23 ديسمبر، 2024 10:17 ص

في ذكرى التوقيع على اتفاقية دايتون المشؤومة

في ذكرى التوقيع على اتفاقية دايتون المشؤومة

استهلال:
بداية فبراير شباط عام 1995 وبأمر من الرئيس كلنتون تم (احتجاز) قادة أطراف النزاع في البوسنة  لمدة ثلاثة أسابيع في قاعدة باترسون  الجوية  الأمريكية في أوهايو بالقرب من دايتون، ولم يتم ( إطلاق سراحهم ) إلا بعد توقيعهم على صيغة الاتفاقية التي وضعها راعي المفاوضات في دايتون. نعم لقد وقع عليها  كل من الرؤساء، اليوغسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش وهو مخول بالتوقيع نيابة عن صرب البوسنة ، والكرواتي فرانيا توجمان والبوسني علي عزتبيغوفيتش، الى أن تم التوقيع عليها علناً في باريس بتاريخ 21/11/1995.
نذكر بشكل عابر وسريع درجة النفاق الأمريكي عندما رأت في الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش رجل سلام ليوقع نيابة عن صرب البوسنة وبتخويل ينتزع منهم، وذلك لاستبعاد زعيم صرب البوسنة الدكتور رادوفان كاراجيتش لاتهامه بجرائم حرب. وبعد أن استغلت الرئيس ميلوشيفيتش في تمرير لعبة دايتون ضمرت له نيتها المبيتة لتفصح عنها إبان عدوانها على يوغسلافيا الاتحادية عام 1999، وبدون اذن من مجلس الأمن الدولي، لتوجه له مذكرة اتهام كمجرم حرب لجرائم مزعومة ارتكبها في البوسنة وكوسوفو. وجرى فيما بعد ما جرى حيث تم اختطافه من بلغراد في 1/4/2001 الى لاهاي ليودع في سجن شيفينيغن التابع الى المحكمة الدولية الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة، الى أن مات في زنزانته بتاريخ 11/3/2006، ميتة أثارت العديد من الشكوك.
السبب في الاصرار الأمريكي  على ضرورة الخروج بنتيجة من باترسون هو أن نجاح التوقيع يعني كسب الرئيس كلنتون الانتخابات الرئاسية القريبة لولاية ثانية. وليس هَمْ الأمريكان حقن دماء ” المسلمين” في البوسنة. ولو كانت نوايا الولايات المتحدة صادقة في حقن الدماء لكانت غير مسببة في تخريب خطة كوتيلير التي كان لها النصيب القوي في حسم النزاع في البوسنة بوقت مبكر جداً.
وخطة كوتيلير نسبة الى وزير خارجية البرتغال جوزيه كوتيليرالذي ترأس الاجتماع الذي عقدته المجموعة الأوروبية في العاصمة البرتغالية لشبونه بتاريخ 17/3/1993 حيث تمكنت الخطة من إرضاء أطراف النزاع الثلاثة حيث وقع عليها كل من عزتبيغوفيتش زعيم حزب العمل الديمقراطي (البوشناك) ورادوفان كاراجيتش زعيم الحزب الديمقراطي الصربي (صرب البوسنة) وماته بوبان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكرواتي (كروات البوسنة). وتتلخص الخطة في التوقيع على خريطة المستقبل الدستوري للبوسنة من اتحاد مكون من ثلاثة أجزاء مع الاشارة الى العاصمة سراييفو التي لها وضع خاص.
وقد سبق اجتماع لشبونه تحرك أوربي واضح يهدف الى وضع حد للقتال الدائر في البوسنة، ورافق ذلك التحرك،اهتمام كبير من منظمة الأمم المتحدة إذ أصدر مجلس الأمن الدولي قراره المرقم 740 في 9/1/1992  الخاص بإرسال قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام  UNPROFOR في يوغسلافيا السابقة.
فقد وافق على خطة كوتيلير قادة الأطراف الثلاثة المتصارعة، ووقع عليها جميعهم، وكادت أن تنتهي مأساة البوسنة والهرسك بشكل مبكر لولا قيام عزت بيغوفيتش بسحب توقيعه وتراجعه عن موافقته على الخطة، فاستمرت مأساة البوسنة الى سنوات قادمة زهقت خلالها آلاف الأرواح البشرية “بفضل” الولايات المتحدة ومصالحها الجيوستراتيجية.
