18 ديسمبر، 2024 6:10 م

في ذكرى محاكمة الطاغية حسين حبري

في ذكرى محاكمة الطاغية حسين حبري

في محاكمة تاريخية في داكار عاصمة السنغال في العام 2017 تمت إدانة طاغية تشاد حسين حبري بجرائم إبادة جماعية لأكثر من أربعين ألفاً من مواطنيه خلال ثمانينات القرن المنصرم، بالإضافة إلى إدانته شخصياً بجرائم الاغتصاب، والتعذيب، والعبودية الجنسية. وتلك محاكمة تاريخية بكل المقاييس لجميع أبناء دول الجنوب المُفقر قامت بها محكمة خاصة منبثقة عن الاتحاد الأفريقي لمحاكمة حبري طاغية تشاد بجرائم تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان بعد جهود مريرة وطويلة قام بها مجموعة من ضحايا جهاز الأمن السياسي الذي أنشأه حبري بمساعدة مباشرة ودعم لوجستي وتقني وتدريبي من وكالة المخابرات الأمريكية، والسفارة الأمريكية في تشاد إبان عهد الرئيس الأمريكي دونالد ريغان الذي كان ينظر إلى حبري باعتباره جدار صد في وجه طموحات معمر القذافي التوسعية في القارة السمراء، والتي لخصها وزير الخارجية الأمريكي آنذاك بأن «الولايات المتحدة تدعم حسين حبري لتدمي أنف القذافي»، ودون أي اعتبار لسجل حبري الأسود في القتل و التعذيب، والاغتصاب والاختفاء القسري لعشرات الآلاف من أبناء جلدته ومواطنيه قبل وخلال استلامه لسدة الحكم في تشاد.
وبحسب ريد برودي مستشار منظمة هيومان رايتس وواتش، والناطق باسمها، فإن «إدارة الرئيس باراك أوباما بذلت جهوداً دؤوبة في تسريع محاكمة حسين حبري في المحكمة الأفريقية، وضغطت على الحكومة السنغالية لعدم التراخي والتراجع عن قرار محاكمته كما حاولت أكثر من مرة» خلال العقدين الماضيين من نضال ضحايا حسين حبري لتحقيق العدالة، وإنصاف من بقي منهم على قيد الحياة. ويستطرد المتحدث نفسه بالسرد التاريخي لحقيقة جوهرية تتعلق بالدور الوظيفي الذي كان مطلوباً من حسين حبري القيام به لصالح الولايات المتحدة، والذي تعلق أساساً «بإقامة معسكرات سرية لتدريب الليبيين في الأراضي التشادية، لتشكيل قوة تماثل قوات متمردي الكونترا في نيكاراغو تتمثل وظيفتها في زعزعة الاستقرار في ليبيا بقيادة رجل يدعى خليفة حفتر، والذي هاجر بعد ذلك إلى فرجينيا في الولايات المتحدة، أو تم استجلابه إليها، وهو من تم إعادته إلى ليبيا مؤخراً ليصبح رجل أمريكا القوي في بنغازي، وقائد أحد أهم الفصائل المسلحة في ليبيا».
نعم إنها صورة تاريخية مركبة تثير أكداساً من المشاعر الاستثنائية لدى كل عربي من المحيط إلى الخليج قد يكون أولها التفكر بأن كل جرائم حسين حبري، وأجهزته الأمنية لا تسطيع أن تبز في وحشيتها وتاريخها الأسود أياً من طغاة العرب الذين أدمنوا التنكيل بشعوبهم، وإذلالها، وإفقارها إلى درجة إرغامها على القبول بكل الحيف الواقع عليها في مقابل البقاء على قيد الحياة وعدم الوقوع في براثن أي من أجهزة الأمن السياسي العربية، أو أي من استنساخاتها على اختلاف أسمائها، والتي قامت وتقوم بأدوار قمعية مهولة تقزّم من الناحية الكمية والنوعية كل التاريخ الكالح لحسين حبري ونظامه. وعلى المقلب الآخر من ذلك الاستنباط المأساوي عربياً، يقف نفق مظلم في آخره ضوء خافت وباهت عنوانه «ما ضاع حق وراءه مطالب» يرتبط عضوياً بحقيقة الجهد الفذ الذي قام به ضحايا نظام حبري وعلى رأسهم المناضل البسيط العميق سليمان جونجونج في الحشد، والدأب، والمصابرة لتحقيق العدالة الذي لم يعط أكله إلا بعد عقدين من الزمن.
وفي نفس السياق الأخير قد يكون اليأس الجمعي المقيم عربياً، والذي تفجر بركاناً في الربيع العربي، قبل أن يعود إلى قمقمه الكئيب الذي لم يتغاير منذ نكسة حزيران وحتى اللحظة الراهنة، الحاجز الواجب التفكيك كمهمة أولى واجب القيام بها من كل ضحايا القمع، والتهميش، وقهر الأنظمة الأمنية العربية، وخاصة لدى أولئك الذين يمتلكون إمكانيات الحركة، و التعبير، و الحشد، و التنظيم من منافيهم الاختيارية أو القسرية خارج حدود أوطانهم العربية، وغيلانها الأمنية المسعورة، في سياق يستلهم ملحمة ضحايا حبري في ثباتهم لتحقيق العدالة و إنصاف المظلومين ولو بعد عقدين من السنين العجاف.
