-29-
الموت نصف استراحة بين حياتك والعبور الى الغابة، لن يمنحك الموت فرصة لتنظيف اسنانك أو كوي ثيابك، لن يسمح لك الموت بأن تضع عطرا على شاربيك كما تعودت، انت رجل ممتليء بالعطر منذ اول رشة “انتريج” وحتى اخر قطرة “عود”، حقيبتك التي اعددتها للسفرالى هناك… بحاجة لتخفيف حملك، لاينبغي لك ان تحمل اكثر من ثلاثين كغم، واذا صادف ان حملت اكثر من الوزن المسموح به لك، فسوف يجبرك الموت على دفع مبلغ إضافي، الموت لايسمح لك بأن تحمل محفظة للنقود خشية أن يتم اتهام الملائكة بالفساد الإداري، الموت هيئة نزاهة لاتخضع لحزب يكرّز بالانتخابات..
أيها المسافر الى هناك…وحدك ستعبر النهر لتغرق في اليابسة..
انكيدو ياصديقي…وحدك من وقفت معي حين تبرأ الجميع مني، ووحدك من رفعت ساطورك لتدافع عني حين تركني الآخرون..الآخرون الذين دافعت عنهم طيلة عمري تنازلوا عن شجاعتي لانهم هكذا…ماهرون فقط في التصفيق والهتافات لاي حامل سوط يجلدهم به، انت وحدك من كنت تحمل ضميرا لايليق الا بالآلهة..وحدك من قلت للجميع: ان الصديق يجب ان يكون صادقاً…لكنهم كذبوك لانهم هكذا !..
الموت يأخذ جسدك في مشحوف، بينما أظل هنا أرقب ابتعادك عن عينيّ، لكنني لم أقل لك أن روحك تختبيء بين ثيابي مثل غيمة عطر….مثل طفل فاجأه المطر فدسَّ أنفه في ثياب أبيه…وجودك يقلق غيابي عنك…ووحدك من يطرق باب القلب، النوافذ تمد اصابعها لتلمَّ خطواتك على العتبات…من أين لي بهمس خطاك وأنت تعبر نافذتي مثل عصفور اعمى!…دقات قلبك تنقّرُ في زجاج الذاكرة لتوقظها مثل زخة مطرٍ جنوبي…هل قلت لك يا أنكيدو ان المطر اذا بلل التراب يعطره برائحة الأمهات…
ياصديقي..ادري بانك صغير لتتعرف على موتٍ أبدي..للموت ظلال ليس بوسعك أيها المطفأ العينين أن تراها…الحياة التي قضيتها معي اشبه بخدمة إلزامية لجيش منكسر…والحياة رايتنا البيضاء التي نرفعها يوميا حين يهزمنا الموت…لا مفر لنا في الهروب من الحياة إلا حين نتذوق طعم الفجيعة في كأس الثكل…الموت هو المثكل حين يعلن غيابك عني…وحين يسلبك مني…وانا وحيد وظلي يتبعني حين أبحث عنك في الكلمات…ايه انكيدو…لو اني لم اتعرف على روحك واكتفيت ان انظر اليك كما ينظر صياد الى فريسته التي ستودع أنفاسها وهي تنسل مثل خيط ترابي بين يديه…ساعة رملٍ تقطّر بالثواني من عمرين غريبين التقيا على فجيعة غياب أبدي….يحدث أن تكون ترفاً مثل وردة، وخشناً مثل فأسٍ…وقاتلاً مثل صدفة عمياء..ايها القريب من جلدي..كيف لي ان اتبرأ من أيامك التي صبغت وجهي بالحزن…وأصابعي بالحنين…عيوني تخلو من ملامح وجهك وأنا أتعثّر بالوجوه ولا أجدك على مرمى شهقة..أين مني كل هذا الجنون الذي يحيط بي؟ لماذا لااستطيع رسم حضورك والغيوم تبرز وجهك كلما نظرت الى السماء…ايها اليد التي لممتُ اصابعي فيها وانا ادفع عنك حتى ظلال الخوف…كل الخوف الذي يسكننا هو سبيل للعثور على محطة ننزل فيها ونغيب في حضور الناس…الغياب اجمل حين يحضر الجميع المثقل بالفراغ…الموت والحياة ميزان ونحن نسكن في كفيه حتى لا نريق الماء بين اصابعنا…اي لغة يمكنني ان اجدها وانا ابعثرك في خطواتي؟ أي حروف يمكنني بها أن أجمّعك مثل ظل متوزع بين الجهات…الحزن بحاجة الى خلٍّ مثلك لابكي عليه…
أي انكيدو…لماذا ابقيتني خلفك؟ الحياة فارغة لانها خلت منك…كنت لون حياتي وطعم وجودي وعطر خطاي…انا افتقد الجدار الذي اسند اليه ظهري..كنت عمود خيمتي وخبائي…وكنت عنوان مملكتي…القلب الذي خفق لك وحدك..تعوّد على الصمت بعدك..الساعات يتيمات حين أغلقت عينيك على مشهد ملك لايملك ان ينقذك من براثن الموت…ايها الصياد الذي نازل الوحوش السماوية…كيف لموت أرضيٍّ أن يطعن روحك من دون ان يرسم رمحه في جسدك بالدم؟ الجروح في روحك أكثر من أن تعدها العيون….اين أهرب من موتك الذي يحاصرني مثل غريب لايعرف في البلاد ركناً يأوي إليه…انا حزين لوجهك الذي لن اراه الا في حلم يتيم…وحزين لشعرك الذي ينسدل فوق كتفيك اللتين حملتاني في غربتي بين الآلهة والبشر..حزين لعينيك اللتين تملآني بالبلاد التي تغص بالوحشة…حزين لأني لن اتعرف على مثلك في ما بعدك…وغريب انني تعرفت عليك لوقت اقصر من وجودنا على الأرض…ايها التعرفني مثل روحي..يا من اوجدتك الآلهة لتكون عدوي فاصبحت خلي وصديقي..وجعلتني مثل جسد يبحث عن ظله في التراب…كيف لك ان تتركني بين هذي الوجوه التي انكرتها منذ وجود لم اكن فيه سوى غياب كامل الدسم؟