إن تراجع بيغوفيتش وضياع الفرصة الذهبية للسلام والرجوع الى مسلسل حمامات الدم في البوسنة كان مفاجأة مذهلة لكل الأطراف بما فيهم الوسطاء الأوربيين. بقي سبب التراجع مجهولاً الى أن تسربت  الحقائق عن طريق الصحافة الغربية ذاتها حيث أشارت صحيفة دي ايريتش تايمز الصادرة بتاريخ 1/10/1993 بأن سفير الولايات المتحدة الأمريكية في بلغراد وارن زيمرمان قد غرر بيغوفيتش برفضه مشروع كوتيلير وسحب توقيعه وأوعده بوقوف الولايات المتحدة الى جانبه. وفي رأينا أن الولايات المتحدة قد سعت لإفشال خطة كوتيلير من أجل سحب البساط من تحت أقدام المجموعة الأوربية ولكي تبرهن بأنها لوحدها تمتلك مفاتيح حلول الأزمات المستعصية حتى داخل القارةالأوروبية.
اتفاقية دايتون وملاحقها:  تتكون من الاتفاقية الأم المسماة اتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك زائداً 11 ملحقا. فاتفاقية الإطار ذاتها تحتوي على 11مادة وأربعة تذييلات وهي :
– التذييل الأول، الاتفاقية المتعلقة بالجوانب العسكرية للتسوية السلمية.
– التذييل الثاني، الاتفاقية الموقعة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو.
-التذييل الثالث، الاتفاقية الموقعة بين جمهورية كرواتيا وحلف الناتو.
– التذييل الرابع،الاتفاقية الموقعة بين جمهورية يوغسلافيا الاتحادية وحلف الناتو.
أما ملاحق الاتفاقية الأحد عشر فهي:
الملحق الأول: الاتفاقية الخاصة بالاستقرار الإقليمي.
الملحق الثاني: الاتفاقية الخاصة بالحدود المشتركة بين الكيانات.
الملحق الثالث: الاتفاقية الخاصة بالانتخابات في البوسنة والهرسك.
الملحق الرابع: دستور البوسنة والهيرسك.
الملحق الخامس: الاتفاقية الخاصة بالتحكيم بين الكيانين.
الملحق السادس: الاتفاقية الخاصة بحقوق الإنسان.
الملحق السابع: الاتفاقية الخاصة باللاجئين والمشردين.
الملحق الثامن: الاتفاقية الخاصة بلجنة الحفاظ على النصب التذكارية.
الملحق التاسع: الاتفاقية الخاصة بالشركات العامة في البوسنة والهرسك.
الملحق العاشر: الاتفاقية الخاصة بتطبيق الجوانب المدنية للتسوية السلمية.
الملحق الحادي عضر: الاتفاقية الخاصة بقوات الشرطة الدولية.

النقاط الواهنة في اتفاقية دايتون: سنختصر الطرح اختصاراً جائراً لكون هذا العنوان الفرعي لايغطيه مقال واحد، فقد تناولناه في التفصيل في كتابين ضخمين(  كتابنا الأول، اتفاقية دايتون دراسة تحليلية قانونية سياسية، صدر عن دار شموع الثقافة، الزاوية ليبيا 2002 والثاني كتاب دايتون وأخلاق العولمة، مطبعة الميزان، النجف الأشرف 2013). لذا سنمر على نقاط الوهن مرورا تأشيرياً سريعاً.
أولى نقاط الضعف في الاتفاقية أسلوب الإرغام في عقدها، أي أسلوب الضغط عل أطرافها من خلال (حجزهم) ثلاثة أسابيع في القاعدة الجوية وهذا ما يتعارض مع المادة 51 من قانون المعاهدات الدولية حسب معاهدة فينا لعام 1969 حيث تنص على أن ” لا يكون تعبير الدولة عن ارتضائها الالتزام بمعاهدة أي أثر قانوني إذ صدر نتيجة إكراه ممثلها أو تهديدات موجهة ضده”. كما تزامن التفاوض مع القصف الأطلسي ضد صرب البوسنة وهذا العمل يتعارض مع منطوق المادة 52 من قانون المعاهدات التي تذكر أنه ” تعتبر المعاهدة باطلة بطلاناً مطلقاً إذا تم إبرامها نتيجة التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالمخالفة لمبادئ القانون الدولي الواردة في ميثاق الأمم المتحدة”.
