” لنتذكر دائما..أن تبرير- مجرد تبرير- أي ميل واتجاه لفرض الآراء القطعية،وهيمنة سلطة ثقافية واحدة، سيقود إلى ديكتاتورية اشد مما ذقنا “
” قاسم عبد الأمير عجام/ من حوار أجريته معه على هامش مهرجان المربد الأول/ عام 2004 “
في صباح 17/أيار/ عام 2004 استهدف رصاص القتلة الأوغاد ،بتخطيط وترصد مسبق، ” قاسم عبد الأمير عجام ” الكاتب والناقد والمثقف العراقي- التقدمي الذي لم يتلوث بمآدب ومغانم و”مكارم” النظام الفاشي المنهار، ولم يهادن أو يساوم أو يتلاءم مع توجهات السلطة القمعية المنحلة، ورموز ثقافتها الذين عملوا على إشاعة ثقافة الخوف والولاء المطلق والعبودية للفرد الحاكم . وبقي مترفعاً بإباء،على الرغم، من الحرمان والمكابدة اليومية والشكوك الأمنية المتواصلة التي أحيط بها ، ومنع من الترقي الوظيفي مع ما يتناسب واختصاصه في كل مؤسسات دولة العراقيين ، وهو الحاصل على (الماجستير) بامتياز بالعلوم الزراعية و من جامعة بغداد في بدايات سبعينيات القرن المنصرم ، وبقي وفيا لذاته المجبولة على الترفع و الابتعاد عن التكسب الرخيص والارتزاق مع جوقات الطبالين ، مبرري جرائم القسوة والوحشية والعنف و تواصل الحروب ، وحسم انحيازه إلى القيم التقدمية والثوابت الوطنية- الديمقراطية في سلوكه وتوجهاته الثقافية ومنهجه العلمي ودأب في كتاباته كشف الحقائق وإيصالها للقراء-البسطاء بالذات-عبر لغة مطواعة عميقة ثرة.
في السبعينيات وفي جريدتي “طريق الشعب” و” الفكر الجديد” ومجلتي “الثقافة الجديدة” و” الثقافة” أحدثت متابعاته النقدية اللامعة المتواصلة للدراما والسهرات التلفزيونية والمسرحيات العراقية ، هزة في الوسط الثقافي “الحكومي-السلطوي” ، الذي بدأ بتسويق خطاب منهاجه السياسي عبر ثقافة السلطة القامعة ورثاثته وتدنيه في وسائل إعلامه و مهيمناته الحزبية دائمة النزوع لتبرير فظاظة الواقع المعيش والدفاع عن ” الفحولة” والزعامة الفردية المتوحشة التي تجبرت حتى أخضعت العراق لسيطرة سلطة العشيرة “الخالدة” وتكريس العائلة الصدامية “المقدسة ” وتوجهاتها القروية المتخلفة وسلوكياتها الفظة بطريقة وثنية . لقد انطوى المنهج النقدي التطبيقي لـلناقد والكاتب “قاسم عبد الأمير عجام” على أصالة الكاتب النقدي والمثقف العلماني المتمسك بالثوابت المبدئية في بحثه عن الحقيقة ونسبيتها والاحتفاء بها وتقديمها لمعايشي تلك المرحلة الملتبسة، وكشف في متابعاته وكتاباته الكثيرة، زيف وادعاءات التوجهات المتلفعة برداء” الفكر القوموي” مدعي العلمية وبقي يبحث عما يكمن خلف الثيمات والأحداث والرؤى والشخصيات الدرامية واستجاباتها ومواقفها، بعيدا عن توجهات فكر السلطة وإغراءاتها. لم يبحث أو ينهج “قاسم عبد الأمير عجام” في كتاباته عن المعاني المجردة الباردة ولم يلهث خلف”الموضة” أو الصرعات الحداثوية . لقد عانق العقل وفعل نظرته ورؤاه التقدمية للواقع العراقي وصيرورته ، متميزا بدقة وكثافة الملاحظة والاستدلال في النظر والأحكام مستثمرا في ذلك فكره التنويري الوقاد وثقافته الراقية بقدرات نقدية مهنية متميزة وعمل في كتاباته ومتابعاته الثقافية -الاجتماعية المتنوعة على كشف ما هو ملتبس وغائم ومغيب من خلال منهجية التحليل وأسئلته لاستنفار معارف