ابتداء للكيفية التي يفترض ان يلقى بها القبض على صدام -إثر اغراء أقربائه او المقربين منه بالمال ليدلّوا على مأمنه -أهمية كبيرة لدى امريكا وللأمانة فأمريكا نفسها لايعنيها صدام بشيء فهي اكبر من تأثيره بكثير ولكن لدى اسرائيل مدللة امريكا ، للأمر اهمية بالغة و الى حد ما لدى ايران ،و سأبين ذلك ولكن قبله لأعرج قليلا على ماقبله .
الرجل على مدى ثلاثة عقود ملأ الشاشات العربية والمؤتمرات الدولية والشوارع والقرى والمدن العراقية هيبة له و رعبا من شخصه و خوفا من بطشه ، هذا لمن يطالهم قانونه وتصل اليهم سلطته وهؤلاء هم العراقيون جميعا دون استثناء او رحمة حتى ابنه و صهره (تستثنى النساء والاطفال فقط) طبقا لأعرافه، أما الابعدون فلم ينلهم منه الا نفعه-في حياته أقصد-مابين دعم للعمالة العربية من اموال العراق وفرص العمل فيه للملايين من اقطارهم المختلفة وهذا حسن محمود ، وللطلبة الجامعيين الوافدين منهم حيث المعاملة الاستثنايية التي جعلتهم كمثل حال ابن البلد او اكثر -وهذا هو الفعل الصحيح طبعا وهي من حسناته أيضا- و ما بين دعم القضية الفلسطينية بشكل جلي و ايوائه مجاميع كبيرة منهم في مساكن محترمة وبامتيازات مواطنة خاصة ، وحربه الفعلية ضد اسرائيل مجتمعا مع اخوانه العرب ثم قصفه لها بالصواريخ منفردا، كل هذا اكسبه محبة عند العرب زادتها الكارزما التي يتمتع بها رسوخا في نفوسهم ، ايضا دعمه للدول الفقيرة حول العالم واستخدامه شعارات-تبدو لنا مجوفة ولكنها تركت علامة في ضمائر العوام منهم وكثير من نخبهم غير المطلعة على خبايا الامور ، ثم تحديه للامبريالية بل وحتى استعادته الكويت المقتطعة من العراق -في قناعته-بواسطة ضمها بالقوة العسكرية كان له اثر ايجابي عند الشعب العربي رغم كونه خطا ستراتيجي في توقيته وتنفيذه ،
كل هذا كان لابد له الآن -في توقيت القبض-وقد سقط نظام الرجل وانهار سريعا ، ان يمسح من الذاكرة الجمعية العربية بالدرجة الاولى والعالمية ايضا على مستوى حكام الدول الثانوية الطامحين بالمجد او القوة
فتستبدل صورة “المهيب المخيف القوي” الى صورة رجل ظهر انه من ورق و انه كان يمثل على الناس ويكذب عليهم متصنعا الشجاعة والاقدام.
و إذن كان لابد من فبركة طريقة القبض عليه وهذه هي الفرصة الاخيرة والكبيرة ، و فن التسقيط هو فن متقن عند الدوائر العالمية ، كما هو فن التمجيد وصناعة الابطال ، (انظر مقالي :صناعة الابطال المزيفين ؛ مصطفى اتاتورك وجمال عبد الناصر) ، فصناعة التسقيط ايضا مهمة وضرورية ، انظر مقالي (تسقيط الرموز الاسلامية؛ هارون الرشيد و سليمان القانوني).
و قد أحسن الخبراء الهوليوديون انجاز الامر فعمدوا اولا الى حجز صدام بعد القبض عليه -وهذا ضد الأعراف كونه أسير عسكري ومحارب- لمدة كافية لإطالة لحيته وشعره -الذي لم يكن صدام المعروف باعتنائه بمظهره لما لذلك من تأثير في جمهوره- ليتركها بهذه الهيئة التي روجت صوره الاولى بها فلايمكن عقلا لشخصية كهذه ان يهمل وجهه وشعره ولحيته هكذا ولو كان الموت على بابه ، ولا يحتاج اثبات قولي هذا اي دراسات انظر فقط لصورته في المحكمة والزنزانة بل وقبل اعدامه بساعة، وستميز كل شيء ومن هو هذا الرجل.
فإذن عملية فبركة القبض على صدام وتشويه صورة شكله بتخديره والتقاط صور له في هيئة يبدو فيها بشخصية مغايرة تماما هو المطلوب و هو الحل لمحو صوره السابقة التي رسخت في ذهن كل عربي يجل القوة والهيبة والعنفوان وهذا طبع العوام العرب ، بل و كثير من ثوريي العالم.
فكان لهذه العملية المتقنة المدروسة بعدان :الاول آني ووقتي تتطلبه الاحداث على الارض آنذاك وهو كسر حماسة المقاومين الذين اشعلوا ارض العراق تحت اقدام الجيش الامريكي من اتباعه الذين يستلهمون خطبه و صور شجاعته وقيادته ومعهم الوطنيون غير المتحمسين له.
والثاني دائمي غايته كسر هيبته والاساءة الى تاريخه في نفوس العرب على المدى الطويل لئلا يكون رمزا للاستلهام و منطلقا لايديولوجية عربية جديدة ضد اسرائيل او مع التحرر من هيمنة الحكام العملاء القائمين على ترسيخ مكانة امريكا في نفوس شعوبهم.