فيما يتعلق بالتذييلات الملحقة باتفاقية الإطار فالتذييل الأول المتعلق بالجوانب العسكرية للتسوية السلمية يتكون من ديباجة قصيرة و12 مادة. وقد لمسنا بأن هذا الاتفاق يحتوي بين ثناياه كل الأمور غير المعقولة، فالمادة الأولى  تشمل على إسهاب يبدأ بتعهد الأطراف بخلق ظروف طبيعية للحياة في البوسنة والهرسك وبيت القصيد هو ترحيب الأطراف ” باستعداد المجتمع الدولي لكي يرسل الى المنطقة لفترة تقرب من سنة قوة للمساعدة في تنفيذ نصوص الاتفاقية المتعلقة بالأرض والمسائل العسكرية الأخرى”.  والمقصود بـ “المجتمع الدولي” هنا دول حلف الناتو وذلك واضح من خلال الاستمرار بقراءة هذه المادة. وفي النتيجة تم تعيين الجنرال الأمريكي LEITON smith قائداً عاماً لقوات IFOR (قوة تنفيذ متعددة الجنسيات)  فقد أصبح الحاكم المطلق في البوسنة. وأن هذه القوة تعمل تحت سلطة مجلس حلف الناتو وتكون خاضعة لإرادته وسيطرته العسكرية ولها الصلاحيات المطلقة في استخدام القوة على كامل تراب البوسنة والهرسك (الفقرة الثانية من المادة الأولى). وبالفعل قسمت البوسنة الى ثلاثة قواطع عسكرية:
القاطع الأمريكي ومقره مدينة توزلا (20 ألف عسكري)
القاطع الفرنسي زمقره مدينة سراييفو (10 آلاف عسكري)
القاطع الإنجليزي ومقره غورني فاكوفا (12 ألف عسكري)
بالإضافة الى 3 آلاف روسي وآخرين من دول أخرى من خارج الناتو ولكنهم جميعاً تحت قيادة الحلف أو بالاتفاق معها.
وتحت بند غوراجدا الفقرة 2 جاء بالنص ” على الأطراف أن تتفهم وتوافق على أن اي خرق للفقرة الأولى من هذا البند يجعل المخلف تحت طائلة العمل العسكري من قبل IFOR بما في ذلك استخدام القوة”. وتكرر هذه الصيغة عشرات المرات في هذا الملحق. كما أن من الغريب العجيب جداً  بهذا الاتفاق  إعطاءصلاحية للجنرال الأمريكي بأن يستدعي الأفراد العسكريين البوسنيين من النظاميين والاحتياط (المادة 6). وتشير الفقرة الخامسة من نفس المادة الى الصلاحيات المطلقة لقائد قوات الناتو إذ تقول: ” على الأطراف أن تتفهم وتوافق على أن لقائد IFOR الصلاحية وبدون استحصال أذن مسبق من أي جهة،لتنفيذ كل ما يراه ضرورياً..”.
أما التذييل الثاني الملحق أ فهو يتضمن ثلاث وثائق:
الاتفاقية الموقعة بين جمهورية البوسنة والهرسك ومنظمة حلف ضمال الأطلسي (الناتو) بشأن مركز الحلف وأفراده.
الاتفاقية الموقعة بين جمهورية كرواتيا ومنظمة حلف شمال الأطليس ( الناتو ) بشأن مركز الحلف وأفراده.
الاتفاقية الموقعة بين جمهورية يوغسلافيا الاتحادية ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشأن ترتيبات المرور في عمليات حفط السلام.
علينا أن نركز على العبارات التي تحتها خط، فالاتفاقيتان الموقعتان مع البوسنة وكرواتيا تتعلقان بالمركز القانوني Status للحلف على إقليمي جمهورية البوسنة وجمهورية كرواتيا، وكأنهما عضوان في الناتو إن لم نقل أنهما  دولتان وقعتا تحت احتلال الناتو. في حين نرى أن الاتفاق الموقع مع جمهورية يوغسلافيا الاتحادية يتعلق  بالعبور فقط لقوات الحلف وبخصوص عملية السلام تحديداً. ومن هنا يمكن أن نستنتج سبب عداء الحلف والولايات المتحدة لنظام الرئيس سلوبودان ميلوشتفيتش الذي رفض ان يفرط بسيادة بلاده.
