18 ديسمبر، 2024 11:06 م

في ذكرى الشهادة .. أندبُ جامع الرأس الشريف

في ذكرى الشهادة .. أندبُ جامع الرأس الشريف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
((وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))
إن محاولة فصل الأمة عن ماضيها مدعاة للشك والريبة خاصة إن كان الماضي وشخوصه ومشخصاته مما يُفتخر به ، فليس بغريب أو مستهجن إن غمزنا اتهاماً من يقوم بهكذا محاولات لتغييب شيء يُفتخر به عند العقلاء ، لذا فما تعرض له ( مسجد الرأس الشريف ) من تغييب – متعمد أو غير متعمد – لا يمكن أن نحسن الظن بالأيادي الخفية التي خططت له .
وكنت ولا زلتُ استغربُ سكوت بعضهم تجاه هذا الأمر وهو يرفع قولاً لواء الصدر مرجعية ومنهجاً وانتماءً، فهل هذا مداهنة أم مشاركة في تضييع هذا المعلَم كما ضاعت الكثير من الأمور المهمة التي كانت موجودة ، أم إن في الأمر ما لا يدركه أمثالي ( المعدان ) ولو من قبيل إن الأمر ( ما يسوه دوخة الراس ).
الله تعالى يعلم بخفايا الأمور خاصة وإننا في مرحلة التأويل التي يصعب فهمها وتجاوز مطباتها إلا بإشراف قيادة عالمة بإمور الزمان والمكان ومتطلبات المرحلة …
ولمن لم يسمع بهذا المسجد والمعلَم المهم فانه من ناحية المكان يكون في الجهة الغربية من الصحن الحيدري الشريف ومن ناحية الزمان شُيد حوالي القرن السابع الهجري ، أي انه ثروة تاريخية ومحمية دولية لا يمكن المساس بها ، فالدول المتحضرة المتمدنة اليوم تبذل الأموال الطائلة لمن هو اقل بعداً تاريخيا من مسجدنا المبارك ، وتعمل جاهدة على الحفاظ عليه لأنه يمثل وغيره ذاكرة الأمة ، فأي أمة لا تتقدم ما لم يكن لها البعد التاريخي المشرق والمشرف وكلما انسلخت من ماضيها المشرف اقترب موعد زوالها واندثارها وكم من الأمم زالت وانمحى ذكرها لهذا السبب .
وأما سبب تسميته بـ ( مسجد الرأس ) ، أو المقصود من الرأس فأنه لا يعدو عن وجهين :
الأول : بسبب كونه – المسجد – قد بُني إلى جهة وجانب رأس الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام .
الثاني : إن المسجد بُني على موضع رأس الإمام الحسين عليه السلام فلأجل شرف الرأس الطاهر بني المسجد.
هذا من ناحية تاريخية عمرانية بغض النظر عن دقة وصحة أي الاحتمالين أو التواريخ فإننا ليس بصدد التحري التام عن هكذا تفاصيل ، وإنما يكفينا المعلومات الإجمالية التي ذكرتها المصادر المتخصصة بمجالها.
 وأما من الناحية العلمية فقد امتاز المسجد على مر السنين ومنذ إنشائه بالحركة العلمية فيه من قبل عدة علماء وفضلاء فـ ( في كل عصر يشغله مرجع من المراجع يجعل بحثه فيه ) بل وتقام فيه صلوات الجماعة والجمعة ، فـ ( في عام 1360 هـ – تقريبا عام 1940م – شغل هذا المسجد السيد جمال الهاشمي رحمه الله تعالى وجعله موضع بحثه الخارج … بالإضافة إلى صلاة الجماعة .. وبعد وفاته شغله ولده السيد محمد جمال الهاشمي رحمه الله تعالى وكان يقيم فيه صلاة الجمعة ويحاضر على طلابه بحث الخارج إلى حين وفاته )، ومن الذين صلوا فيه بعد أن أُغلق لمدة أبان انتهاء الحكم العثماني الشيخ النائيني رحمه الله تعالى .
ويمكن لمن يريد التوسع في هذه المعلومات التاريخية عن المسجد وعمرانه مراجعة:( تاريخ النجف للشيخ محمد حرز الدين ج1 ، مساجد النجف بين الماضي والحاضر لتوفيق مهدي ، وكذلك الموسوعة الالكترونية ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ).
وفي التسعينيات برز هذا المسجد كعلامة ومكاناً لدروس السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر رحمه الله تعالى سواءً دروس البحث الخارج الأصولية أو الفقهية ، ومحاضراته المتعلقة بثورة الإمام الحسين عليه السلام ، ودروسه في تفسير القران الكريم ، ومواعظه الأخلاقية والتربوية .
فكان المسجد محط أنظار المحبين والأعداء والحساد ، فكانت السلطات البعثية تراقب هذا النشاط بحذر ، وتتبع الطلبة ممن يلتفون حول مرجعية السيد الصدر ويحضرون دروسه في هذا المسجد ، ومن جهة أخرى حوزة خاملة شنت أقسى حملة لتشويه وتسقيط السيد الصدر وطلبته لا لشيء إلا لأنه عمل إلى فضحها وتعريتها من خلال همته ونشاطه وحركته الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ذات التحصيل العلمي المتميز .
