17 نوفمبر، 2024 1:22 م
Search
Close this search box.

في سمات الشعبوية

في سمات الشعبوية

على الرغم من أن الشعبوية لم تكن ظاهرة جديدة، لكن ازداد الاهتمام بها على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، على المستوى الرسمي والأكاديمي والشعبي؛ نتيجة صعود شخصيات وأحزاب يمينية متطرفة في الانتخابات في بلدان أوروبية عدة والولايات المتحدة، خصوصا بعد وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض في الفترة الرئاسية السابقة، وترشحه للفترة القادمة. هذه التطورات والتحولات لم تحدث بمعزل عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية العميقة التي تواجهها البلدان الرأسمالية، بل حتى البلدان النامية لم تسلم من صعود هذه الظاهرة خصوصا في بلدان أمريكا اللاتينية، والمنطقة العربية كذلك، وإن لم تُدّرس فيها الحالات الشعبوية التي شهدتها مثل الناصرية وحالة عبد الكريم قاسم أكاديميا. علما أن هذه الظاهرة لم يسلم منها اليسار عالميا، فقد ظهرت في صفوفه في فترات مختلفة. ويترافق كل ذلك مع الالتباس الذي يحدث في بعض الحالات في التمييز بين ما هو شعبوي وغير شعبوي، فهناك شخصيات وأحزاب غير شعبوية ولكنها تتبنى خطابا شعبويا في ظروف معينة مثل فترات الانتخابات أو أحزاب شعبوية لكنها تتراجع عن خطابها الشعبوي عندما تدخل في حكومات ائتلافية.  

   وإسهاما في التعرّف على بعض سمات الشعبوية التي بات خطرها يهدد حتى الديمقراطيات الراسخة فما بالك بالديمقراطيات الناشئة في البلدان النامية، كرسنا هذه المقالة لهذه الموضوعة والتي سنعالج فيها: مفهوم الشعبوية، وخلفية نظرية، وأسباب ظهور الشعبوية، والخطاب الشعبوي، والشعبوية والأزمة، والشعبوية والفاشية وخطر الشعبوية.   

      مفهوم الشعبوية

    مفهوم الشعبوية مثل الكثير من المفاهيم الأخرى في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مازال موضع نقاش وسجال، وهذا يعود إلى تداخل وتعقد المكونات التي تُسهم في نشوء هذه الظاهرة وتغذيتها زمانيا ومكانيا سواء على مستوى بعدها المحلي أو العالمي.

    يمكن تعريف الشعبوية بأنها “عقيدة واستراتيجية سياسية وأسلوب خادع لتسويق البرامج السياسية”. وقد جرى استخدام هذا المصطلح أول مرة في سياق الديمقراطيات الحديثة عام 1890، لوصف الطرف الثالث الواسع من الجماهير، غير الممثل بواسطة الأحزاب الرئيسة(1)، خصوصا في البلدان الأوروبية.  

    لكن هناك من يرى أن الشعبوية مفهوم بعيد المنال ومتكرر في الوقت نفسه. فنحن نعرف من خلال الحدس ما نشير إليه عندما نسمي حركة أو أيديولوجيا بأنها شعبوية، ولكن لدينا صعوبة أكبر في ترجمة الحدس إلى مفاهيم. وقد أدى هذا في كثير من الأحيان إلى نوع من الممارسة الخصوصية؛ إذ استمر المصطلح يستخدم بطريقة الحدس المجرد وأي محاولة للتأكد من محتواه يتم التخلي عنها أو رفضها(2). وقد سبق لنائب رئيس بوليفيا ألفارو لنيرا أن قال أن “الشعبوية وعاء يضعون فيه كل شيء لا يفهمونه”(3).

     كذلك يقرّ بيير روزانفالون في كتابه “قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد”، بالغموض الذي ينطوي عليه مفهوم “الشعبوية”، ويدعو إلى التحلي بالوعي السياسي والدقة العلمية الضروريين للخوض في الموضوع والتعامل مع هذا المفهوم الملتبس، من دون أن يعني ذلك التخلي عن استعماله(4) .

     تواجهنا الشعبوية كصنف من التحليل السياسي بمشكلات متميزة؛ إذ على الرغم من إنها فكرة متكررة، كما أشرنا، ومنتشرة على نطاق واسع، كونها جزءًا من وصف مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحركات السياسية، إلا إن تحليلها تواجهه صعوبات في فهمها على نحو دقيق. وفي المنتصف بين الوصفي والمعياري، يهدف تحليل الشعبوية إلى فهم شيء مهم وحاسم يتعلق بالحقائق السياسية والأيديولوجية التي تشير إليها. ولا يترجم الغموض الواضح للمفهوم إلى أي شك يتعلق بأهمية وظائفها المنسوبة إليها(5). وهذه نقطة جوهرية في بحث هذه الظاهرة. 

   يبدو في الوقت الحالي على الأقل، إن وضع مفهوم مناسب لمصطلح الشعبوية يبدو بعيد المنال؛ إذ تعاني الكتابات من ضبابية في المفهوم حين يتعلق الأمر بالشعبوية، وتشمل هذه الضبابية المشكلات التالية: تُعَرّف الشعبوية بأنها استراتيجيا وخطاب وأيديولوجيا وأسلوب سياسي في الوقت نفسه. ولا تقدم التعريفات في معظمها أي تحليل لكيفية الارتباط الجوهري لهذه الظاهرة بالمنطق السياسي. ويُغفل معظم التفسيرات المعاصرة للشعبوية مفهوم “الهيمنة”(6)، الذي كما نعرف نظّر له أنطونيو غرامشي بعمق.     