وهناك مسألة لفتت إنتباهنا أثناء كتابة هذا المقال وهي أن هذه الوثائق الثلاث تم إيداعها لدى منظمة الأمم المتحدة ، فالاتفاقان المبرمان مع البوسنة ومع كرواتيا وقعهما الجانب الكرواتي والبوسني كك على وثيقته ولم يوقع عليهما ممثل الناتو إذ توجد عبارة ( عن منظمة حلف شمال الأكلسي – غير موقع) في حين رأينا توقيع الناتو ويوغسلافيا على الاتفاق المبرم بينهما. ولا نعلم سبب عدم توقيع الناتو على الاتفاقيتين؟ والأغرب من ذلك كيف قبلت الأمم المتحدة إيداعهما خلافاً للمادة 12 من معاهدة فينا لسنة 1969 لقانون المعاهدات التي تشترط توقيع الأطراف على كل وثيقة تودع لدى الأمانة العامة للمنظمة.
وفيما يتعلق بالملحق الخاص بالاستقرار الإقليمي فأنه يركز عل عملية ضبط تصنيع وحركة الأسلحة على أقاليم الأطراف الموقعة. ويبدو واضحاً أن هذا يقصد به جمهورية يوغسلافيا الاتحادية حصراً لان الجمهوريتين الباقيتين هما تحت السيطرة العسكرية المباشرة للحلف.
في حين تضمن التذييل الرابع (الاتفاق بشأن الحدود المشتركة بين الكيانات والمسائل المتعلقة به) فقد أعطي الحق المطلق لقائد الناتو تحديد الحدود بين الكيانات، إذ تنص المادة الرابعة الفقرة ب على أن “يكون لقائد IFOR الحق في تقرير التحديد الدقيق لهذه الخطوط والمناطق”. وهنا نلاحظ الصلاحيات الواسعة والمطلقة لقائد عمليات الناتو في البوسنة ليس فقط بالنواحي العسكرية بل في تحديد خط الحدود،  لذلك نرى العديد من (الألغام) التي وضعت لتأجيج الخلافات مستقبلاً وحين الطلب كوضع مدينة بريتشكو، والتي احيلت للتحكيم الدولي، ومدينة موستار والعاصمة سراييفو.
بالنسبة لاتفاقية الإطار العام  فهي تضم ديباجة وثمان مواد،وسنستعرض الآن تلك المواد، مع تسجيل ملاحظاتنا بشكل مختصرعلى كل مادة. فقد نصت المادة الاولى منها على ان الاطراف الموقعة ” ملتزمون بمبادئ القانون العامة مثل ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية هلسنكي والوثائق الأخرى لمنظمة التعاون والأمن الأوروبي …” . نرى من الناحية القانونية عدم الالتزام بوثيقة هلسنكي لعام 1970 التي ترتكز على عدم تغيير الحدود السياسية للدول الأوروبية. في حين أن الولايات المتحدة ودولاً من المجموعة الأوروبية جرت وراء مصالحها على حساب دماء الشعوب، فقد ساهمت بشكل أو بآخر من أجل تهشيم الدولة الاتحادية  من خلال دعم وتغذية العناصر والمنظمات الانفصالية، وتم التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، وأخذت تتعدد وسائل التدخل التي أستخدمت بشكل عجيب غريب وبطرق غير مسبوقة، على سبيل المثال أخذت ألمانيا وأمريكا ودول غربية أخرى توزع نفطاً مجانياً أو بأسعار رمزية للبلديات التي تفوز بها المعارضة في الانتخابات البلدية تحت شعار (النفط مقابل الديمقراطية)!. ناهيك عن التدخل السافر في الشؤون الداخلية الذي قام به  سفراء البلدان الغربية في بلغراد  وعلى وجه الخصوص الألماني والأمريكي. وزادت تلك الأنشطة حتى بعد القضاء على حكم ميلوشيفيتش. فعلى سبيل المثال حصلت الفضيحة التالية:
فضيحة بيريشيتش:( نموذج من معارضي ميلوشيفيتش)
في أحد مطاعم بلغراد الراقية – مطعم شاراتس- وبساعة منأخرة من مساء يوم الخميس 14/3/2003 اقتادت الاستخبارات العسكرية اليوغسلافية الجنرال مومتشيلو بسرسشيتش، نائب رئيس وزراء صربيا ورئيس حركة صربيا الحرة المعارضة لميلوشيفيتش وعضو البرلمان اليوغسلافي بعد السقوط والرئيس السابق  لقيادة الأركان العامة للقوات المسلحة اليوغسلافية، واقتادت معه دبلوماسي أمريكي يعمل بالسفارة الأمريكية في يوغسلافيا يدعى جون ديفيد نايبور وذلك بتهمة التجسس بعد أن وضع كيساً برأسه.
