ومن يدريك ما نايُ الأمومة
(القصيدة الرائعة التي قرأها عصر اليوم الأحد ٣١ تموز ٢٠١٦ الشاعر الكبير (موفق محمد) في ساحة التحرير بمناسبة الذكرى الأولى لانطلاقة التظاهرات الاحتجاجية..)
أبعدَ كلَّ هذا لا نقطّع أصابعنا ندماً
بين قلب المالومة
ووليدها في جبهات القتال
وأعني العراق كلّه
سورة يوسف
وطفلٌ يلثغ
وشمس تموز .. ونذور .. ومراقد
وشموعٌ
دهدى
بها الموج .. وقوس كمان ونواح
وحمام
فعبر كل هذه السيطرات
وباللّحظةِ التي تئزُّ بها الرصاصة في قلبه
تكون المالومة أقرب إليه من حبل الوريد
فتسمع النفسَ الأخيرَ لوليدها لاسعاً عبر ناي الأمومة
ومن يدريك ما ناي الأمومة
إنه ضلعها الذي رصّته لصق ضلعه ليقوى
وطرَّزته بسواد قلبها كي تقرَّ
وابيَّضتْ عيناها ثم ثقبَّه الرصاص
فاستوى بين شفتيّ الريح وأصابعها
وقال وداعاً سأبدأُ من جديد
فمن الذي يصلُ الشهيدَ سوى الشهيد
ومن ذا الذي يصلي ويموتُ من ظمأٍ الى وطن ويبعثُ من جديد
وشبلشك يا بين بابن النايحة
والقبور تلطم على صدور موتاها
من يومها لم تترك الريح جذراً
ولم تلتمس عذراً
فاشتعل البلدُ حروباً تولّعت في فتّ قلوب الأمهات
فلا أحدٌ يموت حتف أنفهِ
ولم يعد عزرائيل يستلّها كما تستلُّ الشعرة من العجين
فلقد جاؤوك بالقارعات فضاقت المقابر والبيوت بالعباءات السودْ
والنسوة الياباسات الصابرات اللاطمات المثقلات بالشامخات
الراسيات من الوجع الأزرق والى آخره من الهدايا
التي يجود بها سياسيو الدبابات
فما أصعبَ أن تسّاقطَ النفس أنفساً
في جوف هذا اللّيل العاتم الذي تذهل جهنم
وتصطكُّ من خزنته وشياطينه..
فمن ذا الذي يستطيعُ أن يرى أطفاله
حفنة من عيون محروقة وترى.
وماذا ترى .. لست أدري
ولا السراكيل التي تحكمنا نيابة عن الله تدري
فلقد جاءونا مدججين بأسلحة الدمار الشامل
وخرجنا لهم من غيابة الجبِّ عشاةً نترنّحُ
من قاصمات الظهور
نتوكأ على جروحنا ونومي للجهابذةِ العظام
القادمين من الملافي
فاستفردوا بنا وبعراقنا فأفرغوه وأذلوه وأهانوه
ولم يتركوا له عصاً يتوكأ عليها
وهو يستجدي على الحدود
وجيراننا لا يرحمون عزيزَ قومٍ ذُلَّ
فما الذي تنتظرونه بعد هذا الدمار
الذي أنجزتموه مبسملين محوقلين
وأنتم تصبّون جهنم فوق رؤوسنا صباً
فصار البلدُ جحيماً خراباً يباباً
فالأرض تبكي والسماء
وأنتم تسرقون وتضحكون
وتؤثثون مكاتبكم
جناتٍ تجري من تحتها الأنهار
ويرقص فوقها الدولار .. والفضا ضيّقٌ
وما من مخرجٍ بين هذه البراكين
التي تعصف بنا عصفاً وأنتم لا تشعرون
فخذوا كلّ ما سرقتموه أنتم وأبناؤكم
وإرحلوا وأنتم تجرون الدنيا
خذوا البلد وأرحلوا
وإحنه إلنه الله
لا نريد خيمةً ولا هم يحزنون
فأفٍ وتفٍ لجهنم وهي تتبختر
في الشوارع والعمارات والمولات
ونحن حطبها ..
وأفٍ وتفٍ لنار تبتكر وقودها
من لحم
أطفالنا وشبابنا وشيوخنا
وأنتم الموقدون
لا نريد خيمة ولا هم يحزنون
هكذا أن نبقى بلا أرض ولا سماء
خير لنا من أن نموت حرقاً وسلخاً ودفراً
وصبراً وهدراً وشيّاً وأنتم لا تبصرون
فمنذ مئة سنة والعراق يتلوى بين شدقي أسدٍ
والشهداء يسيلون في جباله ووديانه وسهوله
وأنهاره وسجونه ..
وصفه بعدين لأم طيرة
وطارت بيه فرد طيرة
فمن يسمع وللآن أنين العراقيين
وأنّوا
والرياح تصكُّ سبّاح القلوب
وهم يتفطرون أسى ولوعةً
فوق جبال سنجار
وفي طرقات نينوى
ومن يلمُّ أرواح الشهداء وهم يحجبون
عين الشمس وأرواح أمهاتهم المعلّقات
المنكوسات في كنارات الساسة
ولا شارب ظلّ ولا شيلة ..
ومن يصلي الهجير في خيم المهاجرين
ويقاسمهم نصيباً من شظيف العيش عدلاً
خذوا البلد وارحلوا ..
فأنتم صمٌّ بكمٌ عميٌ
فيما يتعلق بأمن العراق وسيادته
وبعينيّ زرقاء اليمامة
وبسرعة ذيب أمعط سرقتم كلَّ خزائنه
ومناصبه وتطلبون المزيدا
وتحرقون الوطن أخضره ويابسه
لتذرونا الرياح في المقابر والمنافي
لم تتركوا لنا ظلاً نستظل به
ولا جسداً نحشرُ فيه
سوى ما تكنسه أمهاتنا
من لحمنا المحروق في الطرقات
إنه لحم شبابنا ودمهم
فمن جثثهم المتفحمة تطير أسراب السنونو
الى بلاد العم سام لتريهم سوء ما جلبوا وما فعلوا
وأسراب أخرى باتجاه القصور
التي بناها بابا صدام من دمنا ولحمنا
كما كنتم في الملافي تزعمون
والتي يسكنها اليوم الساسةُ
المؤمنون الصابرون المجاهدون
النازلون من السماء
لتبني أعشاشها وتراهم وهم يقيمون
قداسهم في خمط المليارات
التي كانوا بها يوعدون
فها نحن نقتل دفاعاً
عن نصف الوطن الفارغ
وأنتم تسرقون النصف الملآن
وأمي تكنسُ لحم أخي
آخر العنقود الذي تحبه أصنافاً
وتسمع دمه هامساً فوق الإسفلت
يا أمُ
أشعل الله بيتَ من آذاك ناراً
فيا سُرَّ من را
يا أُمُ
بكت عين من أبكاك
ليسَ لك البكا
ويا أماه ..
والشهداء ما قلّوا وما ملّوا
فتصرخُ والجمرة تتوهج بين ضلوعها
وتولول ناثرةً ما تبقى من دمها
من يروف لي لحم ولدي
ومن يخيطُ عظامه لأعرفه وأوصيه
فما زال صبيّاً..
فمن له يوم ينفخ في الصور
وكيف ينسلُ .. ومن يدفنه ..؟
وهو الملموم عظاماً في صرة
ولا راحة لدفانٍ في العراق
فعلى سكك من عظام القتلى
تجعر القطارات
باتجاه المقابر
معبأةً بقطع الغيار البشرية التالفة
من كلِ كربٍ عظيم