  خلفية نظرية

    يمكن تحديد أربع مقاربات لتفسير الشعبوية. ثلاث منها تعتبرها كحركة وكأيديولوجيا في الوقت نفسه. وتقلصها المقاربة الرابعة إلى ظاهرة أيديولوجية خالصة. بالنسبة إلى المقاربة الأولى فإن الشعبوية هي التعبير النموذجي الذي يحدد الطبقة الاجتماعية ويميز بالتالي الحركة وأيديولوجيتها. وتعتبر الشعبوية نموذجًا لطبقة اجتماعية متميزة، بغض النظر عن المثال الملموس الذي تم اختياره. لذلك، بالنسبة إلى أولئك الذين ركزوا على دراسة روسيا في القرن التاسع عشر، فإن الشعبوية ستمثل على نحو أساسي أيديولوجية الفلاحين، أو أيديولوجيا وضعت من قبل المثقفين الذين يمجدون القيم الفلاحية. أما إذا كان موضوع التحليل هو الشعبوية في أمريكا الشمالية، سيتم اعتبارها أيديولوجيا وتعبئة نموذجيتان لمجتمع الفلاحين الصغار ضد الحياة الحضرية والأعمال التجارية الكبيرة. أخيرا، في أمريكا اللاتينية، حيث اكتسبت تعبئة الجماهير الحضرية في كثير من الأحيان دلالات شعبوية، سوف ينُظر لها على أنها تعبير سياسي و أيديولوجي إما للبرجوازية الصغيرة وإما للقطاعات المهمشة أو للبرجوازية الوطنية، تسعى لتعبئة الجماهير من أجل المواجهة الجزئية مع الأوليغارشية المحلية والإمبريالية. لكن مشكلات هذا النوع من التفسير تكون واضحة: فهو يتجنب الظاهرة التي ينوي تفسيرها. وبما أنه توجد اختلافات أساسية بين ما يطلق عليه بالحركات الشعبوية، لذلك ما يتم عمله بشكل عام في مثل هذه الحالات، هو الاستمرار في نقاش ظاهرة الشعبوية دون تحديدها(7)، على وجه الدقة وهذا ما أشرنا له في تناول مفهوم الشعبوية.

     بالنسبة إلى مؤيدي نظرية التحديث، شكلت الشعبوية وسيلة لدمج الطبقة العاملة الحضرية والطبقات المتوسطة، في السياسة، والتي ظهرت بعد انهيار السياسات الأوليغارشية وانتقال تلك البلدان إلى الرأسمالية والحداثة. أما بالنسبة إلى الماركسيين ومنظّري التبعية، فالشعبوية هي حركة سياسية متعددة الطبقات ذات صلة بمرحلة التصنيع القائمة على إحلال الواردات. ووفقا لهذا التفسير “سمحت السياسات الدولتية والقومية القائمة على إحلال الواردات للزعماء الشعبويين ببناء تحالفات عابرة للطبقات بين العمالة الحضرية، والقطاعات الوسطى، وأصحاب الصناعة المحليين”(8). وبغض النظر عن اختلاف المقاربتين، فإنهما اعتبرتا أن الشعبوية تقتصر على الظروف التاريخية والسياسية للتنمية في العالم شبه الطرفي، و”توافقتا على أهمية تعريفها من الناحية الاجتماعية، المتجذرة في علاقات الإنتاج وظروف السوق”(9)، علما أن هذه الظاهرة لا تشهدها البلدان شبه الطرفية فقط وانما البلاد الرأسمالية المتقدمة.

    لا تكمن وحدة الشعبوية في وحدة محتوى برامج الحركات الشعبوية المختلفة؛ إذ تاريخيا وفي الوقت الحالي، فإن الأمر يشير إلى عكس ذلك تماما؛ إذ تكمن وحدتها في وحدة الظروف. لذلك يتطلب تحليل الشعبوية تقسيم تمظهر هذه الظروف إلى عدد من الأبعاد ذات العلاقة. الوحدة التي يمكن أن تظهرها الشعبوية فيما بعد لا تكمن في التفاصيل الخاصة بسلسلة من الظروف المحددة لكن في نمط متكرر لنوع مثالي من العلاقات الاجتماعية(10)، وعلاقتها بالبنية الاقتصادية زمانيا ومكانيا.

    يذكر روزانفالون إن السمات الخصوصية للمثال النموذجي للشعبوية تتحدد بتغيّر الواقع، وهكذا، فإن معطيات السياق التاريخي، ومتغيرات الوضع الجيوسياسي، ووضع المؤسسات، ومكانة الدين في المجتمع، وملامح الشخصيات السياسية المعنية وغيرها من المعايير، كلها ترسم مظاهر أساسية تؤهل للحديث عن شعبويات (في صيغة الجمع)(11). وهذا هو واقع الحال إذا نظرنا إلى خريطة توزيع الشعبويات عالميا.        