وقد يكون الاستنتاج المنطقي الثاني من ملحمة ضحايا حسين حبري على المستوى العربي هو تنكس جامعة الدول العربية، وكل المنظمات الحقوقية التابعة لها بالمقارنة مع تلك المنبثقة عن الاتحاد الأفريقي، بالتوازي مع تفسخ الأنظمة القضائية العربية المرتبطة عضوياً بالسلطات الحاكمة، والمخترقة من قبل أجهزتها الأمنية عمقاً وسطحاً حتى تكاد أن تكون ناطقاً رسمياً باسم تلك الأخيرة على امتداد الجغرافيا العربية من المحيط إلى الخليج. وهو ما يستدعي فعلياً من كل القادرين من العرب المقهورين في مهاجرهم البناء على سابقة محاكمة حسين حبري، والبدء بالعمل المجتهد لمحاكمة كل الطغاة العرب في أي من المحاكم المحلية في أي من الدول التي فيها استقلال نسبي للأجهزة القضائية، والصبر، والمصابرة إلى حين تحقق الظروف الملائمة لتحقق العدالة ولو رمزياً لملايين المقهورين العرب الذين لا تختلف معاناتهم عن معاناة أي من ضحايا حبري وماكينته السادية.
أما ثالث الملاحظات المنهجية من حكاية الجلاد حبري ومآلاتها يرتبط عضوياً بالدور الوظيفي لعملاء الإدارة الأمريكية في دول الجنوب المفقر، فهي تعضدهم، وتدعمهم بكل ما يلزم للقيام بمهماتهم المطلوب القيام بها، والتي ترتبط أساساً بالحفاظ على سلامة استثمارات الشركات الأمريكية العابرة للقارات في تلك الدول، وضمان انفتاح أسواقها لتصريف نتاج الشركات الأمريكية سواءً كان عسكرياً أو غيره، والحفاظ على حالة من الضبط المحكم أمنياً و عسكرياً لشعوب تلك الدول تضمن عدم وقوعها ضحية «فيروس الاستقلال والنزعة القومية»، بحسب توصيف عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنري كسينجر؛ وذلك بغض النظر عن الوسائل يستغلها أولئك العملاء لتحقيق المآرب الأمريكية المراد تنفيذها من قبلهم، ودون أن تعني مفاهيم حقوق الإنسان والديموقراطية وسيادة القانون للساسة الأمريكان، وأجهزة استخباراتهم شيئاً، فهي رغاء لغرض الدعاية الإعلامية والمزاودة بها على كل من لا يسير في الركب الأمريكي فقط.
والاستنتاج قبل الأخير يتعلق بالدونية، والاحتقار المطلق، الذي تنظر به الإدارة الأمريكية إلى كل عملائها في العالم الثالث الذين لا ترى تلك الإدارة أي ضير في التخلص من أي منهم لدى انتهاء صلاحيته، أو تغير الشروط التي تتيح له تنفيذ ما هو مطلوب منه. فعلى الرغم من كل ما قدم حبري للإدارة الأمريكية من مساعدات تاريخية في القارة السمراء، فلم تقم تلك الإدارة أي وزن لذلك كله؛ فهو عميل كان يقوم بواجبه، وانتهت صلاحيته، ولابد الآن من استبداله بمن هو أكثر ملائمة للقيام بواجب العمالة الذي لم يعد ذلك الأخير الأكفأ للقيام به. وذلك درس من الضروري التركيز على تعميمه جمعياً على المستوى العربي علّ الذين لازالوا يقومون بدور حسين حبري على امتداد الجغرافيا العربية يعون بشكل مباشر أو غيره بأن لا ولاء لدى أبناء العم سام تجاه أي من عملائهم الذين ليس لهم إلا انتظار إعلان سادتهم توقيت انتهاء صلاحيتهم لاستبدالهم بغيرهم. وخيارهم الأوحد لتلافي ذلك المصير المحتوم هو الانفتاح على شعوبهم وتركها لمخاضها الطبيعي في تحقيق إرادتها، وحقها الطبيعي في اكتشاف الطريقة الأمثل في إدارة مصالحها، وحفظ مستقبل أبنائها.
أما آخر الاستخلاصات فيتعلق بالرؤية الأمريكية الراسخة باستخدام مرتزقتها التاريخيين في عملياتها العسكرية القذرة على المستوى الكوني، وتلميعهم عند الحاجة، وتحويلهم سياسيين مرموقين مؤهلين لقيادة أوطان يراد لها البقاء تابعة، تسير في فلك الاقتصاد الأمريكي وخدمة شركاته العابرة للقارات. ولكنها أرجوحة التاريخ الثقيلة ككل جبال الأرضين، حركتها إرادة المقهورين والمظلومين التشاديين فرمت بحسين حبري إلى مزبلة التاريخ، بانتظار أن يحين دور الاستنساخات الاستبدادية العربية عن كينونة الطاغية حسين حبري البربرية الوحشية، ومفاعيلها القيحية على امتداد جغرافيا مجتمعات الناطقين بلسان الضاد المكمم والمكلوم والمظلوم والحبيس في أوطان ودول أمنية خلبية لا تعدو أن تكون معتقلات جماعية وسجوناً عملاقة لكل الناطقين به.