23 ديسمبر، 2024 5:16 ص

في ذكرى ليلة “الهرير”

في ذكرى ليلة “الهرير”

قبل أكثر من 27 عاما وتحديدا منذ بداية معرفتي بأهمية الأشياء التي تثير الانتباه كانت هناك صورة موضوعة داخل إطار اتخذت مكانا لها فوق التلفاز الوحيد في منزلنا، لرجل مبتسم الوجوه ويرتدي زيّاً عسكريا بعلامات لم اعرف ماذا تعني في حينها، كانت تلك الصورة تختفي بشكل مفاجئ حينما يأتي الضيوف لزيارتنا وتعود لمكانها بعد رحيلهم، وكعادتي التي ترافقني منذ الصْبا حاولت معرفة الأسباب لكن من دون جدوى.

مرت الايام واصبحت مكان الصورة عدة صور للرجل نفسه لكنها تزين اغلفة العديد من الكتب في المكتبة التي تتكئ على احدى زوايا “غرفة الجلوس”، وتحمل عناوين تمكنت من قرأتها بصعوبة في حينها، لكني مازلت اتذكر بعضها جيدا ومنها “البداية والنهاية”، شغف المطالعة دفعني للسؤال عن صاحب الصورة واسمه الذي تحمله تلك الكتب فوجدت ضالتي عند شقيق والدي الذي يصغره بتسع سنوات، ليخبرني بان الشخص الذي ابحث عنه هو الشهيد عبد الكريم قاسم اول زعيم لجمهورية العراق وكان العراقيون يطلقون عليه تسمية “ابو الفقراء” لشدة حبه لمساعدة ابناء شعبه حتى انه انشأ العديد من المناطق السكنية ووزعها على الفقراء القادمين من اهوار الجنوب هربا من مشقة الريف الى حياة التمدن.

كنت أتابع تلك القصص بلهفت كبيرة واتطلع لسماع المزيد منها، لكن شقيق والدي لم يستمر بالحديث وتوقف بعد أن اخبرني بان توليه للحكم لم يستمر سوى اربع سنوات وسبعة اشهر، فسالته لماذا؟، هنا طال الصمت لعدة دقائق ليعود بعدها للحديث لكن بنبرة حزينة، لقد اعدم رميا بالرصاص مع بعض رفاقه في محاكمة استمرت لعدة دقائق من دون قاض او محامي دفاع وكانها مسرحية كُتبت فصولها مسبقا، ليعود الصمت مرة اخرى فتدخلت متسائلا ومن فعلها وكيف؟، همس شقيق والدي بعد أن اشار بالاقتراب منه “لا تطرح هذه الاسئلة خارج المنزل” فالقتلة هم من يحكمون البلاد ويحتفلون بيوم استشهاده، ادركت حينها لماذا كانت تختفي الصورة من اعلى التلفاز مع دخول اي زائر للمنزل وتغطى الكتب بورق الجرائد.

تذكرت تلك الحوارات وقصة معرفتي بسيرة الزعيم الاول مرة ونحن نعيش الذكرى الـ55 لانقلاب الثامن من شباط “الاسود” تلك الليلة التي تختصر جميع معاني “الخيانة” والعنف الدموي وحسابات التصفية التي يصعب توقعها، فكيف لصديق لدود اعفى عنه الزعيم لمرات عدة وسمح له بمغادرة العراق على الرغم من الاقامة الجبرية، أن يكون على رأس الانقلابين ويأمر باعدامه في مبنى الاذاعة والتلفزيون وهو يتفاخر بفعلته حينما زار جمال عبد الناصر حاملا معه اصبعاً انُتزع من جثة خصم لدود لطالما اقلق احلام عبد الناصر التوسعية التي كان يروج لها باسم الوحدة العربية، ذلك هو عبد السلام عارف.

ليلة الهرير لم تنته برحيل الزعيم الذي نجهل مكان قبره واين دفنت جثمانه، على العكس فهي كانت البداية لتستمر بعدها على يد الحرس القومي الذين ارتكبوا أبشع انواع الجرائم بحق انصار الزعيم والمتعاطفين معه وصولا الى جلادي نكرة السلمان وزنازين الحاكمية التي أقفلت ابوابها في 2003، لكن دموية سجانيها لم تتوقف وتحولت من السياط الى السيارات المفخخة والأسلحة الكاتمة.

نعم ياسادة رغم التاريخ الدموي للعراق لكن جريمة مقتل الزعيم التي أنهت احلام الفقراء وادخلت البلاد في حقبة مظلمة استمرت لخمسة وثلاثين عاما ستضل تلاحق البعثيين المشاركين في تلك الليلة الذين استقر المقام بالقابضين منهم على ماضيهم، مستشارين للخليفة أبو بكر البغدادي، أو متحالفين معه، كحال عزة الدوري ويونس الأحمد وأبناء السبعاوي.. واسمحوا لي ياسادة ان اختتم ماكتبته بخبر قد يزعج محبي الزعيم، هل تعلمون ان قاتل مؤسس الجمهورية وأول من اطلق عليه الرصاص (فارس نعمة المحياوي) يقيم في النمسا ويتقاضى راتبا تقاعديا من حكومة الخدمة الجهادية.