     لا يستند الحكم النظري لتصور “الشعب” كتصنيف سياسي إلى البنية الاجتماعية؛ إذ لا يشير هذا إلى مجموعة معينة، بل إلى فعل مؤسسي يخلق قوة جديدة من مجموعة من العناصر غير المتجانسة، يُطلق عليها الشعب، تكون وحدة المجموعة هذه ببساطة نتيجة تجميع المطالب الاجتماعية التي يمكن، بالطبع، أن تتبلور في الممارسات الاجتماعية المترسبة(12)، أي المترسخة عبر الزمن في البنية الاجتماعية.

أسباب ظهور الشعبوية

      هناك الكثير من الأسباب المركبة والمتداخلة التي تقف وراء ظهور الشعبوية وتوسعها وهي أساسا ترتبط بالبنية الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية والتحولات التي تشهدها، خصوصا تعمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والخلفية التاريخية للتطورات السياسية والحروب والأزمات التي مرت بها مجتمعات معينة.  

    تظهر الشعبوية استجابة إلى المشكلات التي يفرزها التحديث ونتائجه. وتكون المشكلات  الأكثر أهمية هي تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والسلطة السياسة. وتظهر الحركات الشعبوية في المجتمعات والمجموعات الاجتماعية التي أصبحت تدرك أنها باتت في موقع هامشي بالنسبة إلى مراكز السلطة. ويمكن النظر إلى الفعل الاجتماعي الذي يشكل قاعدة الحركات الشعبوية على أنه مدفوع بمواجهة غير مباشرة مع مشكلات التنمية الاقتصادية(13)، خصوصا في البلدان النامية.

    تكتسب الشعبوية زخما من الأزمات؛ فالأزمة أو التهديد يؤديان إلى المطالبة بالتصرف فورا والقيام بإجراءات استثنائية. ويمكن ملاحظة ذلك في أوروبا، حيث الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي تلتها أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو وأزمة المهاجريين، مصحوبة بأزمات إقليمية كأزمة شبة جزيرة القرم، والحرب الأهلية السورية، وأزمات طويلة شملت الديمقراطية أو الأحزاب القائمة أو الرأسمالية. وتسمح الأزمات وحالات الطوارئ بتحويل لغة الفاعلين السياسيين في النقاش السياسي باتجاه الراديكالية، وتكييفها لتتحول إلى لغة مباشرة وذات منطق بسيط(14) كي تتقبله وتتفاعل معه قطاعات واسعة من الجماهير.

    إن ما يُعدّ أزمة تمر بها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة الناتجة من ترابط تقليدين هما التقليد الديمقراطي والتقليد الليبرالي مع انتشار الشعبوية اليمينية في البلدان الغربية ليس بظاهرة جديدة كليا، بل هو من تجليات ما يمكن تسميته أزمة دائمة للديمقراطية في ظروف جديدة(15). وهي في الوقت نفسه أزمة الرأسمالية كنظام التي تكرر على بشكل دوري كما حللها كارل ماركس بعمق.

    من الواضح من خلال اشتقاق معطيات إثنوغرافية من المقابلات التي أجريت مع مؤيدي ترامب الانجيليين، وعلى الرغم من الأسباب الكثيرة التي قدمت لدعم ترامب، لكن ما يشتركون فيه هو الخوف من احتمال فقدان وضعهم الاجتماعي الحالي، والغضب من أي شخص يُنظر إليه على أنه تهديد لأمنهم الثقافي. يمكن أن تُفهم هذه الديناميات جيدا وتؤخذ في الاعتبار من خلال الاعتماد على تحليل ثيودور أدورنو للجناح اليميني للحركات الشعبوية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. من منظور عمله هذا، يُفسر دعم الإنجيليين لترامب من خلال الطرق التي يدعو بها أتباعه في خطبه وكذلك شخصيته إلى التخلي عن ذواتهم الفردية والاندماج في عمله الديني. وتوضح النظرية النقدية لأدورنو كيف أن “ابتزاز ترامب في الدين” يتجاهل مضمون المسيحية، بينما يستغل طاقة الحركات الإنجيلية والسخط الاجتماعي. وتساعد منهجية أدورنو في تفسير هذا التطور باعتباره نتيجة التغيرات البنيوية في المجتمع، والتي تؤدي على نحو متزايد إلى تفتيت المؤسسات الوطنية الكبيرة، وترك الناس يربطون أنفسهم بالجلبة المتنافسة على حساب ذواتهم الفردية(16)، وهذا هدف مركزي من أهداف الشعبوية.

  يتطلب كذلك دراسة انبثاق الحركات الشعبوية المستبدة ليس فقط ملاحظة دقيقة ودراسة أثنوغرافية، ولكن بحسب كريستوفر بريتين  يحتاج  عمل أدورنو المهم أن يُكمل من خلال تحليل أكثر عمومية للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تبني وتشكل الدوافع والاهتمامات التي يعبر عنها أتباع مثل هذه الحركات(17).

    من الدراسات المتميزة في مقاربتها لظاهرة صعود التيار الشعبوي في أمريكا وأوروبا، الدراسة التي قدمها عزمي بشارة، والتي حاولت أن تقدم مدخلا تفسيريا يركز على فكرة استيراد صراع الحضارات إلى داخل المكونات الثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا، وإمكان تحول هذه الثقافات في ظل هذا الصراع المحتدم إلى هويات، وتشير الدراسة إلى تبني فكرة صراع الحضارات من قِبَل قوى دولية أخرى كالصين وروسيا، إلى جانب تزايد الفجوة بين النخبة الليبرالية والفئات المحرومة من الأقليات والطبقة العاملة من البيض في أمريكا وأوروبا؛ ما يجعل العلاقة بين هاتين الفئتين أقرب إلى الصراع منها إلى التحالف(18). وهذا التحليل فيه بُعد طبقي واضح.