تم إطلاق سراح الدبلوماسي الأمريكي بعدما احتجز طيلة الليل بينما أخلت “الحكومة الخانعة” سبيل نائب رئيس الوزراء الصربي بعد ان احتجزه لدى الاستخبارات العسكرية حتى اليوم التالي.
وتبين فيما بعد أن بيريشيتش كان مراقباً منذ عام 1999 ولديه ملف في المخابرات العسكرية اليوغسلافية تحت شفرة (عملية النهب) حيث تم تكليف المخابرات من قبل قائد القوات العامة للجيش اليوغسلافي الجنرال دراغليوب أويدانيتش وذلك حسب الفقرتين 17 و 34 من قانون مكافحة التجسس والباب الرابع من الدستور اليوغسلافي. ( فيما بعد سقوط ميلوشيفيتش أصرت الولايات المتحدة على تسليم أودانيتش الى محكمة لاهاي بتهمة مجرم حرب).
وحسب صحيفة داناس الصادرة في بلغراد يوم 14/3/2002 فإن المخابرات العسكرية اليوغسلافية وجدت في حقيبة الدبلوماسي الأمريكي شريط فيديو يتضمن اجتماع قيادة الأركان وكذلك الشفرة (الجفرة) التي يستخدمها الجيش اليوغسلافي في مراسلاته السرية الخاصة.
ولقد ثبت لدى جهاز المخابرات العسكرية، وبالدليل المادي القاطع (صورة وصوت) أن نائب رئيس الوزراء باع أسرار الجيش للولايات المتحدة، إذ أن عملية تسليم الشريط وكذلك عملية إلقاء القبض تم تصويرها بشريط مرئي.
احتجت الخارجية الأمريكية رسمياً على هذه العملية بالقول إن حبس الدبلوماسي الأمريكي يعد فضيحة كبيرة مخالفة لاتفاقية فينا لسنة 1961 الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية ، وكذلك فأن حبس نائب رئيس الوزراء مخالف للقانون لأنه يتمتع بحصانتين الأولى أنه عضو برلمان والثانية باعتباره نائب رئيس للحكومة. وبذلك نرى أن الولايات المتحدة لم تحتج فقط على حبس دبلوماسيها الأمريكي وإنما تدافع عن بيريشيتش الجاسوس الذي يعمل لصالحها.
إن ممثلي الحكومتين الصربية والاتحادية (الخانعتان اللتان جاءتا بعد ميلوشتفيتش ) عقدوا اجتماعاً مشتركاً لمناقشة هذه الفضيحة. والأمر الغريب جداً حضور السفير الأمريكي وليم مونغمري هذا الاجتماع!!! وأخيرا تم لفلفة ً القضية  واغلاقها على أساس أن عقوبة التجسس وفق القانون اليوغسلافي تقضي بالحبس لمدة خمس سنوات كحد أقصى في حين أن الحصانة لاتحجب عن من يتمتع بها إلا بعد ارتكاب جريمة تكون عقوبتها أكثر من خمس سنوات!!! ولا نعلق سوى القول هل توجد جريمة أكبر من جريمة تجسس وتسليم الأسرار العسكرية من قبل جنرال الى دولة أجنبية؟
وتشير المادة الثانية الى ترحيب الأطراف بالترتيبات العسكرية للتسوية السلمية والمعاهدة الخاصة بالاستقرار الاقليمي وملحقاتها والمقصود بها تلك الاتفاقيات التي أبرمت بين الناتو وأطراف الأزمة البلقانية. أما المادة الثالثة فتنص على ترحيب الأطراف على ما جاء بالملحق رقم 2، ويقصد به الاتفاقيات الخاصة بسير خط الحدود الداخلية بين كياني البوسنة والهرسك وهما فدرالية البوشناك- الكروات من جهة وجمهورية سربسكا من جهة أخرى ( استعرضناهم أعلاه).