وبعد استشهاده قدس سره – وقد كان حدث استشهاده خبراً مفرحاً للأعداء والحساد ، وكما قال هو قدس سره انه : يكفي أن في موتي شفوه لأمريكا وإسرائيل – توقع هؤلاء ان يندثر مع الاستشهاد كل شيء ومن ذلك جامع الرأس بناءً ونشاطاً،لكن خاب فألهم فقد استمر سماحة الشيخ محمد اليعقوبي دام ظله في المسيرة ، مسيرة الأنبياء والأوصياء والعلماء الأعلام ، فتحمل الأمانة الملقاة على عاتقه وقاد المسيرة في أصعب الظروف وأقساها خارجياً من السلطات وداخلياً من الحوزة ، فاستطاع شيئا فشيئا ان يعيد الثقة بالنفس إلى الطلبة المفجوعين بفقد مرجعهم وتكالب الأعداء عليهم ، وهكذا عادت الحركة العلمية إلى جامع الرأس الشريف وبأكثر مما كانت عليه ، فترى إن الحلقة الدراسية الأكثر حضوراً في حوزة النجف حينها تكون في جامع الرأس ويحضرها الطلبة من جميع الاتجاهات وهي حلقة درس سماحة الشيخ اليعقوبي والتي لم تكن منحصرة في الفقه والأصول ، بل تخللها وهو الأهم والوحيد في جانب ربط الأمة بالحوزة المحاضرات الأخلاقية والفكرية والتوعوية والتي كانت ثمارها العديد من الكتب والكراريس أو الاستفتاءات أو الكاسيتات التي تلاقفتها أيدي العطاشى المفجوعين أو اليتامى المتروكين .
فجامع الرأس الشريف (شهد في تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي حركة علمية ونشاطاً إسلامياً حيث كان السيد الصدر الثاني (قدس سره) وبعده سماحة المرجع اليعقوبي (مُد ظله) يلقيان دروسهما فيه) .
لكن الزائر اليوم لا يستطيع أن يميز المسجد رغم بعده التاريخي وأهميته العلمية وما ذا إلا بحجة شموله بعملية التوسعة التي جرت مؤخرا فغيبت جميع معالمه حتى ان من عرف المسجد تفصيلا يجد اليوم صعوبة في تحديده فكيف بمن سمع به ولم يعرفه أو كيف بمن لم يسمع به أصلا .
إن الرواق الجديد ( رواق أبي طالب رحمه الله تعالى والذي افتتح في يوم الخميس ذكرى مولد الإمام علي عليه السلام في 13 رجب 1432هـ – 16 حزيران 2011م ) مثّل توسعة ضرورية لاستيعاب أعداد الزوار المتزايدة وهذا مما لا ينكر ، لكن ألم يكن بالإمكان بل من اللازم أن يُحافظ على المسجد كمعلم وأثر تاريخي، بل ومن جهة شرعية من ناحية آثار المسجدية التي لا يمكن زوالها باجتهاد هذا أو ذاك من الأمزجة  .
لذا نود أن ننبه إلى هذا الأمر عسى ولعل أن يتم تداركه ، ولكي يبقى مسجد الرأس معلَماً تاريخاً ومكاناً دراسياً حاله حال باقي الأمكنة التي لا زالت موجودة كما هي في ضريح الإمام وهي ليست بأهمية جامع الرأس التاريخية أو العلمية ، وهذا التدارك يمنع المتصيد بالماء العكر من القيل والقال ، وليكن ماءنا صافياً ولو لمرة واحدة !
 ويبدو إن الذين قاموا بهذا التغييب راهنوا على الزمن ليتم تناسي المسجد كبناية والاهم منه مرحلة ارتبطت بالمسجد أزعجتهم حركتها المباركة يوم سكت الجميع كبار القوم وصغارهم ، وقد غفلوا عن إن ذاكرة الإنسان لا يمكن ان تُغيب بسهولة خاصة إذا كان هناك ارتباط بين طرفين تجمعهما عدة أمور لا يدركها أصحاب القلوب السوداء فكيف إذا كان ليس مجرد ارتباط وإنما بداية حياة  !
يسطر احد عشاق مسجد الرأس هذه الأبيات المعبرة والحاكية عن شجون وآهات فيقول ويخاطبه ونعم ما قال :
( رواقك يا مسجد الرأس في  T T T  ملامحه صور قاتمه
تطل علينا بها رحلة  T T T  من الذكريات لمن نادمه
أيا مسجد الرأس كم أيقظت  T T T  طيوفك من أعين نائمه
وكم من حكاية لها لذة  T T T  ترددها روحي الحالمه
نسجت خيوط تفاصيلها  T T T  على ارضك الثرة الناعمه
أرى للحبيب خيالا يدور  T T T  بأفقك كالريشة الهائمه
يفتش عن جرحه في الظلام  T T T  ويشكو إلى ربه ظالمه
ورأس علي وسيف الخداع  T T T  كرأسك والسلطة الغاشمه
صدى لهما يستفز الشعور  T T T  تترجمه الادمع الساجمه )
فالعزاء كل العزاء لإمامنا المهدي أرواحنا له الفداء وقد غُيب مسجد يذكر فيه اسم الله تعالى…
والعزاء لسيدنا الشهيد الصدر ونحن في ذكراه وقد كان المسجد الكهف الذي آواه …
والعزاء للمرجع الشيخ اليعقوبي وقد انتصر للإسلام والمذهب بأوضح صوره منطلقا من مسجد الرأس…
والعزاء لكل الطلبة والمحبين ممن ارتبط بالمسجد أيام النظام المقبور فقاوموه حضورا وتفاعلا ونشاطا سواءً مع حركة السيد الشهيد الصدر المباركة أو مع المرجع اليعقوبي في حركته الفريدة والوحيدة حينها بعد استشهاد السيد الصدر في حوزة النجف الاشرف ..
فإليهم جميعا العزاء بهذا التغييب لمسجد الرأس الشريف.
 وإنا لله وإنا إليه راجعون .