    في هولندا مثلا، يمكن أن ينظر السياسيون الشعبويون والمحافظون إلى الاختلاط على أنه معادل أو مساوٍ لاندماج الأقليات الإثنية في الحياة الهولندية الحديثة. ووفقًا لوجهة النظر هذه، يفترض أن المهاجرين سيندمجون، وفي حالة “فشل” اندماجهم يُنظر إليهم على أنهم هم السبب وراء هذا الفشل. ونتيجة لذلك، يُوضع المهاجرون، وخصوصًا المسلمين، في موقف دفاعي. وعلى المستوى السياسي، ثمة ميل إلى لوم المهاجرين المسلمين كونهم غير راغبين في الاندماج في المجتمع الهولندي(19). ومن الواضح أن هذه نظرة مبسطة لعملية الاندماج الاجتماعي التي يشترك فيها طرفان المجتمعات المستقبلة للمهاجرين والمهاجرون وهي صيرورة مستمرة لا تتوقف عند نقطة معينة، وتؤثر فيها العوامل الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات المستقبلة وفي المجتمعات المرسلة للمهاجرين.

    الخطاب الشعبوي

    احتل تحليل خطاب الشخصيات والحركات الشعبوية حيزا مهما في الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع. وبحسب عزمي بشارة فإن “ظاهرة الشعبوية السياسية نمط من الخطاب السياسي، يتداخل فيه المستويان الخطابي والسلوكي بشكل وثيق، وقد يتفاعل هذا الخطاب مع عفوية تقوم على مزاج سياسي غاضب لجمهور فقد الثقة بالنظام والأحزاب السياسية القائمة والنخب الحاكمة، كما يوظّف بوصفه استراتيجية سياسية في مخاطبة هذا المزاج هادفة إلى إحداث تغيير سياسي عبر الوصول إلى الحكم. ويتحول هذا الخطاب إلى أيديولوجيا في الحالات المتطرفة”(20). وهنا تكمن خطورة وصول الأحزاب الشعبوية للسلطة على الديمقراطية حتى عن طريق الانتخابات والتي لا تنظر له هذه الأحزاب بأنه تداول سلمي السلطة بقدر ما تنظر إليه بأنه عهد جديد وقطيعة مع ما سبقه.

    يأتي الخطاب ليرسم علاقة جدلية مع المزاج. وهذه الجدلية مسألة خلافية في تحليل الخطاب خصوصا، والعلوم الاجتماعية عموما. يؤمن أرنستو لاكلو وشانتال موف أن الخطاب يخلق الواقع الاجتماعي، بينما يعتقد الماركسيون، أن الخطاب نتاج للواقع الاجتماعي. ويقف المحللون النقديون للخطاب موقفا وسطا، فالخطاب ينتج المزاج الغاضب، وهو في الوقت نفسه نتاج ذلك المزاج. وبهذا يعمل الخطاب على تعزيز الاستياء وتحويله إلى مواقف معادية لفئات اجتماعية أو مؤسسات سياسية أو نخب حاكمة(21)، كما نلاحظ ذلك في خطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا خصوصا. 

    وعن الشعبوية في منطقة آسيا غير المتجانسة من ناحية التطور الاقتصادي والسياسي، والتنوع الثقافي، والبنية الإثنية. إضافة إلى اختلاف الانقسامات الاجتماعية الرئيسية عبر البلدان. يُلاحظ أن انبثاق الشعبوية في هذه المنطقة يُظهر العديد من الأنماط المتميزة التي تشمل إعادة توزيع الشعبوية (تنجم من المستويات العالية لتفاوت الدخل والفقر في المناطق الريفية؛ يعني الانقسام بين النخب السياسية والتجارية الحضرية والفقر في المناطق الريفية والحضرية)، والشعبوية الإثنية-الدينية، والشعبوية التقدمية والشعبوية المستبدة. ومن خلال دراسة 11 حالة، وجد أن كل نمط من الحركات الشعبوية له أهداف وفن خطابة واستراتيجية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تختلف أيضا تأثيرات الشعبوية على أداء الديمقراطية(22)، اعتمادا على مدى رسوخ الديمقراطية في تلك البلدان.

   وفيما يتعلق بما يُسمى بالشعبوية المستبدة، نأخذ العراق مثالا، في زمن حكم حزب البعث؛ إذ يذكر زهير الجزائري “في ضوء الخطاب الديني الجديد تغيرت مشروعية القائد. فحتى عشية غزو الكويت كان هناك اختلاط بين الرمز الشعبوي الذي يجسد عراقية العراقيين بلهجاتهم وأزيائهم ومهنهم المختلفة، وبين الرمز القومي الذي برز بعد غياب عبد الناصر وزيارة السادات للقدس باعتباره تجسيدا للبطل التاريخي العربي الذي بشر به عفلق. الاستعارات الإسلامية ارتفعت في سنوات الحرب الأخيرة مع إيران لقطع الطريق على الحركات الدينية المحلية ومواكبة المد العربي الإسلامي، إلا أن الخطاب السائد هو الخطاب القومي عموما”(23).         