في حين أن منطوق المادة الرابعة يتضمن ترحيب الأطراف على الملحق الثالث والمتعلق بالانتخابات في البوسنة والهرسك. ويتمحور هذا الملحق حول تركيز الصلاحيات بشخص ممثل منظمة التعاون والأمن الأوروبي من خلال رئاسته (لجنة الانتخابات والمراقبة) حيث نصت المادة 3 الفقرة3 على أن …يتولى رئيس بعثة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي رئاسة اللجنة وفي حالة نشوء اي خلافات داخل اللجنة يكون قرار رئيسها قطعياً”.
وتضمنت المادة الخامسة من اتفاقية الِإطارعلى ترحيب الأطراف بشأن الترتيبات الخاصة بدستور البوسنة والهرسك الواردة بالملحق الرابع. وتضمنت هذه الاتفاقية كثير من الأمور العجيبة الغريبة مثلاً الفقرة 7 من المادة 1 أن لكل كيان حق إصدار جنسية باسم ذلك الكيان بالإضافة الى وجود جنسبة الجمهورية! وعلاوة على ذلك السماح بازدواجية الجنسية أي حصول مواطن البوسنة والهرسك على جنسية دولة أجنبية. وتبيح نفس الفقرة لكل كيان حق اصدار جوازات سفر الى جنب حق الجمهورية كذلك في اصدارها. إن هذا الوضع يعد وضعاً شاذاً لم تشهده قواعد القانون الدولي الخاص والمتعلقة بالجنسية ولم تعهده دساتير وقوانين دول العالم التي تنظم إصدار جوازات السفر. وهناك قيد على سيادة البوسنة والهرسك تضمنته المادة السادسة فقرة أ المتعلقة بالمكمة الدستورية حيث يختار رئيس المحكمة الدستورية ثلاثة أعضاء من أصل تسعة تشكل منهم تلك المحكمة ، ولم نجد في دساتير دول العالم وجود محكمة دستورية يشوبها عنصر أجنبي إلا في دستور البوسنة والهرسك. ومن الصياغات الغريبة في دستور البوسنة والهرسك ما جاء في المادة 7 فقرة 2 بان أول محافظ للمصرف المركزي يشترط به أن لايكون من مواطني البوسنة والهيرسك.
وتؤكد الاتفاقية الخاصة بالتحكيم بين الكيانين على التزام الأطراف بالمبادئ الأساسية التي تم اعتمادها في جنيف بتاريخ 0/9/1995.
أما الاتفاقية المتعلقة بحقوق الإنسان فقد نصت الفقرة 4 من المادة 2 على أن رئيس منظمة الأمن والتعاون الأوروبية هو المختص بتعيين أمين المظالم على أن لايكون من مواطني البوسنة والهرسكأو أي دولة مجاورة. ويستطيع أمين المظالم (الأجنبي) الوصول الى أي وثيقة سرية في البوسنة والهرسك وله الحق في فحص أي ملف إداري أو قضائي وله حق استدعاء أي شخص أو مسؤول في الحكومة. وفي رأينا أن هذه المظاهر تعد قيداً على سيادة البوسنة والهرسك. أما لجنة حقوق الإنسان التي تعنيها هذه الاتفاقية بموجب الفقرة 2 من المادة 6 تتالف من 14 عضواً ستة منهم من مواطني البوسنة واليرسك في حين الأعضاء الثمانية الآخرين من الأجانب يعينهم الاتحاد الأوروبي ويكون رئيس اللجنة من بين هؤلاء الأعضاء الأجانب. وفي رأينا أن موضوع حقوق الإنسان بموجب هذه المعاهدة عبارة عن تشكيل سياسي جله من رعايا دول الناتو يتمتع بصلاحيات واسعة وتحميه الحصانة الدبلوماسية يستطيع أن ينكل بأي شخص لا يؤيد سياسة الحلف في البوسنة والهرسك.
 . أما المادة السابعة من المعاهدة فأنها تكرر ترحيب الأطراف بالترتيبات التي تضمنها الملحق السادس والخاص بحقوق الإنسان وكذلك الترحيب بالملحق السابع الذي يتضمن النصوص المتعلقة باللاجئين والمشردين قسراً.ولا نعلم ماهي الحكمة من صياغة هذه المادة لأن فحواها موجود بشكل صريح في المادة التي سبقتها أي المادة السادسة التي اشارت الى الملحقين السادس والسابع.
