاجتماعي الناتج من الأزمة المستعصية أن يؤسس لخلق مزاج ايجابي يحمي الأوطان كما استقرئه كارل ماركس وهيغل وغيره. أن ذلك يرتبط بشروط النضج الذاتي للأفكار وإيديولوجيات العدالة الاجتماعية وقدرتها على احتواء الأحداث المتسارعة !!!!.      

أحدث المقالات

أحدث المقالات