الشعبوية والأزمة

    تُعد الأزمة مكونا مهما في دراسة وتحليل الشعبوية عبر تاريخها وإلى الوقت الحالي. فإذا عدنا إلى الازمة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في أوروبا، فقد حللها الكتّاب الماركسيون بعمق. إذ كانت تحدث كل التوجهات الخاصة بالمرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالي، وخاصة فيما يتعلق بالتحول في مواقف الطبقات والمصالح، بشكل أكثر وضوحًا  خلال الأزمة، وذلك على نحوين: فهي تصبح مبالغ فيها بسبب الظروف المحيطة، حتى أن بعض التغيرات تصبح معكوسة، ويتركز التحول في فترة قصيرة من الزمن. ففي غضون سنوات قليلة خلال الأزمة تضاعفت البطالة عدة مرات. في الوقت نفسه، لم يحدث تقلص في جهاز التوزيع أو الإدارة، بحيث تحمّل تكاليف انخفاض العمل أولئك الأشخاص المنخرطون في الإنتاج بشكل شبه حصري. وفي ذات الوقت، نمت الطبقة المتوسطة المدمرة ولكن غير البروليتارية بسرعة، في حين زاد بوتيرة سريعة عدد الأشخاص الذين لا يشتغلون في عمل انتاجي  فوق المعدل المتوسط. وبالضرورة تبع ذلك انخفاض في الدور الإنتاجي للفئات المختلفة من المسؤولين والعاملين ذوي الياقات البيضاء(24). وهذا ما زاد من تعمق الأزمة التي مهدت لصعود الفاشية والنازية واندلاع الحرب العالمية الثانية. 

    إن استغلال الأزمة يمثّل جانبا حيويا من الشعبوية المعاصرة. وبينما تنزع المفاهيم المهيمنة إلى النظر إلى الأزمة باعتبارها عاملا خارجيا فقط بالنسبة إلى الشعبوية، لكن ينبغي أيضًا النظر إلى الأزمة باعتبارها سمة داخلية للشعبوية، بالنظر إلى أن الأزمات لا تكون أبدا حوادث “محايدة”، لكن يتم استغلال الأزمات بنشاط من قبل الجهات الشعبوية الفاعلة التي تحاول تسليط الضوء على الفشل من أجل نشر الشعور بالأزمة. بكلمات أخرى، بينما تمثّل الأزمة “مرحلة” مهمة تتجلى فيها العروض الشعبوية، فإن الجهات الشعبوية الفاعلة تلعب دورا حاسما في تهيئة المسرح للأزمة. من الوضح، أن أهمية الأداء في الشعبوية المعاصرة، يدل على أن الأزمة لا يمكن أن تصبح أزمة إلا من خلال الأداء أو الوساطة(25) اللذين تقوم بهما الشخصيات والحركات الشعبوية المنظمة.

    نما مع ظهور الإسلاموفوبيا، في كثير من البلدان الغربية، خطاب سياسي يميني متطرف يسعى بشكل حثيث إلى استثمار تحولات النظام الدولي، والأزمات الاقتصادية العالمية، وحالة الاستقطاب التي تجتاح أقاليم واسعة من العالم. ومع  موجات اللجوء الكبرى القادمة من سوريا والعراق وبلدان آسيوية وأفريقية، خلال السنوات الأخيرة، انتشر خطاب الكراهية على نحو أكبر، وترافق ذلك مع صعود لافت للتيارات اليمينية، ففي الولايات المتحدة، ترافق صعود الشعبوية في ظل إدارة ترامب، مع تنام غير مسبوق في جرائم الكراهية ضد المسلمين(26). وهذا موثق وقد اشارت له العديد من الجهات السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة.

    كما شهدت الانتخابات الأوروبية في السنوات الأخيرة انتصار الأحزاب اليمينية المتطرفة وتبوُّئها مكانة مركزية في الخريطة السياسية في أوروبا، حيث شهدت العديد من البلدان الأوروبية تراجعا اقتصاديا كبيرا، مع فشل الحكومات اليسارية واليمينية في تحقيق برامجها السياسية ووعودها الانتخابية، ما دفع الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى واجهة الأحداث، حيث تنتصر الخطابات القومية والمعادية للهجرة على حساب الأحزاب المعتدلة من اليسار واليمين على حد سواء(27). لا ننسى أن العمليات الإرهابية التي نفذتها الجماعات الإسلامية المتطرفة خصوصا في أوروبا مثل القاعدة وداعش لعبت دورا في تنمية التوجهات اليمينية المتطرفة اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. ويشير أسامة السعيد “إن القراءة المتعمقة لتراث العداء … تكشف أن ثمة سياقات أكثر عمقا وتنوعا مما يبدو عليه التحليل الأولي لذلك الخطاب، فهو لا يصدر إلا عن بُنى فكرية وتاريخية وأيديولوجية، كما أنه يرتبط بمتغيرات جيوسياسية واقتصادية متداخلة”(28)، خصوصا الأزمات الاقتصادية والمالية وآخرها أزمة عام 2008. 