 ويؤكد منطوق المادة الثامنة على ترحيب الأطراف بما جاء في الملحقين العاشر والحادي عشروالخاصة بالتنفيذ المدني (غير العسكري) للتسوية السلمية وكذلك فيما يتعلق بقوة الشرطة الدولية. وأشارت المادة التاسعة الى تعاون الاطراف تعاوناً كلياً من أجل تنفيذ التسوية حسبما جاء في ملاحق الاتفاقية أو حسبما يصدره مجلس الأمن الدولي. وكذلك التزام الأطراف بالتعاون في سبيل اجراءات التحقيق والمحاكمة الخاصة بجرائم الحرب أو خروقات القانون الدولي الإنساني . ولو تفحصنا هذه المادة لم نجد فيها شيئاً جوهرياً يستحق أن تخصص له مادة مستقلة وإنما الجمل الواردة في هذه المادة عبارة عن تكرار لما جاء في المواد التي سبقتها. فالعبارة الأولى تتعلق ” بتعاون الأطراف تعاوناً كلياً مع جميع الجهات المعنية المختصة بتنفيذ التسوية السلمية” وقد جاء ذلك في المادة الثامنة التي سبقتها. أما الجزئية الثانية المتعلقة في ” التزام جميع الأطراف بالتعاون في سبيل اجراءات التحقيق والمحاكمة الخاصة بجرائم الحرب” فقد وردت أيضاً ضمن المادة الثامنة وبصيغة ترحيب الأطراف ” بقوة الشرطة الدولية” والتي هي بالأساس تتعلق بعمل محكمة لاهاي ومطاردة المتهمين بخرق القانون الدولي الإنساني.
وجاء في المادة العاشرة موضوع تبادل الاعتراف بين جمهورية يوغسلافيا الاتحادية وجمهورية البوسنة والهرسك ومع التأكيد أن جمهورية البوسنة والهرسك دولة مستقلة ذات سيادة ضمن حدود دولية.
ولم نجد مبرراً لهذه المادة لأن واقع الحال يشير الى وجود مفاوض أمام وفد مفاوض مقابل يبرم معه معاهدة دولية وهذا يعني من الناحية العملية لا تشكل مسألة الاعتراف عقبة رئيسية في صنع السلام المنشود. ومن جهة أخرى يمكن أن نسأل عن عدم وجود مادة خاصة باعتراف متبادل بين جمهورية كرواتيا وجمهورية البوسنة والهرسك، أو باعتراف متبادل بين جمهورية يوغسلافيا الاتحادية وجمهورية كرواتيا من جهة أخرى. فلو كان موضةع تبادل الاعتراف على درجة من الأهمية فينبغي أن يكون لجميع الأطراف الموقعة على المعاهدة، وبرأينا أن الاعتراف بشكليه الضمني والصريح قد تم بمجرد الاتفاق والتوقيع على المواد الثمان التي سبقت هذه المادة. لذا لا نرى وجوباً أو مبرراً لتدوين هذه المادة  سوى لجوء الجانب الأمريكي نحو طمأنة الوفد البوسني.
ونرى تدليساً واضحاً ورد في نص المادة الحادية عشر التي تشير الى أن الاتفاقية ” أبرمت في باريس في 21/11/1995 وباللغات البوسنية والكرواتية والإنجليزية والصربية”. نحن نستغرب من هذا النص لعدم وجود لغة بوسنية ولغة وكرواتية ولغة صربية، وأما هذه فهي لهجات تعود للغة واحدة نطقاً وقواعد. ومن يجيد الصربو – كرواتية أو الكرواتو – صربية سوف يستهزئ من هذا النص استهزاءً كبيراً.