القارئ-المشاهد وتجاربه وتشغيل مخيلته على أن ثمة ما هو أبعد مما رأى أو سمع في تلك الدراما أو السهرة أو التمثيلية أو العرض المسرحي وعليه تفعيل معارفه وعقله و ذاته لاختراق ما مسكوت عنه، ولاستنطاق الأحداث والأفكار وصمتها المفروض من الخارج ، ومن الصعوبة بلورتها بوضوح أو الاقتراب منها عندئذ ،لأسباب كثيرة ،في الصميم منها ، قوة الاستبداد والتعسف و والتواطئات السياسية مع الحزب الحاكم ، التي ميزت مرحلة السبعينيات وأجهزت على توق الإنسان العراقي للحرية والعدالة والتقدم والحداثة الاجتماعية وهو في بدء توجهاته و تطلعاته المشروعة تلك ، وعمل طبالو ومروجو سياسة الحزب الحاكم على وأدها مكرسين توجهات ومكونات قادته وقيمهم القروية المتخلفة الرثة الجرداء بطريقة تحكمية رسمية سلطوية نفعية . لقد عمل الشهيد” قاسم عبد الأمير عجام” برؤيا واقعية مسؤولة متجددة في ضرورة تفعيل التمتع بالحرية والدور الاجتماعي الذي يؤديه وينهض به الكاتب والمثقف الوطني التقدمي بعد انهيار نظام القمع البعثي الوحشي..وما استجابته للخدمة العامة، مع تلمسه المخاطر الشخصية المترتبة على ذلك بسبب غياب منظومة الأمن الوطني العراقي الفعال ..فاستجاب وبحماس لمرحلة ما بعد السقوط من خلال انتخابه الديمقراطي لإدارة ناحية”جبلة ” في الحلة ، ورئاسته وبالانتخابات أيضا لاتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في بابل إلا الدليل الأكيد في توجهه للخدمة العامة.. نائيا عن كل مطمح او تكسب رخيص خاص.. وكان اختيار وزارة الثقافة له (مديرا عاما لدائرة التأليف والنشر) مبعث فخر وآمال الأدباء والكتاب والمثقفين العراقيين عند ذلك الوقت الصعب والحساس ، وهو تجسيد فعلي للشخص المناسب حقا..في المكان المناسب فعلا.. كان استشهاد العزيز(أبي ربيع)، الوادع، الدمث، النزيه، الشفاف ،برصاص الحقد والكراهية والجريمة إصابة وخسارة للثقافة الوطنية – التقدمية العراقية..ومازال ذلك مستمرا، مستنزفا علماء وكفاءات وكتاب وأدباء وصحفيي العراق بالقتل أو دفعهم للصمت والانزواء أو الهجرة..وسيترك ذلك، وغيره من المخططات المشبوهة ، خدوشا بارزة في النسيج العراقي الثقافي- الوطني وتوجهاته التقدمية، وهو يحاول النهوض الجديد والتشكل بعيدا عن الإلغاء والعسف والبطش والاستبداد المقنع بركام الرؤى والممارسات الظلامية المتخلفة التي تجتاح الشارع العراقي حاليا.. “قاسم عبد الأمير عجام” سيبقى ،مع غيابه ، دفقا وعقلا نيرا في سفر ثقافة الوطن العراقي ،القادم ،الناهض، من رماد الحروب والجوع والمفخخات والاغتيالات والمليشيات وفرق الموت المتجول وكواتم الاصوت تحت أي رداء كان وأي مسمى اتخذت ..وسنظل نفخر بمعرفتنا بالصديق “قاسم” الذي استشهد وهو يحمل في عقله وقلبه وسلوكه اليومي ، القيم الإنسانية الأصيلة الرفيعة التي جُبل عليها و لم يهادن فيها أو يتخلى عنها قط.
ــ هامش للحزن من اجل صديقي” قاسم عبد الأمير عجام”:
” كلما خضت في تاريخ هذه الهجمة الهمجية الكبرى..وددت لو أن البشرية لم توجد على هذه الأرض..لأن همجية الإنسان معززة بوجود العقل المدبر، يفتح أبواب الخيال والفعل الإجرامي على مصراعيها../ هادي العلوي/ “.
* كتاب حمل هذا العنوان/ إعداد الدكتورة نادية غازي العزاوي