     وفي هذا السياق، أكد أنطونيو غوتيريش، السكرتير العام الأمم المتحدة، في كلمته أمام الجمعية العامة بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة كراهية الإسلام، الإسلاموفوبيا، في 15 آذار| مارس 2023، “إن الكراهية المتنامية التي يواجهها المسلمون ليست حدثا منعزلا، ولكنها جزء أصيل من عودة القومية الإثنية، وأيديولوجيات النازيين الجدد الذين يتشدقون بتفوق العرق الأبيض، والعنف الذي يستهدف الشرائح السكانية الأضعف”(29). وهنا بالتأكيد يشير إلى المهاجرين المسلمين والأقليات الأخرى التي تكون هدفا لخطاب الكراهية والعنصرية لليمين الشعبوي.

الشعبوية والفاشية

سبق للمناضلة الألمانية كلارا زيتكن قبل مئة سنة أن قالت “عندما نفهم أن الفاشية تمارس تأثيرا حارقا وكاسحا على الجماهير الاجتماعية، التي فقدت أمن وجودها السابق وفي الغالب قناعتها في نظام اليوم، سنكون عندها فقط قادرين على محاربتها”(30). وهذا ينطبق على الحركات الشعبوية الحالية خصوصا ذات التوجه الفاشي.

     ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية وارتباطها بالشعبوية اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما أن النظرية الماركسية عادة ما تعتبر أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية. ومن بين الأعمال هذه كتابات غرامشي حول الفاشية التي  جمعت في عام 1974 ونشرت في روما (31).

     تشترك الشعبوية والفاشية في سمة أساسية، هي “إيمانها بأن الأمة يتم تعريفها وفقا للدين أو العرق ممثلا في أهم مصادر الهوية التي يشترك فيها عرق ما”، ومن هنا تأتي أهمية الوعد الذي يقطعه كلاهما “بتوحيد الأمة في أصلها النقي الأول تحت قيادة قوية”. ولعل هذا التماثل في الوسائل والأهداف بين الشعبوية والفاشية هو ما دفع المحكمة في فرنسا عام 2016 إلى إصدار حكم يسمح لخصوم زعيمة حزب الجبهة الوطنية مارين لوبان، بمناداتها بالسياسية الفاشية(32).

    في هولندا، كانت النزعة الفاشية حاضرة في خطاب إيفا فلاردينجربروك(33) في مؤتمر للسياسيين اليمينيين المتطرفين والمتعاطفين الذي عقد مؤخرا، حيث تحدثت عن “الغزاة” الذين “سمحت لهم النخبة الفاسدة بالدخول”، وعن “السكان الأوروبيين المسيحيين البيض الأصليين الذين يتم استبدالهم بوتيرة متزايدة باستمرار”. ودعت إلى تدمير الاتحاد الأوروبي: “لقد أعلنت نخبنا الحرب علينا، والآن حان الوقت لكي نلبس سلاح الله، ونقاتل، وننتصر”. وقد شوهد خطابها بالفعل 50 مليون مرة على تويتر X، وتلقى الكثير من الدعم من الدوائر اليمينية المتطرفة، وأثار الرعب خارجها بشكل أساسي(34). وهذا دليل على استغلال مسألة المهاجرين في تصعيد الخطاب الشعبوي اليميني المتطرف، فيما تؤكد الدراسات والبحوث الأوروبية الأكاديمية حاجة البلدان الأوروبية المتزايدة للعمالة المهاجرة نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان.

     في الولايات المتحدة، وارتباطا بالنزعة الفاشية لليمين المتطرف، وصف ترامب خصومه في حملته الانتخابية الحالية بـ “الحثالة البشرية” وسبق أن وصف اليساريين الأميركيين بالـ “حشرات”، والمهاجرين الذين يعبرون الحدود من المكسيك بأنهم “يسممون دماء بلادنا”(35). كل ذلك لكسب المزيد من الدعم من الأوساط اليمينية المتطرفة خصوصا وسط السكان البيض.

    خطر الشعبوية

      يُعدُّ صعود الأحزاب والقادة الشعبويين في بلدان أوروبية ذات تجارب ديمقراطية عريقة، ظاهرة شديدة الأهمية والخطر؛ لما تحمله من تهديد واضح لهذه النظم. وعلى الرغم من صعود اليمين الشعبوي في عدة بلدان ديمقراطية في أوروبا شرقا وغربا، لم يستشعر دارسو النظم الديمقراطية خطر التحول الشعبوي على هذه النظم إلا مع وصول الشعبوي ترامب إلى البيت الأبيض؛ إذ بدا لهم أن حجم الخطر الذي يحدق بتجارب البلدان الديمقراطية الراسخة أكبر من أن يُتجاهل، وقد وصل إلى مركز المنظومة الليبرالية(36). وهذا الخطر سيكون أكبر فيما لو نجح ترامب في الفوز بالانتخابات الرئاسية القادمة.

     تتمثل النزعة الشعبوية الحقيقية والخطيرة في عدم مسؤوليتها وإهمالها للحقائق والظروف والقيود، فضلاً عن ميلها نحو التطرف. وعندما يسير التطرف الاجتماعي و/أو التطرف القومي جنباً إلى جنب مع الخطاب الشعبوي، فيتعين علينا جميعاً أن ندرك أن جوهر الديمقراطية في خطر(37).

