في جيب كل منا جاسوس يحصي أنفاسه

في جيب كل منا جاسوس يحصي أنفاسه

كان يُفترض أن التكنولوجيا استُحدثت لترفع عن الإنسان أغلال الجهل والعزلة وتجعل حياته أسهل. لكنها في الواقع أعادت تشكيله ككائن مراقَب، مُصنَّف، ومستهدف، لا فرق عندها بين من ينشد العدالة ومن يتجوّل في سوق مزدحم.
الهاتف الذكي، جهاز ظننا أنه باب إلى العالم، لايفارق يد كل منا، فبه نتصل ونتواصل ونطلع ونمضي اوقاتا غير محسوبة.
دون ان ندرك انه باب يغلق علينا كل الأبواب بكبسة زر. الخوارزميات تمشي معنا حيث نكون وتعرف أين نسكن، وإلى أين نذهب، مع من نلتقي، ماذا نكتب، وربما ماذا نأكل ومتى ننام ومتى نستيقظ. حتى صمتنا الرقمي، يُفسّر كإشارة على محاولتنا الاختفاء من العدسة وقد نصبح هدفًا للرقابة المضاعفة.
لسنا في زمن شفافية!
بل في زمن أنظمة ترى الانسان “رقمًا قابلًا للتحليل” جهات أمنية، شركات رأسمالية أجهزة مخابرات دولية، دول تُخفي رقابتها في لبوس المساعدة التقنية.
كل هذه الجهات تجمع المعلومات تحت شعار “تحسين تجربة المستخدم” احيانا وفي أخرى تبيع البيانات تحت عنوان “تسويق موجه” وتخترق الخصوصية بحجة “الأمن القومي”.
والنتيجة؟
الإنسان محاصر من كل الجهات، حتى وإن حمل الموبايل في جيبه دون أن يفتح الشاشة، فالجاسوس يعمل بصمت وهو في جيبه.
في السنوات الأخيرة، رأينا كيف تحوّلت تقنيات الاتصال والذكاء الاصطناعي إلى أدوات تصفية واغتيال، حيث أُنجزت عمليات فائقة الدقة ضد شخصيات مؤثرة في جنوب لبنان وإيران والعراق، باستهدافات دقيقة يُرجَّح أنها استندت إلى تقاطع بيانات الاتصال والموقع والتعقّب الرقمي.
هنا لم تكن التكنولوجيا وسيطًا معلوماتيًا فحسب، بل كانت ذراعًا فاعلة في جرائم تصفية غير مبررة تمت بصمتٍ تكنولوجي مرعب لا يُصدر صوتًا إلا في لحظة النهاية.
لاشك أن التكنولوجيا ليست شرًا بذاتها، لكنها انعكاسٌ لأخلاق مستخدميها، فالذكاء الاصطناعي لا يعرف الخير والشر، لكنه يطبّق ما يطلب منه الوحش البشري دون ان يملك القدرة على الامتناع او المساءلة. وما يُطلب منه – في أغلب الحالات – هو التعقّب، التصنيف، والإقصاء الأبدي.
إذا أردنا أن نحمي الإنسان من تحوّله إلى كائن مرصود، يجب أن نعيد تعريف التقدّم، فليس كل تطوّر نعمة، وليس كل ابتكار حرية، وليس كل ذكاء خيّر.
الوعي الفردي بخطورة التقنيات الحديثة يجب ان يكون هاجسا لكل شخص حتى لا يكون ضحية الرصد والملاحقة التي قد تصيبه في الصميم.
الثقافة الرقمية المقاومة، وتشكيل شبكات حماية معرفية لا تُراهن على حسن نية أحد، بل تُحصّن الذات قبل أن تُستباح، أمر بالغ الأهمية في زمن بات فيه المتلصصون عبر الموجات الطويلة يراقبون الناس في كل شاردة وواردة.
ولعل أخطر ما يمكن أن نفعله، هو أن نطمئن للتكنولوجيا، ونُسلم لها مفاتيح وجودنا دون مساءلة، فالمستقبل لن تُحدّده سرعة التطوّر، بل يقظة الإنسان أمام ما يُصمَّم له بهدوء وبلا ضجيج.

أحدث المقالات

أحدث المقالات