وعند الرجوع الى النصوص المكتوبة بـ (اللغات) الثلاث سوف لن يجد القارئ أي فروق بالنطق فيما عدا  النص الكرواتي الذي يختلف وبشكل مصطنع في تسمية الشهور، فعلى سبيل المثال أن شهر أكتوبر كتب بالنص الكرواتي (Listopad) وهذه التسمية في كل (اللغات) تعني شهرسقوط أوراق الشجر. وكان ينبغي ان يكتب التاريخ بالأرقام دون اللجوء الى تحرير نص بالكامل لمعاهدة على أساس انها كتبت بلغة أخرى. أما القول بوجود لغة بوسنية مستقلة فهو أقرب الى الكذب والضحك على الناس وعلى المكشوف لأن لغة أهل البوسنة بكل طوائفهم الدينية الرئيسية هي اللغة التي يتكلم بها عموم اليوغسلاف، فلغة أهل سراييفو هي نفسها لغة أهل بلغراد وكذلك لغة أهل زاغرب نطقاً وقواعد، والفارق الوحيد الذي يمكن التنويه إليه هو أن الصرب يكتبون بأبجديتين لاتينية وتشيريلسية. ونلاحظ من منطوق المادة الحادية عشر ترتيب مقصود لتلك (اللغات) المزعومة، فقد تم حشر الإنجليزية لكي تفصل بين البوسنية والكرواتية  من جهة والصربية من جهة أخرى حيث وردت هكذا ” …وباللغات البو سنية والكرواتية والإنجليزية والصربية مع اعتبار النص في جميع هذه اللغات ذات أصالة متساوية. ولا نعلم لماذا حشرت الإنجليزية بين اللغات الثلاث المزعومة إلا اللهم إذا أخذ بنظر الاعتبار ترتيبها حسب الأبجدية. ولكن هذا النص يوحي للقارئ بان الفرق بين البوسنية والكرواتية كالفرق بين اي واحدة منها مع الإنجليزية.
وفي رأينا أن وجود هذه المادة وبهذه الصيغة يعتبر دليلاً واضحاً على نية مهندسي دايتون بتعميق التفرقة والخلافات بين أبناء اللسان الواحد وخلق حواجز نفسية مفتعلة يصعب تجاوزها على المدى الزمني البعيد.
ومن المفارقات الكبيرة في ظل عالم العولمة أن الولايات المتحدة الأمريكية ودعاة عولمتها يرغبون في إيجاد ثقافة عالمية تذوب فيها الثقافات المحلية وتتلاشى في ظلها الحدود ويضمحل بموجبها مفهوم السيادة، فكذلك الوحدة الأوربية التي تحاول دمج الكيانات الأوروبية المختلفة ضمن بوتقة واحدة تبدأ بالاقتصاد وتنتهي بالقيم السياسية.ولكن المفارقة الكبرى تكمن في التصرف الأمريكي الأوروبي تجاه يوغسلافيا السابقة التي تعمق التمزق فيها، فهي من جهة تصر على عدم تعايش القوميات اليوغسلافية الثلاث الرئيسية (عملاً بتقرير بادنتير- رئيسالمحمة العليا الفرنسية السابق) مما يعني ضرورة التجزئة ولكن في نفس الوقت لاتطبق هذه النظرة على البوسنة والهرسك التي تضم نفس الأعراق، أي تحتم تمزق يوغسلافيا لسبب وترغم على توحيد البوسنة دون النظر للسبب الذي طبقته على حالة أخرى.
لقد نجحت إدارة بيل كلنتون في تمرير اتفاقية دايتون التي هلل لها حزب بيغوفيتش، ولكن الولايات المتحدة تركت البوسنة تتخبط في حالة الفقر دون أن تحقق لها الجنة التي وعدتها في إقامتها بالبوسنة والهرسك مما جعل جماعة بيغوفيتش يجهدون أنفسهم من أجل التخلص من أحكام هذه الاتفاقية ولم تتوفر عندهم الحكمة من قبل لكي يشعروا بأن اتفاقية دايتون جاءت مفصلة على قياس الولايات المتحدة ولا علاقة لها بازدهار البوسنة والهيرسك.
 وأخيراً نقول شرور اتفاقية دايتون تعدى حدود البوسنة والهيرسك ليشمل العالم كله،  فقد شرعنت هذه الاتفاقية الى أن :
يتصرف حلف الناتو كجندرمة دولية يستطيع التدخل في شؤون أي دولة بالعالم وبحجج ومبررات يختلقها على مزاجه خلافاً لميثاق الأمم المتحدة.
أصبح حلف الناتو يتصرف باسم المجتمع الدولي.
أصبح حلف الناتو بديلاً عن مجلس الأمن الدولي. ويحق له استخدام القوة في العلاقات الدولية دون الرجوع الى المجلس باعباره الجهة الوحيدة المخولة بذلك بموجب الفصل السابع من الميثاق (كما حصل في كوسوفو فيما بعد).
أصبح باستطاعة حلف الناتو أن يرفع حصانة أي مسؤول في أي دولة من دول العالم بما فيهم رؤساء الدول في الوقت الذي لايحق لأي جندي أمريكي يمثل أمام قضاء أجنبي في حالة ارتكابه جريمة عل إقليمه.

* الخبير الأكاديمي في شؤون البلقان