     ينبغي تمييز الخطر الذي تمثّله الشعبوية على الديمقراطية بين تهديدها لديمقراطية ليبرالية راسخة قادرة عموما على احتوائها، وخطرها على الديمقراطيات الوليدة، ولا سيما تلك التي نشأت بالانتقال من نظام سلطوي ولم تتطور بالتدريج عن ليبرالية سابقة عليها؛ أي لم تترسخ فيها الحقوق والحريات بعد. فالشعبوية في هذه الحالة يمكن أن تشكّل خطرا حقيقيا(38). وهذه الحالة تنطبق بوضوح على العراق في ظل تجربته الديمقراطية المتعثرة التي نتجت عن الاحتلال وعلى بلدان عربية ونامية أخرى.

     تكمن المشكلة في التعبئة الشعبوية لتوجيه الغضب ضد المؤسسات الديمقراطية وليس ضد السياسات فحسب. والأخطر هو تحول الأسلوب الذي يقسم المجتمع إلى “نحن” متخيلة يدّعي المنتمون إليها أنها الشعب من جهة، و “هم” متخيلة من أعداء الشعب، ومؤلفة من النخب والسياسيين والمثقفين والأحزاب عموما، إلى أيديولوجيا. هنا لا تعود الشعبوية مجرد استراتيجية في العمل السياسي بل تدخل في مجال الأيديولوجيا(39). وهذا يقربها أكثر من الفاشية والنازية.

     يشرح روزانفالون مسألة التمثيل في الشعبوية، ويأخذ أمثلة من أمريكا اللاتينية في أواسط القرن العشرين، حيث التعارض بين الشعب والنخبة كان أكثر وضوحا لدى المواطنين، وفي هذا السياق برزت موضوعة “الرجل الأمة”. ويقتبس عن خورخي جايتان الزعيم الكولومبي البارز في الثلاثينيات والأربعينيات، من القرن العشرين قوله “لست فردا، بل أنا شعب (…) وهو ما استلهمته الشعبويات اللاحقة التي ظهرت في أرجاء القارة الأمريكية”. غير أن فكرة “الرجل الأمة” لم تقتصر على شعبويات أمريكا اللاتينية. ففي أثناء الحملة الانتخابية في فرنسا عام 1995 رفعت الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في ملصقاتها  شعار “لوبان هو الشعب”. ويدلل روزانفالون على استمرار هذا النهج لدى سياسيين شعبويين معاصرين مثل الفرنسي جان ميلونشون، حيث قال في تصريحات: “الجمهورية؟ ما هي الجمهورية؟ أنا الجمهورية”، “شخصي مقدس”، “أنا سبعة ملايين شخص” ويقصد هنا عدد الذين صوّتوا له في الانتخابات الرئاسية. وفي الولايات المتحدة قال ترامب في خطاب التنصيب في مؤتمر الحزب الجمهوري “أنا صوتكم”(40). علما يُصنف ميلونشون بأنه يساري متطرف. 

    عملت استراتيجية الخطاب الشعبوي في أمريكا وبريطانيا، عبر مزيج متنافر من تلمس المشكلات الحقيقية للطبقة المتوسطة والعاملة، وتوجيه اللوم إلى المؤسسة النخبوية، على خلق تحالف عابر للانتماءات الطبقية، ليتم في النهاية تسديد الرمية بعيدا جدا عن الهدف، بإعطاء وصفات خاطئة للحل تركز على العداء للمهاجرين والأقليات وتهدد قيم الديمقراطية(41)، وهذا هو الخطر الأكبر حيث يمكن أن تمهد لما يسمى بالديمقراطية المستبدة.

   لا يقتصر أثر الخطاب الشعبوي على فترة الانتخابات الرئاسية في أمريكا حتى مرحلة الفوز فقط، وإنما من المتوقع أن يضفي هذا الخطاب طابعا من الشرعية على حالات العداء للأجانب والأقليات والمرأة في المجتمع الأمريكي، خصوصا تلك النزعات المتسترة والتي لم يكن في إمكانها الظهور في الأزمان العادية، إذ ستتجه تحت الغطاء الواسع الذي يوفره وجود رئيس شعبوي، إلى أن تعبر عن نفسها صراحة وبقوة على هيئة أحداث ومواقف علنية، وربما تطورت إلى اعتداءات وهجمات بدافع الكراهية. أما خطر الحرب الأهلية، فهو احتمال وارد، وخصوصا من المناصرين للديمقراطية الليبرالية والمدافعين عن حقوق الأقليات لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وقد بدأت بوادر حالات التمرد والمقاومة للتوجه الشعبوي في زمن رئاسة ترامب في الظهور عبر تظاهرات وحشود غاضبة(42). ومن المحتمل أن تكون المقاومة أشد في حالة فوز ترامب في الانتخابات القادمة.     

     أما على مستوى المنطقة العربية، يذكر الكاتب حسن أوريد أن “الشعوب العربية والسَّرديّات الجامعة؛ من قوميّة عربيّة، إلى إسلامٍ سياسي، فانتشاء خلال (الربيع العربي)، جميعها منيت بإخفاق في مستوى كلّ موجة، ولم يبق من بديلٍ لهجير الكبوات سوى سراب الشعبويّة. وهل يكون الدواء من صميم الداء: الهروب من رمضاء تشوُّه السياسة، وكساد الاقتصاد، وكبوة الثقافة، إلى هجير الشعبويّة؟ لا بديل يلوح في أفق العالم العربي، سوى السلطويّة متلفّعةً بلبوسٍ شعبوي”(43). وهنا يبدو أوريد متشائما، لأن ديناميات التحولات الاجتماعية والاقتصادية في البلدان العربية على الرغم من تفاوتها، لابد وأن تُعيد الفرز والاصطفاف الاجتماعي، وهذان العاملان يسهمان في خلق مقدمات للفعل السياسي بأشكاله المتنوعة، بما فيها الانتفاضات والثورات والتي نعتقد أنها ستكون أنضج مما سبقها بحكم تراكم التجارب التاريخية، باتجاه السعي من أجل بناء نُظم ديمقراطية ترتكز على دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية مهما طال الزمن.