و الحق ان خطتهم في الفبركة كادت لتنجح وتؤتي أكلها بعد ان روجوا الصورة التي كان مخدرا بها وتركوه بلحيته الكثة دون ان يشعر وهو معروف -كما اسلفنا- باعتنائه بمنظره ذي الهيبة الذي كان يعتمد عليه كثيرا لبث المحبة والتعلق عند العوام والاحترام والرهبة عند الخصوم ، فانه وان كان من غير المعقول ان يطيل لحيته او يترك منظره هكذا ، لكن العوام لاتميز في تسارع الاحداث.
اقول كاد هذا الامر ان ينطلي على الناس ومحبيه العرب فضلا عن العراقيين فينفضوا من حوله ولايشكل رمزا فيتحقق مرادهم
ولكن شاءت الاقدار وبخطأ كانوا مجبرين عليه ان يسجلوا له قسما من جلسات المحاكمة -و ماخفي اصدق دون شك- فتبددت الاوهام وانكشفت حقيقة عنجهيته عندما كان يهين القاضي ويحرج المدعي ويتلاعب باعصاب المحكمة والامريكان ، حتى لقد غيروا اربعة قضاة لتأثيره عليهم وارتباكهم امامه ومنهم قتلوا باوامر اصدرها لاتباعه عبر الاشارات تلفزيونيا.وكذلك ما رواه محاموه والامريكان انفسهم بعد ذلك في مذكراتهم اذ اظهروا صدمتهم من كمية الثبات الذي لديه امام اعدائه الذين يحاكمونه .
والخلاصة ان هذا الرجل لو انقلب عليه الشعب وشنقه لكان نسيا منسيا-وهو استحقاقه عندي وعند كل ناصر للحرية ومحارب للفردية والتسلط والاستبداد والتهور السياسي وحكم المزاج والطيش-، لكن أراد الله أن يشنق على يد الصليببين وكما قالها بوش علنا، والهمه الله تعالى بنطق الشهادتين على الملأ -لانعرف لماذا-وبيده مصحفه الشخصي. فترى الناس تترحم عليه في كل حين.، هذه إرادة الله.
وانظر الى ملايين العرب والمسلمين اليوم كيف يستذكرونه ويسمونه اسد العرب او صقر العرب او قائد الامة او ما أشبه هذا ، وقد طغت سمعته ومحبته في قلوبهم على كل من قبله ممن يمجدون من الزعماء ، بل حتى الأوربيين -وهذا لم يحصل مع قائد عربي آخر في العصور الحديثة- فهم يمجدون في شخصه ومايحمله من عنفوان وكارزما ،
ولكل هذا ولدراسة عميقة من خبراء العلم النفسي البشري قرر الامريكان تشويه تلك الكارزما ومحو تلك الصورة و انساء ذلك التاريخ بالتاثير في مخيلة الفرد العربي و إفهامه ان صدام ما هو “الا رجل اشعث الراس طويل اللحية منكسر، و انه سلم نفسه لعدوه وانه في جحر او حفرة وماشابه مما يؤثر في انطباع من يسمع او يرى”.
لكن عواقب الامور عادت عليهم بالخسران فجلسات المحاكمة ومشهد الاعدام الذي تسرب ومقابلة الموت التي لايمكن عندها التصنع اثبتت من هو صدام الذي نكره . انه صورة حية للرجولة والشجاعة والثبات . هذا مالايمكن ان ننكره او نجادل فيه . ولهذا فبركوا اسره و شوهوا صورته. ولو كان شيء حقيقي من ذلك لنشروا فديو عنه وهم يقبضون عليه وهو يتحرك او لمقابلتهم له وكلامهم معه اولى اللحظات فلاشك انهم وثقوها ، فقد كانت كاميراتهم معهم طول الوقت استعدادا للحدث التاريخي ، ولكنهم اكتفوا بصورة فوتوغرافية يتيمة استطيع ان اصنع مثلها عشرات لعنترة بن شداد وهو نائم او فاقد الوعي،
فانا لا اصدق استطلاع معهد كلوبال الاسرائيلي بأن صدام اشجع رجل في القرن و لاتعنيني هذه الترهات فللشجاعة أبعاد اخرى و قيم لم يطلها الرجل ولاتعنيه -وقد كتبت مقالا يفند ذلك- ولكني اصدق عيني وعقلي ، فكيف يكون قانونا ان منفذ الاعدام متنكر و المعدوم مكشوف الوجه ثابت النظرات ، وكيف يكون الجلاد خائفا يرتجف -كما راينا بأعيننا- والضحية بهذا الثبات والجراة ، وربما تسريب هذا الفديو ايضا من ارادة الله ،فقد ساهم قطعيا بتفنيد مزاعم القبض عليه بالصورة المروجة ،
واذن فبعيدا عن احصائبة غلوبل وبعيدا عن كرهنا له واعتراضنا على افعاله في حقبته ، وبعيدا عن الكتاب الذي اصدره برايمر و توم فرانكس وكتب اخرى ومقالات للامريكان تروي اساطير عن شجاعته ،
صدام أخذ من الدنيا ما اراد وملأها لنفسه مجدا و صيتا ، وفشل ونجح ، وشبع من ملذاتها وذاق من عذاباتها ، وعاشها طولا و عرضا ثم ذهب الى رب كريم وافضى الى مايستحقه هناك.و بقي أمامنا-شاخصا-فديو اعدامه ونظراته قبل لحظات الموت ، فهل يمكن عقلا لمن يواجه الموت بهذه الوقفة الاسطورية والنظرات المرعبة
ان يقع اسيرا بيد اعدائه بالشكل الذي اظهروه -بصورة فوتوغرافية فقيرة- على شاشات التلفزيون.!