الهوامش

1 – أبو بكر عبد الرزاق، “الديمقراطية الليبرالية بين النخبوية والشعبوية: دراسة أسباب صعود التيار الشعبوي في أمريكا وتداعياته”، سياسات عربية، العدد 26، أيار| مايو 2017، ص 68.

2Ernesto Laclau, Politics and Ideology in Marxist Theory: Capitalism, Fascism, Populism (London: NLB, 1977), p. 143.

3 – سعيد بكار، “في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟ (مراجعة كتاب عزمي بشارة)، سياسات عربية، العدد 54، كانون الثاني| يناير 2022، ص 146.

4 – طارق عزيزة، “قرن من الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد” (مراجعة كتاب بيير روزانفالون)، تبيُّن، العدد 48، المجلد 12، ربيع 2024، ص 158.   

5Ernesto Laclau, On Populist Reason, London/ New York: Verso, 2005, p. 3.

6 – فرانك ستنغل وآخرون (تحرير)، الشعبوية والسياسة العالمية، سبر الأبعاد الدولية والعابرة للحدود، ترجمة محمد حمشي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 71-72.

Laclau, Politics and Ideology, pp. 144-145.

8 – ستنغل وآخرون، ص 75.

9 – المصدر نفسه، ص 75-76.

10- Ghita Ionescu & Ernest Gellner, Populism its meanings and national characteristics, London: Weidenfeld & Nicolson, 1969, p. 180.

11 – عزيزة، ص 161.   

12- Laclau, On Populist, p. 224.

13- Ionescu, pp. 180-181 & Gellner.

14 – ستنغل وآخرون، ص 86.

15- عزمي بشارة، “الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية”، سياسات عربية، العدد 40، أيلول| سبتمبر 2019، ص 9.

16- Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism , Brill, 2021, p. 384.

17- bid., pp. 384-385.

18 – عبد الرزاق، ص 70-71.

19- Thaddeus Muller & Peer Smets, “Welcome to The Neighbourhood: Social Contacts between Iraqis and Natives in Arnhem, The Netherlands Local Environment, vol. 14, no. 5 (May 2009), pp. 403-404.

20 – بشارة، ص 8.

21 – بكار، ص 148.

22 – Sook Jong Lee et al., (ed.) Populism in Asian Democracies: Features, Structures, and Impacts, Leiden/ Boston: Brill: 2015, p. 211.

23 – زهير الجزائري، المستبد، صناعة قائد- صناعة شعب، ط 2، بغداد: دار سطور للنشر والتوزيع، 2023، ص 306.

24 – David Beetham (Translation), Marxists in face of Fascism, Manchester University Press, 1983, p. 303.

25- Benjamin Moffitt, The Global Rise of Populism, California: Stanford University, 2016, pp. 131-132.

26 – أسامة السعيد، “سياقات بناء (الإسلاموفوبيا) في الخطاب الغربي”، السياسة الدولية، العدد 233، يوليو 2023، ص 266.

27 – المصدر نفسه، ص 266.

28 – المصدر نفسه، ص 262.

29 – عبير ياسين، “الإسلاموفوبيا… الكراهية والعنصرية في خدمة التطرف والإرهاب”، السياسة الدولية، العدد 233، يوليو 2023، ص 254.

30 – رشيد غويلب (ترجمة)، “تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)”، الثقافة الجديدة، العدد 442، كانون الثاني 2024، ص 83.

31- هاشم نعمة، “في فهم الفاشية”، طريق الشعب، 28 نيسان| أبريل 2024.

32 – عبد الرزاق، ص 69.

33 – سياسية سابقة في حزب الحرية من أجل الديمقراطية الهولندي FVD اليميني المتطرف ومنذ بضع سنوات صانعة رأي يمينية متطرفة معروفة دوليا.

34- Floor Rusman, Fascisme als zinloos etiket”, NRC Handelsblad, 4 mei 2024.

35 – “ترمب يصف خصومه بـ (الحثالة البشرية)”، الشرق الأوسط، 28 مايو 2024.

36 – عبد الرزاق، ص 68.

37 –p. 93. Hannes Swoboda & Jan Wiersma (eds.), Democracy, Populism and Minority Rights, Renner Institute, 2008,

38- بشارة، ص 8.

39- المصدر نفسه، ص 9.

40 – عزيزة، 159-160.

41- عبد الرزاق، ص 73.

42 – المصدر نفسه، ص 75.

43 – “إغراء الشعبوية في العالم العربي… الاستعباد الطوعي الجديد”، (عرض لكتاب حسن أوريد)، الشرق الأوسط، 8 تموز| يوليو 2024.

نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول| سبتمبر 2024

أحدث المقالات